عكست اللهجة المعتدلة نسبياً والمواقف الموضوعية عموماً في قمة بيروت العربية روحاً جديدة يجب استثمارها، وتوظيف نتائجها لخدمة القضية العربية الأولى. والأمر يدعونا هنا الى أن نبحث في مواقف دول الجوار المتاخمة للأقطار العربية ومدى ما يمكن أن تقدمه للصراع العربي - الإسرائيلي من جهود ومبادرات لتهدئة الأوضاع ودفع عملية السلام والخروج من الوضع المأسوي الذي يعيشه الفلسطينيون خصوصاً في الشهور الأخيرة. وأتساءل كثيراً لماذا لم تقم تركيا - وريثة الامبراطورية العثمانية التي اجهضت مسار التطور الطبيعي لهذه المنطقة عبر قرون خمسة أو ما يزيد - بدور فاعل لخدمة السلام والاستقرار في المنطقة؟ وقد شعرتُ دائماً أن الدور التركي الغائب لم يقف عند هذا الحد ولكنه تجاوزه الى الاستغراق في علاقة استراتيجية مع إسرائيل عزّزها بتعاون عسكري متواصل. وكنت أحسب أن الجمهورية التركية ستستخدم تلك العلاقة الوثيقة مع إسرائيل الى جانب العلاقة التاريخية مع العرب في محاولة لدفع التسوية السلمية حتى ولو من منطلق مصلحة تركيا باعتبارها دولة شرق آسيوية - أوروبية وايضاً شرق أوسطية. ويهمني أن أشير في هذا السياق الى النقاط التالية: أولاً: إن الدولة التركية الحديثة وريثة أفكار وقيم لا تقف عند حدود العلمانية منذ سقوط السلطنة العثمانية وتوزيع تركة "الرجل المريض" في الشرق الاوسط والبلقان، بل تتجاوز ذلك الى منطق آخر يرحب بأن تكون تركيا في مؤخر الغرب الأوروبي بدلاً من أن تكون في مقدم الشرق الإسلامي. ثانياً: لا يمكن فهم الدور التركي من دون الإحاطة الكاملة بدوافعه وأهدافه. فالأتراك يتطلعون بقوة الى انتمائهم الأوروبي ويسعون بشدة للتخلص من انتمائهم الشرق الأوسطي. ولعلي اشير هنا تحديداً إلى المؤسسة العسكرية التركية حاملة أفكار أتاتورك وحارسة مبادئه. فبالإضافة الى أن تركيا عضو مهم في حلف شمال الأطلسي، فإن استكمال مظاهر الارتباط بانتمائها الاوروبي يبدو هاجساً ملحاً على الحكومات التركية المتعاقبة. ثالثاً: لم يتمكن التيار الإسلامي المتنامي شعبياً من أن يفرض نفسه رسمياً، ولعل تجربة حزب "الفضيلة" والنهاية السياسية لأربكان هي شاهد على تطور من نوع خاص يشير الى دور الوصاية الذي يمارسه الجيش التركي باسم علمانية أتاتورك وتأثير ذلك في تحديد مستقبل الدولة التركية. وحاول بعض الساسة الاتراك، وفي مقدمهم تورغوت اوزال الذي يسمونه مهندس المعجزة الاقتصادية التركية، أن يتجه بتركيا صوب عمقها العثماني، لكنه وقف عند حدود معينة حتى انه عندما نشرت له صور وهو يؤدي العمرة هو وزوجته اضطر أن يظهر في الاسبوع نفسه بلباس البحر في صورة أخرى على أحد الشواطئ التركية لإحداث درجة من التعادل الذي يحتاجه كسياسي له وزنه على الساحة التركية. رابعاً: إن الرد التقليدي الذي تعوّد الاتحاد الأوروبي أن يدفع به في مواجهة محاولة تركيا الانضمام إليه يدور أساساً حول قضايا ظاهرية ولا يشير الى السبب الجوهري وراء التهرب الأوروبي من قبول تركيا، إذ يقال لها دائما ان مستوى الممارسة الديموقراطية وتطبيق حقوق الانسان يبدوان دون الشروط التي حددها الاتحاد الاوروبي لانضمام أي دولة اليه. بل ان عبدالله أوجلان، الزعيم الكردي المحكوم بالإعدام، مدين في استمرار حياته لذلك الطموح التركي الشديد