في 1967، جادل العالم السياسي صاحب نظرية "صدام الحضارات" صموئيل هانتنغتون بأن السلوك الذي كان "مقبولاً ومشروعاً وفقاً للأعراف التقليدية، يصبح غير مقبول وفاسداً اذا ما نظرنا اليه بعين الحداثة"، مستنتجاً ان عمليات التبادل التقليدية في المجتمعات الإرثية في ما يسمى العالم النامي اليوم تبادل العطايا والمحاباة ومعاملة المنصب العام باعتباره ملكية شخصية قد دخلت مرحلة انحطاط مع توجه هذه المجتمعات نحو الحداثة. فالأخيرة إنما تحول هذا المألوف الى ما يمكن اعتباره موضوعاً للعقاب والفضيحة. ذلك ان تحديث الحكومة وتقوية المجتمع المدني يُعدان من المكوّنات الاساسية للاستراتيجية المضادة للفساد، كونهما يضمنان تطبيق القوانين التي تتيح الانكشاف المالي، وتقديم تقارير منح الرشاوى وفرض عقوبات على الكسب غير المشروع. هذا التحليل مفعم بالثقة بالحداثة وبالديموقراطية الليبرالية المتكئة على التكنولوجيا الحديثة التي تتيح، وفقاً لفرانسيس فوكوياما، تراكم الثروة وتحقيق المتطلبات المتزايدة للبشرية بما يضمن أنسنة متنامية لجميع المجتمعات خارج إطار الاعتماد على اصولها التاريخية وارثها الثقافي. لكنه يتجاهل حقيقة انه في مقابل التشريعات والنظم القضائية والرقابة المجتمعية التي تتيحها الحداثة للسيطرة على الفساد، تثير الثورة التكنولوجية والعولمة أشكالاً من الاضطراب الاجتماعي الذي يضع المؤسسات السياسية والاقتصادية تحت الاختبار المشوب بالريبة وعدم الثقة، ويفتح الطريق أمام دخول الفساد من ابواب خلفية عديدة. وفي الديموقراطيات المتقدمة يتحول الضغط الذي تمارسه المصالح الخاصة على الأحزاب السياسية، تدريجاً، الى أشكال مختلفة من هذا الفساد الذي تنتشر فيروساته في اوساط الطبقة السياسية وبقية النخب. ولعل المثال الأبرز على ذلك انتشار ظاهرة شراء أصوات الناخبين والتبرعات السياسية غير المشروعة التي توضح ان الانتخابات عندما تبدأ بتحديد من يمسك بزمام القوة السياسية، فان التمثيل الحزبي يصبح ميداناً أساسياً للفساد. ويبدو ان حال اسرائيل التي تطغى أنباء تهم تلقي الرشاوى الموجهة الى رئيس وزرائها على ساحتها السياسية، تشكل نموذجاً مشخصاً على حقيقة عدم حصانة الحداثة، و"القيم الديموقراطية" تجاه الفساد الذي لم تعد ملكيته حكراً على الدول العربية في منطقة الشرق الأوسط. وهذا مع فارق ان آليات الشفافية والمحاسبة ما زالت صالحة للاستعمال في البلدان المتقدمة التي تمتلك ارثاً "ديموقراطياً"، حتى لو كان من طراز خاص، كما في حالة اسرائيل التي تعتبر نفسها "دولة ديموقراطية يهودية" غير معنية بالظلم الذي توقعه على الشعب الفلسطيني. وفي المقابل، تغيب هذه الآليات عن البلدان الاخرى، بما فيها تلك التي تعيش طوراً انتقالياً، كبلدان وسط وشرق أوروبا التي تعتقد الاغلبية فيها ان الفساد قد تزايد منذ انهيار الأنظمة الشيوعية السابقة. وهو ما يفسر تحول اتهام رئيس الوزراء الاسرائيلي ارييل شارون ونجليه بالتورط في قضايا الفساد من قبل كبيرة ممثلي الادعاء في اسرائيل عدنا اربيل التي رفعت توصية بذلك الى المستشار القضائي للحكومة ميني مازوز مادة دسمة للاعلاميين والمعلّقين وكتاب الرأي في الصحافة الاسرائيلية، وكذلك