خرجت ايران كأحد أبرز المستفيدين من الحرب الاميركية - البريطانية على العراق، اذ وجدت نفسها متفرجة على حرب تدور بين خصمين لدودين لها هما الادارة الاميركية ونظام صدام حسين. وتمكنت طهران عبر دعم الشيعة، اضافة الى عناصر القوة الاخرى، من حجز موطئ قدم لها في المعادلة المستقبلية للعراق الجديد. وحرص الساسة الايرانيون على لعب دور "الحياد الايجابي" الذي يؤثر في الحرب كما يتأثر بها على عكس "الحياد السلبي" الذي لعبته ايران خلال الحرب الاميركية ضد حركة "طالبان" في افغانستان، اذ لم تجنِ طهران الثمار التي كانت تنتظرها، بل ان مسارعة الرئيس جورج بوش الى وضعها ضمن "محور الشر" الذي ضمّها الى جانب العراق وكوريا الشمالية، اصابها بخيبة امل كبيرة على رغم ان حصادها في افغانستان كان وافراً، اذ تمت ازاله حكم "طالبان" الذي كان يناصبها العداء. وسعت طهران الى الإفادة من التغيير العراقي وإحكام نفوذها في هذا البلد. اذ ان ايران كانت وما زالت شديدة التأثر بما يجري في العراق بسبب امتزاج عوامل التاريخ والجغرافيا بالدين والسياسة. وكان ابرز نتائج حصادها من الموسم العراقي محاصرة منظمة "مجاهدي خلق" تمهيداً لطرد عناصرها من الاراضي العراقية التي كانت مقراً عسكرياً ولوجستياً لهذة الحركة الايرانية المعارضة ومنطلقاً لتنفيذ عملياتها ضد الجمهورية الاسلامية. وخلاصة هذا الحصاد الايراني لخصه موقف اسرّ به مسؤول ايراني كبير الى حليف عراقي غير شيعي في مجلس الحكم الانتقالي ومفاده: "لو قمنا نحن باطاحة نظام صدام حسين لما وجدنا افضل من مجلس الحكم الحالي صديقاً يمكن الاعتماد عليه في تولي السلطه فيه". لكن ابرز عوامل التأثير الايراني في الملف العراقي تكمن في العلاقة المميزة مع شيعة العراق وقواهم السياسية ومرجعياتهم الدينية وبخاصة المرجع الديني آيه الله علي السيستاني المتحدر من اصول ايرانية، تماماً كتحدر رئيس السلطه القضائية في ايران آية الله هاشمي شاهرودي من اصول عراقية. وهذا الامر ينطبق ايضاً على صلة القربى التي تربط بين كثير من العائلات والعشائر الايرانيةوالعراقية، خصوصاً في المناطق الحدودية. فهناك اولاد عم عراقيون وايرانيون مثل عشائر بني طرفه وعلمشاهي. وعلى الصعيد السياسي تملك طهران علاقات وثيقة مع معظم الفصائل والقوى الشيعية، خصوصاً "المجلس الاعلى للثورة الاسلامية" و"حزب الدعوة" و"منظمة العمل الاسلامي". وترسخت هذه العلاقة من خلال استضافة ايران قيادات هذه الاحزاب والقوى، حتى ان علاقتها مع المجلس الاعلى جاوزت الدعم السياسي الى الدعم العسكري المؤسساتي والمتمثل في فيلق بدر الذي تحول الى منظمة يقول القيمون عليها ان طابع نشاطها هو العمل الانساني والخدماتي والمشاركة في اعادة البناء والاعمار في العراق، فيما يرى آخرون ان الفيلق ما زال يمثل آلية عمل عسكرية جاهزة لمواجهة احتمالات المستقبل. ويمكن القول إن التجاذب الايراني - الاميركي في العراق تبدل الى تعاون غير معلن تمليه الحاجه المتبادلة لكلا الطرفين. اذ ان واشنطن ادركت بنصائح بريطانية ان في امكان ايران قلب الكثير من المعادلات عبر ما لديها من نفوذ سياسي