إن دراسة الحالة التركية تحتاج إلى وعي عميق بالتاريخ وفهم شامل للشخصية التركية وإلمام بالعوامل المتداخلة في تشكيل هويتها وبالتالي في تحديد سياساتها التي تتأرجح ما بين تركيا العثمانية التي صنعها التاريخ وتركيا الأوروبية التي تفرضها الجغرافيا. ويكفي أن نذكر هنا أن تركيا الدولة لا تجد غضاضة في أن تكون في مؤخرة أوروبا بدلاً من أن تكون في مقدم العالم الإسلامي، وهو أمر يدعونا الى الغوص في تلك المعادلة المركبة للسياسة التركية المعاصرة التي يمكن تقديمها من خلال المحاور التالية: - أولاً: إن موقع تركيا على الخريطة كهمزة وصل بين آسيا وأوروبا وسيطرتها على المضايق أعطتها تاريخياً سطوة وسلطاناً لا زالت آثارهما باقية حتى اليوم وجعلتها تتأرجح بين الانتماء الآسيوي والتطلع الأوروبي. - ثانياً: إن الحلم الأوروبي الذي يدغدغ المشاعر التركية ويسيطر بشكل واضح على سياساتها هو الذي دفعها لأن تطلب رضا الاتحاد الأوروبي مروراً بالولاياتالمتحدة، مما حدا بها الى التماس رضاء إسرائيل، وذلك يفسر العلاقة الاستراتيجية التي ربطت تركيا بالدولة العبرية في السنوات الأخيرة. ولا شك أن فكر أتاتورك اسهم اسهاماً كبيراً في تحويل النظرة التركية من الشرق الى الغرب وجعلها تلهث وراء عضوية الاتحاد الأوروبي بأي ثمن رغم المصاعب والمتاعب والشروط القاسية التي رضخت لها تركيا بدءاً من الغاء عقوبة الإعدام مروراً بتوسيع دائرة الديموقراطية ووصلاً إلى إعطاء تنازلات سياسية للولايات المتحدة الأميركية والدول الأوروبية. ورغم ذلك فقد صرح فاليري جيسكار ديستان رئيس فرنسا الاسبق ورئيس لجنة تطوير الاتحاد الأوروبي بأن عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي أمر شبه مستحيل، ولعل دولة مثل المغرب - من وجهة نظره - أولى منها بتلك العضوية. - ثالثاً: إن علمانية اتاتورك التي بشر بها"ابن سالونيك"- المنحدر من دماء يهودية على الأرجح - هي التي أبعدت تركيا عن المشرق العربي وقذفت بها في الاتجاه الآخر، فلم يكن التخلص من"الطربوش"التركي مجرد تخلص من غطاء رمزي للرأس فقط ولكنه كان ايذاناً بانتهاء مرحلة كاملة من العصر العثماني مع استخدام الحروف اللاتينية والاتجاه غرباً نحو أوروبا وتحويل الإسلام في تركيا الى نموذج خاص تنفرد به دولة التقاليد"الأتاتوركية"التي يقف الجيش حارساً لها وحامياً لاستمرارها. - رابعاً: يجب أن لا ننسى أن تركيا دولة مهمة في حلف الاطلنطي ولعبت أدواراً رئيسية في حماية المصالح الغربية والأميركية خلال النصف الثاني من القرن الماضي، لذلك فهي جزء لا يتجزأ من نظام الدفاع الغربي وعندما تعرضت تركيا لمخاطر أمنية سواء بسبب المشكلة القبرصية او المسألة الكردية او غيرهما فإن الولاياتالمتحدة والغرب عاملوها كدولة حليفة ولم ينظروا اليها من المنظور الشرقي الإسلامي، لذلك فإن تركيا التي تضع قدماً في آسيا والأخرى في أوروبا تركز كثيراً على الثانية وترى انها ركيزتها الثابتة والتي ترتبط بالمستقبل. - خامساً: إن تزايد المد الإسلامي في تركيا الحديثة يمثل ظاهرة استثنائية تستحق الدراسة، فالأجيال الجديدة من الشعب التركي تبدي حماساً للعودة الى شخصية تركيا الإسلامية ولعلنا نتذكر"تورجت اوزال"رئيس وزراء تركيا ثم رئيس جمهوريتها الراحل وصاحب المعجزة الاقتصادية في بلاده عندما حاول ان يتجه شرقاً وأن يستعيد بعض مظاهر دور تركيا في دول الشرق الإسلامي فلقي اعتراضات شديدة خصوصاً عندما جرى تصويره مرة عائدا من اداء العمرة في الاراضي المقدسة ما جعله يسارع بعد ذلك بالاعتذار وفقاً للتقاليد العلمانية التي تجعل الدين مسألة قاصرة على علاقة الإنسان بخالقه، ويكفي ان نتأمل الآن زوجة رئيس الحكومة التركية وهي تضع الحجاب باعتبارها زوجة لسياسي ينتمي الى حزب إسلامي ولكن من مفهوم تركي، لكي ندرك ان تركيا لا زالت تتأرجح بين العلمانية الغربية وبين الإسلام الذي قامت عليه الخلافة العثمانية لأكثر من خمسة قرون. إن تركيا دولة فريدة الطابع متميزة الشخصية وقد لعبت عبر التاريخ أدواراً رئيسية ولا يمكن كتابة تاريخ بلد في غرب آسيا او شمال افريقيا او البلقان او شرق أوروبا او حتى