في محطة المترو القريبة من بيتي، تماماً في الزاوية المقابلة لدرج المدخل، عجوز لا تبارح كرسيها إلاّ ليلاً. تجلس متلفّعة بأغطيتها الكثيرة، تسند الى صدرها كرتونة مغطّاة بالكتابة وعلى ركبتيها وعاء صغير من البلاستيك يضع فيه المحسنون قطعهم النقدية. قلّما توقفت أمام هذه السيدة العجوز. فأنا دائماً مستعجلة. ولم ألقِ يوماً بقطعة نقدية في الوعاء الصغير. وهي لم تشجّعني على ذلك أبداً. إذ كلما التقت نظراتنا سريعاً كانت تبتسم بخبث صغير كأنها تقول: "اركضي واصطنعي الانشغال أيتها البخيلة اللئيمة". هكذا صرت أتجنّب حتى النظر ناحيتها، وأتمنّى بيني وبين نفسي، ولو بشيء من الخجل، ان تختفي من صباحاتي. وذات يوم، وأنا عائدة الى بيتي محمّلة بالأكياس الكثيرة الثقيلة، مررت من جانبها لأستقل السلّم الكهربائي المقابل للدرج. لا أدري كيف وجدت نفسي تحت أكياسي وبينها، أتدحرج ككرة تطجّ على الشلال المعدن، والأيدي الكثيرة تتلقّفني وتشدني من ثيابي... ورأسي يرتطم ثم ينزلق صعوداً ونزولاً على حافتي السلم الثابتتين. حصل هذا معي مرة حين كدت أغرق في عمق لا يصل الى المترين. فأنا لا أحسن السباحة وأخاف من الماء ككلّ الريفيين. كنت أقفز في الماء على شاطئ "الرميلة" سعيدة بشجاعتي حين قلبتني موجة وزرعت رأسي في الرمل. من شفقة الرب لم أغرق على رغم كميات المياه التي ابتلعتها، لكن جلد وجهي الذي قحطه الرمل بقي يؤلمني لأسابيع طويلة. هكذا تقريباً، في مثل هذه الحال، وجدت نفسي وأنا جالسة على مقعد خشب في الشارع بعد ان رفعني أهل الخير عن السلّم الكهربائي وجمعوا أغراضي وراحوا يواسونني ويمسحون جروحي بمحارم الورق. ودخل ذلك المساء الوسواس رأسي، وراح يوسوس لي بأنها العجوز الشريرة... بأن كرهها لي هو الذي جعلني أقع على السلّم الكهربائي. بدأت منذ استيقاظي أفكر فيها وفي وجهها الكريه. في كيفية ايجاد محطّة مترو أخرى، ولو بعيدة تجنّبني منظر هذا المخلوق الذي يكرهني. تذكرت ما يُروى في قريتي عن "القرينة"، ذلك الكائن من الجان الذي يطاردنا ليعذّبنا ويضطهدنا وظلّه قرين ظلّنا. قلت هذه قرينتي وبدأت أخاف خوفاً حقيقياً كلما استرجعت صورة وجهها وابتسامتها ال... ينمو الوسواس في رأس ابن آدم نموّ الأعشاب الضارة في الأرض الخصبة، كانت تقول جدتي... وأنا، أعشاب رأسي كانت كأنها مشبعة بالأسمدة... أسمدة التعب، لا بدّ. نصف النقابات في باريس اعلنت اضراباً في وسائل المواصلات، فُشلّت الحركة في نصف خطوط مترو المدينة ولم يعد أمامي من خيار سوى النزول الى المحطة القريبة.... محطّة الجنيّه. وجدت أناساً كثيرين متحلّقين حولها. قلت انها ازدحامات الاضراب... ثم سمعتهم يضحكون بالصوت العالي ولا يسارعون الى أرصفة القطارات. وسرعان ما قرأتُ على لوحة الإعلان أن حركة الإضراب امتدت الى الخطوط كافة. وقفتُ حائرة في ما عساي أفعله، وأدركت انني لن أجد في المدينة تاكسي واحداً يحملني الى مركز عملي البعيد... يا الله... كان الناس يتكاثرون حولها وتتلاحق ضحكاتهم وتعلو القهقهات! اقتربتُ قليلاً فرأتني وراحت تضحك وهي تشير نحوي. أحسست بغضب عارم وقلت انها بالتأكيد أخطأت اليوم الملائم لشماتتها الخبيثة ولسكب لعناتها وتعاويذها. سوف ألقّنها درساً وأخلص من سيرتها... ركضت واندسست بين المتحلّقين. كانت منشغلة بالكلام الى شاب عن يمينها لا تراني. رحت أحاول قراءة ما هو مكتوب على اللوحة الكرتون التي لا تفارق صدرها، فلم أفهم شيئاً. طلاسم؟ رحت أحاول فك الرموز... لا رموز... انها حروف مفكّكة ليس إلاّ... الى ان وصلت الى السطر الأخير فوجدته مقروءاً فقرأت: "حسناً... لقد تكبّدت العناء حتى السطر الأخير فأنت إذاً غير مستعجل: صباح الخير. أرجو لك يوماً طيباً. لا تركض كثيراً". كانت تقول للشاب على يمينها: "أنا لست بلهاء كالشحّاذين من أوروبا الشرقية. هؤلاء يكتبون: أرجوك أنا جوعان ليس لي بيت إلخ... أنا أعرف ان الراكضين لا يقرأون ولا يدفعون". ثم التفتت نحوي وقالت: "أنتِ تركضين كثيراً، ووقعت ذلك اليوم على السلّم الكهربائي. ماذا تعتقدين، لا أحد يركض أكثر من الوقت. سيغلبك دوماً. تواضعي قليلاً وتوقّفي عن الركض وانظري اليّ.. أنا كنت ملكة الركض... الآن أصبحت ملكة الوقت. هذا اليوم مثلاً مُهدى اليك. انه اضراب عام: عذرك معك. انه عيد... عيدكم سعيد يا أصحاب...". كان عيداً في البيت. رحت أفرم البقدونس على مهل وأغنّي مع فيروز. سأضع الحنّة على شعري وأعمل جاط تبولة وطنجرة محشي ورق العنب ومهلبيّه. سأطلّ من شرفتي على مصطبة بيتنا في قريتي البعيدة وأتنفس عميقاً رائحة مساكب النعناع يحرّك رؤوس طرابينها الهواء الخفيف. سوف أروي لأولادي، في السهرة، حكاية غرقي في الرمل... وخوف أختي صغيرةً من العتمة، ومغامرات أبي فتىً في بحثه عن الكنوز المرصودة في خراج قريتنا، وكيف كان الفلاحون يسحبونه عند الفجر بعد ان يقضي الليل معلّقاً بالحبال فوق المغاور الصخر. سوف نسهر طويلاً، ونضحك كثيراً. انه يوم البطء المبارك. عيدكم سعيد.