وديني في العراق ونظراً الى العلاقة التاريخية الوثيقة بين حوزتي قم والنجف. لكن هذا البعد الايديولوجي والسياسي لهذه العلاقة لم يستطع الغاء التباينات في النظرة الى التعاطي مع القضايا السياسية انطلاقاً من الوازع الديني. فعلماء الدين ورجالاته في ايران دخلوا السياسة منذ الثورة المعروفة ب"ثورة المشروطة" عام 1906 وهذا يعنى ان رجال الدين الايرانيين دمجوا السياسة بالدين وبنوا قواعد سياسية للحكومة الاسلامية على مبنى الدين، وأبرز نظرية لهم في ذلك نظرية ولاية الفقيه التي وضع اسسها الامام الخميني عندما كان منفياً في العراق. وبعدما اخذ على عاتقه مقارعة الشاه استطاع الامام الخميني ان يتبوأ مكانة خاصة في نفوس الايرانيين والتف حوله قادة التيارات السياسية الكبار وعُممت ولاية الفقيه كخيار للحكم بعد انتصار الثورة الايرانية عندما سيطر رجال الدين على سدة الحكم وأبعدوا الليبراليين والعلمانيين، وذلك في وقت كان الطابع العام الذي يغلب على الحوزة الدينية في النجف هو الابتعاد عن السياسة. لكن ذلك لا يعني ان الحوزة الدينية العراقية كانت منعزلة عن ممارسة اي دور سياسي، فعلى رغم ابتعادها عن تناول القضايا السياسية، كان تأثيرها كبيراً وعميقاً نظراً الى ارتباط الشعب بها من الناحية الدينية. ففي مطلع العشرينات من القرن الماضي حصل في العراق حدث ديني سياسي كبير تمثل في فتوى آية الله ميرزا شيرازي ضد قوات الاحتلال البريطانية في العراق واعلان الجهاد ضدهم، وهو حدث عرف حينها ب"ثورة العشرين" التي استطاعت ان توجه للبريطانيين ضربة موجعة. وبعد استيلاء البريطانيين على العراق حاولت قوات الاحتلال اقامه انتخابات عامة في البلاد تحت اشرافها، لكن رجلين من رجال الدين الشيعة ايرانيي الأصل عارضا هذه الانتخابات فتم ابعادهما الى ايران وهما السيد ابوالحسن الاصفهاني وميرزا النائيني. وكان الاصفهاني مرجعاً للشيعة في العراق وأدى نفيه والسيد النائيني الى اندلاع احتجاجات واشتباكات بين الشيعة والقوات المحتلة دفعت البريطانيين بعد تسعة اشهر الى العدول عن قرار النفي والقبول بعودة السيدين الى النجف. ومن هنا يوصف البريطانيون بأنهم اكثر حذراً وفطنة من الاميركيين في تعاطيهم مع الحوزة الدينية العراقية لأنهم ذاقوا "طعم" فتواها. وليس بعيداً من هذا الواقع سعي الادارة الاميركية والبريطانية الى عدم استثارة ابرز مرجع ديني في العراق آية الله العظمى السيد علي السيستاني الذي استطاع عبر مواقفه ان يحض الناس على النزول الى الشوارع للمطالبه باجراء الانتخابات في العراق واعادة زمام الامور الى الشعب العراقي تمهيداً لانهاء الاحتلال. وتدرك ايران عمق التغيير الذي قد يحصل في العراق في حال صدور فتوى دينية من السيستاني ضد الوجود الاميركي والبريطاني، ولا تستطيع واشنطن تجاهل هذه الحقيقة، ومن هنا تسعى الى عدم المواجهة معه. وفي ظل هذا الواقع فان ايران التي ترفض الاحتلال الاميركي للعراق تؤكد اصرارها على موقفها الداعي الى الاسراع في نقل السلطة الى العراقيين وتدوين دستور دائم ينظم طبيعة الحكم والسلطة فيه وان يكون حليفاً لايران لا عدواً لها.