الى أزمة كبيرة على الصعيد السياسي كان أهم نتائجها اضطرار شارون الى إحالة ملف "خطة الفصل الاحادي" الى استفتاء عام وملزم في حزب ليكود اكثر من 200 ألف منتسب وتجميد اتفاق لاقامة حكومة وحدة مع حزب العمل في حال منح البيت الابيض دعمه للخطة خلال لقاء بوش وشارون في 14 نيسان ابريل الجاري. وقد أعلنت أحزاب اليمين المتطرف رداً على ذلك انسحابها من الحكومة. وبصرف النظر عن الخيارات المتاحة أمام شارون والبدائل السياسية في حال استقالته، يبقى مهماً أن نلاحظ التالي: لقد توافرت في اسرائيل فعالية آليات المحاسبة الديموقراطية التي لم توفر رئيس الحكومة المتهم بتلقى رشاوى من المقاول والناشط السياسي ديفيد ابل الذي ساعده "مالياً" في الانتخابات التمهيدية لحزب ليكود، وفي تشغيل ابنه جلعاد بملايين الشيكلات الدولار يساوي 4.3 شيكل مقابل العمل على مساعدته في قضية ما بات يعرف ب"الجزيرة اليونانية" وفي تحويل أراض له من أراض زراعية الى أراض سكنية قضية غينتون، وكذلك تلقي رشاوى اخرى من رجل الاعمال الجنوب افريقي سيريل كيرن، والعمل على منح تسهيلات ضريبية لعدد من رجال الأعمال الذين تربطهم به علاقات شخصية وعلاقات عمل، فضلاً عن اتهامه بأنه وضع كل ثقله، وتحت ذرائع تبين في ما بعد عدم صحتها، من أجل إنجاز صفقة تبادل الاسرى مع "حزب الله"، والتي اطلق ضمنها العقيد المتقاعد الحنان تننباوم، الذي فرضت عليه مؤخرا الاقامة الجبرية الموقتة، لان والد زوجة تننباوم عمل لعقدين في تسويق المحاصيل الزراعية التي تنتجها مرزعة شارون الخاصة. لكن الوجه المقابل لهذه الايجابية هو اتضاح حقيقة مدى تأثير الفساد والاجرام المنظم على ثقافة الحكم في الدولة العبرية، وعلى الطبقة السياسية برمتها. ولعل الملمح الابرز في هذا السياق ليس وصول الفساد الى قمة الهرم السياسي الذي بني، خلال انشاء الدولة وبعدها، على قواعد العمل الشاق والتعاون المتبادل والعمل الجماعي والتفاني، اذ سبق وان تم التحقيق مع رئيس الدولة السابق عيزرا وايزمن الذي اضطر الى الاستقالة، ومع رئيس الوزراء الاسبق اسحاق رابين الذي استقال ايضاً، اضافة الى العديد من الوزراء والنواب الذين أخذوا بالعرف السائد وتنحوا عن مناصبهم، فيما سُجن أحدهم وهو زعيم حركة "شاس" السابق ارييه درعي الذي حوكم ودين في قضايا عدة. الملمح الأبرز هو تكريس نمط جديد من التعاطي مع هذه المسألة شبيه بالنموذج العربي، مفاده ان تورط السياسيين في قضايا الفساد لم يعد حائلا دون عودتهم لاحتلال مناصب حساسة، لا بل وتقدم بعضهم في المواقع الحزبية والمناصب الوزارية، كما حدث في القضية المعروفة باسم "بارعون درعي" عام 1997. فقد كشفت هذه الاخيرة تورط رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو، الذي يسعى اليوم الى وراثة شارون في زعامة ليكود ورئاسة الحكومة، في محاولة تعيين المحامي روني بارعون الذي كان يدافع عن درعي في قضايا الاختلاس التي دين بها في ما بعد كمستشار للحكومة، مقابل تأييد "شاس" اعادة انتشار الجيش الاسرائيلي في الخليل. واللافت ان وزير العدل، في ذلك الوقت، تساحي هنغبي الذي ثبت تورطه ايضاً في القضية، فاز بأعلى الأصوات في الانتخابات التمهيدية التي أجراها