كان الإحساس الحاد بالغضب والسخط والألم والحزن هو المزيج الشعوري الذي خرجت به من مشاهدتي فيلم "آلام المسيح" خصوصاً بعد أن عانيت متابعة الفيلم المشحون بالعنف اللاإنساني مع عدد قليل من الأصدقاء في عرض خاص للفيلم الذي أقام الدنيا ولم يقعدها. كان يجلس أمامي مباشرة يوسف شاهين، وبالقرب منه كمال رمزي، وسمير فريد، وقصيّ صالح درويش، وكريم مروة، وسيف عبدالرحمن، وحسن المصري، وغيرهم من الأصدقاء الذين دفعهم الاهتمام إلى المجيء لمشاهدة فيلم ميل غيبسون الذي أثار ثائرة الدوائر الصهيونية، فشنّوا عليه حرباً شعواء بتهمة كاذبة هي العداء للسامية. ولم نر في الفيلم أي عداء للسامية، وإنما ترجمة سينمائية باللغات الأصلية القديمة لما ورد في الأناجيل، وبخاصة إنجيل يوحنا. ومن الواضح أن حرص صنّاع الفيلم على توصيل رسالتهم الأساسية، وإقناع المشاهد المعاصر بسلامتها، دفعهم إلى إنطاق شخصيات الفيلم بلغاتها الأصلية، مع ترجمة إنكليزية مصاحبة على الشاشة، والالتزام الحرفي بنصوص من الكتاب المقدس وجمله، لئلا يتهمهم أحد بتشويه الحقيقة، وكي تتجه الأنظار بالدرجة الأولى إلى الجريمة الأصلية التي لا تسقط بالتقادم، وهي أن اليهود هم الذين قتلوا المسيح، أو - على وجه الدقة - هم الذين اتهموه، وأصدروا حكمهم الظالم عليه بالصلب، ودفعوا الوالي النبطي بيلاطس إلى تنفيذ حكم الموت. وحاول الوالي إنقاذه منهم، بحسب عادته أن يطلق في العيد أسيراً ممن يختاره الجمهور، فاختار الجمهور - تحت ضغط رؤساء كهنة اليهود - بارباس ولم يختاروا المسيح. وعندما حانت اللحظة الحاسمة، وأصرَّ الكهنة على صلب المسيح، يؤيدهم جمهور مضلل، ورأى بيلاطس أنه لن يستطيع فعل شيء لإنقاذ المسيح، أخذ ماء وغسل يديه قدَّام الجمع قائلاً: إني بريء من دم هذا الرجل، ودمه عليكم وعلى أبنائكم، فأجاب جميع الشعب قائلين: دمه علينا وعلى بنينا. حينئذ، أطلق لهم الوالي بارباس وجَلَد يسوع وأسلمه ليصلب. ونبدأ - نحن المشاهدين - في مشاهدة أحداث التعذيب البشعة والصلب القاتل، طوال أغلب مشاهد الفيلم الذي يدور حول الاثنتي عشرة ساعة الأخيرة من حياة المسيح، مجسِّداً آلامه تجسيداً مقصوداً به إثارة فزع المشاهدين وإيلامهم، وذلك ليتحد المشاهدون على نحو لا شعوري بالضحية التي يبطش بها الجلاَّدون. ويشاركون في الطقس الرمزي الذي يدفعهم إلى الإدانة الصريحة للقتلة، ويتلقون نصيبهم من الألم المعنوي الفظيع الذي لا بد من أن يحتملوه ليتطهروا من كل وزر أو إثم، خصوصاً بعد أن رأوا وسمعوا ما لا عين رأت ولا أذن سمعت. ولذلك لم تكن مشاهدة الفيلم مشاهدة لآلام المسيح من الخارج، أو على نحو محايد، أو حتى على نحو متسامٍ، لا يركز على الوقائع التفصيلية للآلام، وإنما كانت المشاهدة مشاركة في آلام المسيح بواقعية خشنة مزعجة، واحتمالاً لها بالمعنى الذي يجعل من المشاهد مفعولاً للفعل الذي يقع عليه تخييلياً، وذلك من المنظور الذي يضع المتفرج موضع الضحية التي يفتك بها الجلادون أمامه، كما لو كان هو الضحية المحتملة، في الفعل الطقسي للتخييل السينمائي البارع والبشع الذي يهز المتفرج هَزَّاً عنيفاً. وأحسب أن هذا الهدف الفني كان وراء حشد التفاصيل الواقعية البشعة في مشاهد التعذيب. وهي تفاصيل مقصودة قصداً من حيث تأثيرها التخييلي المفزع. ولذلك تباعد المخرج عن الرمزيات التي تخفف من بشاعة التفاصيل الواقعية، واستبدل بالرمزية المتسامية التي تخاطب روح المتفرج التفاصيل الواقعية التي تصدم المشاعر، وتستفز الانفعالات، وتثير أحاسيس الغضب والسخط والألم والحزن والفزع والرعب والخوف والروع... إلى آخر كل أثقال الحال النفسية المرهقة التي عانيتها طوال عرض الفيلم. ويبدو أن هذا المنزع الواقعي في الإخراج كان - إلى جانب ما سبق - قرين أمرين في تقديري. الأول إبراز عِظم تضحية المسيح مع التركيز على كونه ابن البشر الذي يتحمل تعذيب القتلة الذين كرهوه، وعادوه، وعذَّبوه إلى الدرجة الفظيعة التي جعلته يصرخ من الألم الذي لا يحتمله بشر قائلاً: إلهي... إلهي لماذا تركتني؟ لكن صرخاته التي جسَّدت آلامه لم تنف العنصر النبوي الإلهي فيه، ذلك العنصر الذي جعله يدعو أباه لحمايته من السقوط فريسة لغواية الشيطان في أول مشاهد الفيلم، والحسم في التخلص من حضور خلال مشهد القضاء على الحيّة الموازية رمزياً للشيطان، والمعرفة بالنهاية الرهيبة التي زادته إصراراً على المُضيّ في طريق الآلام، وذلك على النقيض من أصحابه الذين باعوه وأنكروه، فكانت تضحيته إيقاظاً لشعلة الإيمان الأبدية في نفوس أصحابه الحواريين الذين حملوا نور رسالته إلى العالم كله. ولكن بقدر ما كان هذا العنصر يدفع المسيح - في مشاهد الفيلم - إلى أن يدعو بالغفران للذين أسهموا في عذابه، فإن هذا العنصر ما كان يمضي إلى النهاية من غير أن يغلب عليه العنصر الموازي لابن الإنسان، خصوصاً في تجاوب الدلالات التي تضع الذين أسهموا في عذاب المسيح - داخل الفيلم - موضع الاتهام من وجهة نظر الإنسان الذي لا يمكن أن يغفر ما حدث. أقصد الاتهام الذي لا تخفيف من وحشية جريمته العظمى التي يظل دمها في رقبة الأشرار الأول، وفي رقبة أبنائهم الذين ينطوون على جرثومة الشر اللعينة نفسها. ويبدو أن المخرج ميل غيبسون تصوّر أنه كلما دقّق في التفاصيل البشعة لعملية التعذيب، ولم يغفل منها شيئاً، كان أقرب بذلك إلى إيلام المتفرج الذي لا بد من أن يترجم ألمه في إدانة حاسمة للقتلة من ناحية، وإلى تأكيد المعنى الأكبر لفعل التضحية التي افتدى بها بني الإنسان من ناحية موازية. أما الأمر الثاني فهو ارتباط الإلحاح على تفاصيل مشاهد العنف والتعذيب الوحشي بتصور معين للمخرج عن المتفرج المعاصر، وهو تصور بارز في أفلام ميل غيبسون التي لا تخلو من العنف الذي يتجاوب والعنف الذي يراه المتفرج المعاصر في العالم من حوله، حيث الحروب والكوارث البشرية والاغتيالات والعنف المجَّاني للإرهاب الفردي والجماعي، فضلاً عن الأفعال الوحشية للاستعمار البربري الذي ينهش الشعوب التي تقع في براثنه. وأتصور أن حرص ميل غيبسون على زيادة جرعات العنف في التفاصيل الكثيرة لمشاهد التعذيب الوحشية هو مراعاة لهذا المتفرج في شروط زمنه النوعي، واستفزاز له بما يمنعه من نسيان ما جرى أمامه، ويبقي على عنف إدانته للجريمة التي وقعت في الماضى، والتي لا يزال يقع مثلها في الحاضر. وحتى لو بالغ غيبسون في ذلك - وقد بالغ في تقديري بما اقترب به من عنف الأفلام التجارية الناجحة - فإن مبالغته مبرَّرة بالمنطق الذي ينطوي عليه الفيلم. وهو منطق الإدانة للجريمة العظمى التي وقعت، والتي لا يزال يقع مثلها كل يوم في عالمنا الوحشي الذي تتزايد فظائعه. وأعتقد أن فيلم "آلام المسيح" - من هذا المنظور الأخير - يكشف عن مستوى مضمر في بنائه الفني. وهو مستوى خاص بإدانة العنف الذي يمكن أن يرتكبه أي فرد أو جماعة أو طائفة أو تيار، عندما يسعون إلى استقصاء المخالفين لهم معنوياً ومادياً، وإلى محاربة الجديد المغاير الذي يفتح آفاقاً من الوعد بدلاً من المدار المغلق للحاضر المنكفئ على ماضيه الجامد. لهذا أبرز الفيلم، في لقطة دالة من لقطات استرجاع الذاكرة، المسيح - ابن الإنسان - نجَّاراً يصنع منضدة غير مألوفة بارتفاعها وبالكراسي اللازمة لها، صادماً وعي أمه التي كانت لا تزال مقترنة بالعالم التقليدي الذي اعتادت عليه، وموحياً بالجديد من العوالم التي يمكن أن يصنعها هذا النجَّار الذي