منذ سنوات، لم يعد ذلك الطالب الجامعي يرضى ان تلف له امّه "عروس" الصباح اليومية، ليصطحبها معه الى مكان دراسته، حاملاً معها رائحة اطمئنان المنزل. صارت ال"كافيتيريا" بديلاً من المطبخ، يقضي فيها الطالب وقته... وعلى وجبتين. باتت ايضاً غرفة الجلوس هرباً من الصف. "كافيتيريولوجي" أياً كان الاختصاص وأياً كانت الكلية، يدرس الطلاب اللبنانيون مادة مشتركة هي ال"كافيتيريولوجي"، او "علم الكافيتيريا". ترسم الاخيرة مقطعاً من لوحة الحياة الطالبية، ومجموعة ملامح من الوجه الطالبي اللبناني، وتشكل ركناً اساسياً من اركان نشوء الحياة المشتركة داخل الجامعات، الحياة التي تنمو شيئاً فشيئاً، الى ان تنتزع الطالب او الطالبة من احضان الاسرة التي عاشا في كنفها، الى مطابخ تطبخ فيها الخيانات اليومية للحياة القديمة، وتحاك فيها المؤامرات والدسائس ضد شللٍ اخرى، او حتى الاساتذة الذين يؤمّنون حضوراً قوياً ويومياً في المقهى الجامعي. تختلف نسبة الاقبال على الكافيتيريا بين كلية وأخرى. لكن كافيتيريا الكليات النظرية تظل مزدحمة الهوامش والأطراف. ويفوق ازدحامها ازدحام قاعات المحاضرات، وذلك على خلاف الكليات التطبيقية. ففي كلية الآداب -1 يوجد ثلاث كافيتيريات، كما تحوي كلية الاعلام كافيتيريا تتسع لحوالى ربع طلابها، بينما ينزح غالبية طلابها الى الكافيتيريات المحيطة بالجامعة العربية والتي يزيد عددها على عشرة. ولا تتسع كلية العلوم التطبيقية لأكثر من كافيتيريا واحدة لا تعرف الازدحام اطلاقاً. وجبة بطيئة ان هذه الكافيتيريا تقدم وجبات بطيئة للغاية عوضاً عن تلك السريعة. فتقدم الاكل اللبناني كالفول والألبان والأجبان والشاي والزهورات وبعضها يقدم الطبخ. وتتوزع الكافيتيريات بين "جوٍّ" وآخر. ففي الفرع الاول من كلية الآداب، هناك كافيتيريا تلم شمل اليساريين ومن صادقهم. فترى الجزء الاكبر متدثراً بكوفيات، او مطلقاً العنان لنقاشات يسارية. وتشير الى يسارية الكافيتيريا صور علقت على اطرافها، وعلى الزجاج الخارجي. بينما يظهر جلياً ان الفسحة المقابلة، التي تشبه الكافيتيريا، من حيث الازدحام وتقديم المشروبات ووسائل الترفيه، تظل حكراً على شباب التعبئة التربوية ل"حزب الله". اما الكافيتيريا الثالثة فهي للطلاب الذين لا يتعاطون السياسة. وفي كلية العلوم الفرع الثاني تجد ما لا يقل عن خمس كافيتيريات، تتنازع الطلاب بسبب وجود مساكن طالبية في محيط الكلية. ويظهر ان كل مجموعة من الطلاب، تختار لنفسها كافيتيريا خاصة بها. وغالباً ما تتكون المجموعات من افراد يجمعهم اطار سياسي واحد، او يتفقون على توجه سياسي معين اذا كانوا مستقلين. ويحزّ في نفوس طلاب بعض الكليات، عدم وجود كافيتيريا واسعة او حتى ملعب، كما هي الحال في كلية الاقتصاد وادارة الاعمال. وغالباً ما تتكون المجموعات او الشلل، من ذكور وإناث. اما التنظيمات الدينية الطالبية، فتفصل بين شلل الذكور والاناث. وتحوي كل شلّة فرداً يقدر على اتخاذ القرارات، وآخر يحدد كلفة مشاريع الشلة، وثالث يتحمل مسؤولية العلاقات العامة. إدمان وتقول سمر طالبة في الجامعة العربية: "صار ارتياد الكافيتيريا إدمان، اذا لم نأتِ كل يوم نشعر بنقص". أما نيفين فتعتبر "ان الهروب من المحاضرات الى الكافيتيريا حلو". من جهته، يعتبر علي "ان الكافيتيريا ضرورية لبناء الصلات بين الطلاب". يستند رأي علي الى موقف سياسي يضع الكافيتيريا في سلم الاولويات بهدف الوصول الى استقطاب أكبر عدد ممكن من الطلاب في هذا التنظيم او ذاك، ولجمع الطلاب وشد اواصر القربى الدينية والتوجهات السياسية. دخلت الكافيتيريا في صلب الحياة الطالبية وصارت جزءاً منها، تُستعمل للاسترخاء والاستعداد لمحاضرة جديدة، او للقراءة او لفتح ابواب الحديث، او لانفراد عاشقين وسط الزحمة، كما تستعمل ملاذاً لشتم الدروس وهذا الدكتور او مدح ذاك. وتحفل بعض ال"كافيتيريات" بالنراجيل التي ترمز الى تراث ضائع بين دخان ال"مارلبورو" والتنباك الذي يزرع في الجنوب اللبناني. وتبدو الكافيتيريا شجرة يقدم ظلها مكاناً متواضعاً لحياة بديلة من الحياة التي ألفها الطالب طوال سنوات دراسته الابتدائية والمتوسطة والثانوية. وهي في المحصلة مختبر تتبلور فيه الحياة الطالبية الجديدة ومكان لصناعة علاقاتها الاجتماعية والعملية.