ليكود لاختيار نوابه للبرلمان، وأصبح وزيراً للأمن الداخلي، فيما انتُخب أخيراً بارعون نفسه نائباً عن ليكود ورئيساً للجنة المخوّلة رفع الحصانة البرلمانية عن النواب الذين تدور شبهات حول تورطهم في قضايا فساد. وفي حين ان قائمة السياسيين الفاسدين في اسرائيل تضم عدداً وافراً من الشخصيات، بمن فيهم رئيس الوزراء السابق ايهود باراك، والقائم بأعمال رئيس الوزراء الحالي ايهود أولمرت، ورزمة من النواب الذين يرفض بارعون رفع الحصانة البرلمانية عنهم لكي يخضعوا للتحقيق، فإن ثمة مشكلة أخرى تجعل من الصعوبة بمكان متابعة التحقيق مع هذه الشخصيات، وتتمثل في تشبث معظمها بحقه في الصمت أثناء التحقيق، كما فعل نجل رئيس الحكومة جلعاد شارون الذي ألزمته المحكمة الاسرائيلية العليا، قبل أيام، تسليم جميع الوثائق والتسجيلات التي بحوزته الى الشرطة، وكما فعلت قبله نائبة وزير البنى التحتية نعومي بلومنتال وغيرها من الساسة، ما دفع بعضهم الى المطالبة بعرض الساسة الذين تدور حولهم الشبهات، بمن فيهم شارون نفسه، على جهاز كشف الكذب بوليغراف. ووفق المصادر الاسرائيلية، فإن فضيحة رشاوى شارون لا تشكل سوى رأس جبل الجليد في قضايا الفساد والنصب والاحتيال والاختلاس والتزوير والغش والتهريب والتهرب من دفع الضرائب التي يقوم بها نوعان من العصابات في اسرائيل: "العصابات السفلية" التي تهتم بقضايا تهريب المخدرات، والاعتداء الجسدي، والاتجار بالنساء، وتبييض الأموال، والسرقات على أنواعها، و"العصابات الفوقية" التي تتعاطى ما يسمى عندنا "الإكراميات" الرشوة وتبادل المصالح، والمحسوبيات والوسطات. وتشير دراسة اعدها البروفسور ديفيد نحمياس من "مركز هرتسليا المتعدد الاتجاهات"، الى ان أكثر من 50 في المئة من الاسرائيليين يعتقدون بأن عصابات الاجرام المنظم تسللت بالفعل الى داخل مراكز الحكم، ويتداول هؤلاء أسماء بعض الشخصيات السياسية المعروفة بعلاقاتها مع هذه العصابات من أمثال رئيس فرع ليكود في مدينة رمات غان، شلومو عوز، ووزير المواصلات زعيم "الاتحاد القومي" أفيغدور ليبرمان الذي تربطه علاقات شراكة اقتصادية مع غادي ليرنر أحد قادة عصابات الاجرام المنظم في اسرائيل، والذي تطارده الحكومة الروسية لقيادته منظمات تمارس عمليات تبييض الأموال. وتحيلنا مفارقة فوز الوزير تساحي هنغبي بأعلى الأصوات في الانتخابات التمهيدية لليكود، رغم تورطه في فضيحة "بارعون - درعي"، التي سبق أن أشرنا اليها، الى تكرّس ظاهرة جديدة في الاحزاب الاسرائيلية عموما، وفي حزب ليكود بشكل خاص، قوامها ظهور ما يسمى، وفق الصحافة الاسرائيلية، "مقاولو الأصوات" الذين يتمتعون بنفوذ واسع في أوساط أعضاء الحزب، حيث يتوجه المرشحون الحزبيون الطامحون في الفوز بمقاعد في الكنيست لعقد صفقة مع هؤلاء يتم بموجبها حشد الأصوات لصالح المرشح مقابل التعهد بتقديم وظائف وأموال بعد الفوز. ولعل أشهر الأسماء التي يشار اليها، في هذا المضمار الذي يؤشر الى تحول التمثيل الحزبي الى ميدان فساد لا يمكن التغطية على تبعاته، نائب رئيس بلدية رعنانا، عوزي كوهين، الذي يقال في اسرائيل ان جميع الشخصيات السياسية، بما في ذلك رئيس الوزراء، تتنافس على خطب وده وتلبية طلباته.