الساعي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي الذي لا يقبل وجود عقوبة الإعدام في قوانين الدول الاعضاء فيه، بينما السبب، في يقيني، لعدم دخول تركيا الى الاتحاد الاوروبي يكمن أساساً في الاختلاف الثقافي والتباين الحضاري. فتركيا - بحكم التاريخ والجغرافيا - جزء من الحضارة العربية الإسلامية، وليست جزءاً من الحضارة الغربية المسيحية التي تطبع هوية الاتحاد. وستظل قباب اسطنبول ومآذنها شاهداً على ذلك العمق التاريخي الذي لا تتحمس له اوروبا، فضلاً عن رواسب العداء الذي تحمله دول شرق أوروبا والبلقان للنفوذ العثماني وسطوته لقرون عدة. خامساً: الحماس التركي لعلاقات قوية مع إسرائيل انما يصدر عن رغبة في تقديم أوراق اعتماد قوية للولايات المتحدة طلباً لضغط منها على الاتحاد الأوروبي على نحو يسمح بقبولها عضواً فيه. وهذا ليس شأن الأتراك وحدهم، فدول كثيرة في عالمنا المعاصر تظن ان الطريق الى قلب الولاياتالمتحدة يمر بطفلها المدلل في الشرق الاوسط، الدولة العبرية، على رغم كل ممارساتها العدوانية واهدافها التوسعية. أردتُ من هذه الملاحظات أن أضع النقاط على الحروف حتى نتمكن من فهم الأسس التي تقوم عليها السياسة الخارجية لتركيا، التي كنا نأمل أن يكون لها دور قيادي ايجابي بين دول الشرق الاوسط الذي تنتمي اليه وتقف على حدوده الشمالية. ولكن الحكومات التركية اختارت طريقاً آخر يجعل دورها في صراع الشرق الأوسط محدوداً في تأثيره، سلبياً في نتائجه، يكاد يكون معادياً للعرب وآمالهم القومية وقضاياهم الأساسية. ولعل العلاقات التركية - السورية تؤكد ذلك، فعلى رغم التحسن الذي طرأ عليها في السنوات الاخيرة، إلا أنها شهدت فترات صعبة بلغت ذروتها في الاتهامات التركية لدمشق بإيواء عناصر "حزب العمال الكردستاني"، وصلت حد التهديد العسكري التركي لسورية، في محاولات لفتح جبهة جديدة ضد العرب موازية للصراع العربي - الإسرائيلي حتى يكون الضغط شديداً على دول الشرق العربي ويصبح الاستنزاف كاملاً لطاقاتها. ولم يقف الامر عند هذا الحد، بل إن تركيا مارست دوراً لا يبدو شفافاً، حتى في أفضل صوره، وأعني به دورها في مواجهة العراق، وأطماعها المكتومة في شماله، وأهدافها الخفية تجاه مستقبله على رغم أن هزيمة العراق او تقسيمه ستشكل إحياءً لقضية الاكراد ومدعاة لمطالبتهم بدولة مستقلة ستكون خصماً من الاستقرار التركي. ولكن للأتراك "أجندة" أخرى مختلفة كثيراً عن أهداف العرب وتطلعاتهم. ولعلي أرصد هنا الموقف التركي تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي في جانب وموقفها من احتمالات ضرب العراق في جانب آخر. تمتد العلاقة بين الاتراك والقضية الفلسطينية الى العصر العثماني منذ ان مارست الصهيونية العالمية ضغوطاً في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين على السلطان العثماني القابع في الاستانة في حال احتضار سياسي تريد أن تنتزع منه اعلاناً يدعم وجودها في فلسطين، وكأنها تريد "وعد بلفور" تركياً تكون له شرعيته، إذ أنه يأتي من الدولة التي بسطت سيادتها على المشرق العربي لقرون طويلة، فضلاً عن الصبغة الدينية التي يمكن أن يحملها مثل هذا الوعد العثماني الصادر عن الخلافة الإسلامية، ولو في آخر مراحلها. وكما لعب اليهود على نابليون