غربها من دون المرور بالدولة التركية عثمانية كانت أو علمانية. وفي ظني أننا كعرب لم نحسن جيداً استخدام"الكارت"التركي لا في الصراع العربي - الإسرائيلي ولا في غيره، وحان الوقت الذي يجب أن يتعامل فيه العرب ربما من خلال جامعة الدول العربية او بالعلاقات الثنائية مع تركيا من منظور جديد لأن تعددية دورها السياسي تجعلها مرشحة أكثر من غيرها لأن تمارس تأثيراً على القوى الكبرى في العالم بدءاً من الولاياتالمتحدة الأميركية مروراً بأوروبا وصولاً الى القوى الآسيوية الكبرى مع خصوصية العلاقة بينها وبين إسرائيل، وأحسب أن الاتراك مستعدون لذلك الدور بل وربما متحمسون له ولكننا نحن العرب قصّرنا كالمعتاد في توظيف ذلك الدور واستخدامه، ولا شك أن العلاقات التركية العربية تتفاوت من قطر إلى آخر كما أنها تختلف صعوداً وهبوطاً وفقاً للظروف الدولية والاقليمية ونحن لا ننسى مواجهة خريف 8991 عندما استنفرت تركيا قواتها للقيام بعمل عسكري ضد سورية بسبب اتهامها بدعم حزب العمال الكردستاني وزعيمه الحبيس عبد الله أوغلان ويومها تمكنت حكمة الرئيس السوري الراحل مع جهد الرئيس المصري الحالي من احتواء الأزمة وتطويق المشكلة، ونحن نرى أن للعلاقات بين العرب والاتراك محاور تاريخية لا نخوض فيها واحتمالات مستقبلية نتعرض لها من خلال النقاط التالية: 1- إن طي صفحة الماضي بسلبياته والتركيز على الشراكة التي استمرت لقرون عدة هو أمر يدفع بالعلاقات الى الأمام ويعطي حافزاً للأتراك يعيدون به النظر في العلمانية المطلقة وتغيير الهوية الذي تم منذ أقل من تسعين عاماً من دون أن نجرح الكبرياء التركي أو نمس شخص ذات الغازي مصطفى كمال أبو الاتراك والذي يجسد لديهم شخصية أسطورية لا يجب المساس بها حتى أن عقارب الساعة لازالت تقف عند لحظة رحيله في أحد قصور اسطنبول. 2 - ان العلاقات الإسرائيلية التركية لا يجب أن تكون عقبة، بل ينبغي توظيفها لتصبح بالنسبة الينا ميزة، فتركيا يمكن أن تكون عنصرا ضاغطا على طريق التسوية وليست عبئاً عليها، من هنا فإن إعطاء تركيا صفة مراقب في جامعة الدول العربية هو أمر يجب النظر اليه بجدية واهتمام لانها ومعها ايران تمثلان التخوم المباشرة لحدود العروبة الشرقية والشمالية، بل إننا نرى أن يتسع الأمر ليضم بعض دول القرن الافريقي وشرق القارة لأن توسيع دائرة الجامعة العربية بأعضاء أساسيين وآخرين مراقبين هو أمر له تأثيره الايجابي على مستقبل المنطقة. 3- إن تأرجح تركيا بين الإسلام والغرب يعتبر قضية محسومة تعايش معها الاتراك ونجحوا في خلق توليفة جديدة جعلت هناك ما يسمى بالنموذج التركي في الإسلام، وهو أمر لنا عليه ملاحظات كثيرة وتحفظات عدة ولكنه يبقى حقيقة لا تشكيك في وجودها، فالحزب الإسلامي عندما يصل الى الحكم يتعامل بمفردات التوجه العلماني نفسها ويحافظ على مبادئ اتاتورك ويحقق التزاماً واضحاً رغم قاعدته الدينية وشعبيته الإسلامية. 4- إن الزيارة الاخيرة للرئيس السوري الحالي لتركيا خلقت مناخاً أفضل لأنها عززت العلاقات العربية التركية في أضعف نقاطها وربما فتحت باباً للوساطة بين دمشق وحكومة إسرائيل لاستئناف المسارين السوري واللبناني بعد طول انقطاع. 5- ان ما يجري في العراق الذي يجاور تركيا مباشرة، بل ويضم بعض سكانه في الشمال نسبة من التركمان ينبغي ان يكون عاملاً اضافياً لتعزيز العلاقات بين العرب والأتراك خصوصاً أن العراق مهدد في عروبته ووحدته، ولا شك أن الدور التركي حاسم في إحداث التوازن بين العرب والأكراد في القطرالعراقي. هذه رؤيتنا لتلك الدولة التي تتوسط العالم وتحمل على كاهلها جزءاً من الإرث الانساني وتتميز بموقع استراتيجي فريد وتشترك معنا في تاريخ طويل وتجارب امتدت الى قرون عدة اختلطت فيها لحظات القوة بفترات الضعف، خصوصاً عندما تسبب الجيش التركي في مآسٍ تاريخية تجسدت في"مشانق دمشق"احياناً مثلما كانت في"مذابح أرمينيا"احياناً أخرى، ولكن التاريخ يغفر، والشعوب تعفو، وتبقى في النهاية النظرة البعيدة الى المستقبل الذي تنتظره العلاقات بين العرب وبين تلك الدولة المهمة التي تتأرجح بين الإسلام والغرب. * كاتب قومي وعضو البرلمان المصري.