حينما جئتها زائراً بعد أكثر من ثلث قرنٍ تراءت على كلسها المتداعي ذبالاتُ وجهي البعيد وأسمال ذاك الجدار الذي كان متكأي في الزمانْ الغيوم على حالها في الأعالي، المقاعد لما تزل حيث كانت وحوض الزهور القديمة لما يزل حيث كان كلُّ شيء بدا مثلما كان من قبل، حزن المداخلِ أعقاب فوضى النهاراتِ، أفئدة العاشقين القدامى التي تتفتح كالعشب بين الممرات، حتى الهواء الذي ابيضَّ فوداهُ تحت السقوف المسنَّةِ ما زال يحفظ عن ظهر قلبٍ تهدّج صوتي على منبر الشعر، أو صورتي، مفعماً بالوعود الفتيّة، في زحمة المهرجانْ بقع الوقت سابحة كالحمائم في الضوءِ فيما، ودون اكتراثٍ من الطالبات اللواتي عبرن مصادفة في الجوارِ مضت قطةٌ عند زاوية الثكنةِ العسكريةِ من جهة الغرب، ترمقتي بارتيابٍ شديدٍ كأنْ هي تحرسُ روح المكانْ وحيداً قبالة تلك الحياةِ التي هدرتْ في صباي المبكِّر، عتَّمت كالبئر مجرى حنيني العليل وأطرقتُ أصغي الى ما تلألأ من شهوتي فوق أعتى المياه اشتعالاً، هنا حيث كانت تسيل الصباحاتُ خضراء فوق المواعيد، والشمس تصهل في الأفقِ مثل الحصانْ راح موجٌ كثيف الصباباتِ يعدو بأقدام من خرجوا للتظاهرِ من أجل أن تصبح الأرض أطهر من صرخة امرأةٍ في المخاضِ ومن أجل أن تصبح الريحُ مسقوفةً بالموسيقى ومكسوَّةً بالحنانْ بينما تمعن الروح حاسرةً في اختلاجاتها كدتُ في لحظةٍ مثل لمح البصرْ أن أمزِّق أحشاء هذا السكون المدوِّي لألتمس النبع يجري زلالاً بتفاح تلك السنين المصفَّاةِ، بالذكريات التي تتمايل كالغصنِ فوق الأسابيع، أو باغتلام النهود التي راح يقطر رمانها الفجُّ من حلمة الريحِ قبل الأوانْ كدت أن أتلمَّس في الصمتِ أنفاس تلك الفتاة التي كنت قبَّلتها خلسةً في الطريق الى حصة الأدب الجاهليِّ، الأغاني التي تتواثب مثل النوافيرِ في ظلمة الرأسِ، أضغاث ما هشَّمته الأعاصيرُ مثل الزجاجِ على مدخل الكافيتيريا المزدحمْ برائحة القهوة الأبنوسية اللونِ أو ما تخثرَّ بين الفناجينِ من صوت أسعد * قبل الصعود الى موتهِ مثل رتلٍ من القهقهات الطويلةِ في أوج حرب الجبلْ هنا تحت أعمدة المبنيينِ اللذين أشاحا بوجهيهما عن تبدُّد أسئلتي في الدخانْ رحت أرنو طويلاً الى حيث تلمع أزهى نجوم حياتي وأسأل: هل من أحدْ يعيد المنادي الى تربةِ الدهشة الأوليَّةِ؟ هل من حنينٍ يليق بسكان هذا المكان أو ظلالٍ تسيل على جانبيْ صرختي المضنيهْ؟ طويلاً وقفتُ على باب كلية التربيهْ ولكنني لم أجد من يشير إلى غربتي بالتحيةِ أو من يشير الى حيرتي بالبنانْ. * المسؤول عن كافيتيريا الكلية. قتل في حرب لبنان الأهلية منتصف السبعينات.