ينجر ما يدخل بالبشر إلى أفق مغاير من الوعي والرؤية والإنجاز. وبقدر ما فرض هذا الأفق الجديد على سيناريو الفيلم أن يبتعد عن تكرار المعجزات التقليدية للمسيح، ويكتفي بمعجزة واحدة بسيطة لا تنقل الثقل إلى عالم المعجزات غير البشرية، فإنه يمضي في تأكيد الدلالات الرمزية المصاحبة لصنع الإنسان الذي يصنع على عينه البشرية، ويبتدع جديداً يغدو بدعة ضلالة عند المؤسسة التقليدية المهيمنة، فتلقاه بالعداء الذي ينقلب إلى عنف، عنف لا يزال يمارسه كهنة المجتمعات التقليدية المتحجّرة ضد دعاة الجديد الذين يصنعون ملامح عالم جديد، شعارهم ما قاله المسيح - في إنجيل يوحنا 18/36 - : مملكتي ليست من هذا العالم. وفيلم ميل غيبسون يقف في صف كل الذين يبنون ممالك جديدة واعدة ليست من هذا العالم الظالم القاتل البشع المتخلف الذي نعيش فيه، ومن ثم فهو إدانة لها قيمتها لكل دعاة العنف وصانعيه، وتعرية لجريمة كل المتعصبين المتطرفين الذين ينتهي بهم العداء للجديد والانغلاق على القديم المتحجر إلى العنف المقترن بالفعل. وهل يمكن أن نرى فارقاً كبيراً - من منظور هذا المستوى - بين الذين استأصلوا الحضور المادي للمسيح الواعد بفكر جديد وعالم جديد والذين يستأصلون الحضور البشري للأبرياء من البشر والأعلام من المبدعين والمفكرين الذين يحلمون بمستقبل واعد للبشرية. لقد كنت - أثناء مشاهدتي الفيلم - أرى في كهنة اليهود الجامدين الذي رفضوا رؤيا العالم الجديد للمسيح صورة قديمة لا تزال تتكرر لكل أولئك الكهنة - أو أشباه الكهنة في زماننا - الذين يدَّعون احتكار الحقيقة، ويرفضون الخلاف، ويبادرون بالعنف الذي يستأصل الوجود المعنوي أو المادي للمختلفين معهم - أو عنهم - فكرياً أو اعتقادياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو طائفياً أو قبلياً. ويتأكد هذا المستوى الدلالي بإبراز الفيلم الجملة الدالة التي وردت في إنجيل متَّى على لسان كهنة اليهود والجمهور المشايع لهم: "دمه علينا وعلى بنينا"، وهي جملة تسقط الزمن الماضي على الزمن المستقبل، في تجاوب الأزمنة الذي يتكرر معه الإثم كلما تكررت عناصر الجريمة الأساسية. وهو تكرار يصل الحاضر الذي نعيشه بالماضي الذي عاشه السيد المسيح، ويردّ قتلة الشعب الفلسطيني على قتلة المسيح في المعنى الملازم لعناصر الجريمة المتكررة وأركانها، فالدم الموصول بإثم قتل أصحاب الحق والدعاة إليه لا يزال باقياً، لا بالمعنى الحرفي الذي يجعل يهود اليوم مسؤولين عن جريمة أسلافهم، ولكن بالمعنى الرمزي الذي يجعل من يهود اليوم مشاركين بصمتهم في الجريمة التي لا يزال يرتكبها أمثال شارون في الفلسطينيين العزل. وهي جريمة دمها واقع على كل من صمت إزاءها، ابتداءً من اليهود، وانتهاءً بغيرهم من أصحاب الديانات والمعتقدات والمذاهب التي تنبذ العنف، وتحارب الظلم، وتقاوم القمع، وتتمسك بحقوق الإنسان وحق الشعوب العادل في الحياة الحرة الكريمة. إن هذا البعد الدلالي هو ما يجعل المشهد يختلط في ذهني - وأنا أكتب الآن، وأسترجع تفاصيل مشاهد تعذيب المسيح في الفيلم - بين صورة المسيح الذي حكم عليه بالموت الكهنة والفريسيون وصورة جنود شارون الذين اغتالوا الشيخ الفلسطيني الأعزل - أحمد ياسين - وهو متوجّه إلى المسجد ليصلي الفجر، آملاً في ضوء جديد يكون بشارة للزمن الآتي بالنجمين الوضَّاءين: الحرية والعدل. لكن الصاروخ الإسرائيلي الذي اتجه إليه بأوامر السفاح شارون قضى على الحضور المادي للجسد الرمز، وأشاع السواد الوحشي في المشهد كله، مجسِّداً الدلالة المتكررة للجريمة الأبدية التي يسعى بها الباطل للقضاء على الحق، في المأساة الإنسانية التي لها بداية ولكن ليس لها - في ما يبدو - نهاية.