بونابرت في مرحلة معينة، واتصلوا بمحمد علي في مرحلة اخرى، فإن تسللهم الى البلاط العثماني كان جزءاً من محاولة مستمرة لإنشاء وطن قومي في فلسطين، وعندما أعيتهم الوسائل وضاقت بهم السبل وجدوا في احضان بريطانيا البديل الذي امتد في مراحل اخرى ليمر بفرنسا - ولو لفترة قصيرة - ثم يستقر في دفء الحامية الكبرى الولاياتالمتحدة. استمرت السياسة التركية الاتاتوركية متحفظة تجاه العرب، متحالفة مع اعدائهم، وكان دورها في ملف شمال الأطلسي يمثل ركيزة اجنبية في المنطقة تستقر على أرضها قواعده العسكرية، وتنطلق منها عملياته وهجماته، إلى أن ظهر التحول واضحاً في العقد الاخير من القرن الماضي وأصبحنا أمام تنسيق سياسي وتعاون عسكري يربط بين انقرة ودولة إسرائيل، حتى اصبحت الزيارات العسكرية المتبادلة روتيناً منتظماً يدعو الى التساؤل ويثير القلق. أقول ذلك لأنني كنت أتصور أن للأتراك دوراً مختلفاً تماماً، فكنت أريد من السياسة التركية أن تلعب دوراً ايجابياً نشطاً في الصراع العربي - الإسرائيلي، وكنت أريد لها، بحكم الجوار الجغرافي والعمق التاريخي والتداخل الاجتماعي والارتباط الديني، ان تسعى إلى وساطة فاعلة ونزيهة بين طرفي الصراع في الشرق الاوسط. لكن الأتراك سلكوا طريقاً آخر وآثروا الابتعاد عن هذا الدور واكتفوا بتصريحات شكلية تدعم عموميات الحق الفلسطيني لكنها تعطي إسرائيل في المقابل كل الاهتمام، وتسعى إلى كل التقارب، وتتطلع معها الى مزيد من التنسيق والتعاون. تركيا كانت مطالبة بأن تلعب دوراً مختلفاً، خصوصاً أنها تنتمي - شاءت أم أبت - الى الشرق الأوسط الذي يمثل وحدة جغرافية متكاملة، وكياناً بشرياً متجانساً الى حد كبير، سواء أشرنا في ذلك الى العرب في ذلك الأقليم وهم غالبية سكانه، أو الى غير العرب على تخومه وحدوده، بدءاً من هضبة الأناضول شمالاً، الى إيران شرقاً، والقرن الافريقي والصحراء الكبرى جنوباً. كان يمكن للسياسة التركية ان تتصدر لو كانت ايجابية، بل كان يمكن لها ان تقود لو كانت عادلة. لكن الذي حدث يبدو مختلفاً عن هذا السياق كثيراً. قد يقول قائل: لماذا لا تكون الاشارة الى ايران، الجارة الاخرى الرابضة على الحدود الشرقية للوطن العربي؟ لكن الأمر هنا مختلف، فالإيرانيون لم يحكموا المنطقة لقرون عدة، فضلاً عن أن تداعيات الثورة الإسلامية في العقدين الأخيرين تكاد تجعل من ايران طرفاً مع العرب في الصراع مع إسرائيل على نحو ينهي إمكان دور الوسيط بالنسبة اليها. أما الاتراك فأمرهم مختلف، وكان يمكن لدورهم، لو كان متوازناً، أن يمثل فصلاً جديداً ينسى به العرب عداء الامبراطورية العثمانية ويغفرون خطاياها. ولست أتجاهل هنا حقيقة الصراع داخل الدولة التركية بين الاعراق التي تتكون منها، والتيارات التي تحور بداخلها، اذ ليست كل تركيا هي تلك السياسات المنحازة الى إسرائيل، بل ان هناك قطاعات كبيرة من الشعب التركي تنظر الى القضية الفلسطينية بتعاطف تلعب فيه المشاعر الدينية دوراً فاعلاً، ولكن المؤسسة العسكرية التركية تفعل ما هو مختلف عن ذلك غالباً. تركياوالعراق تمثل المسألة العراقية في السنوات الاخيرة سبباً مباشراً لحوار تركي مع العرب اقليمياً، ومع الولاياتالمتحدة دولياً. وعلى رغم تصريحات تركية متعاقبة تطالب بغداد بتطبيق قرارات مجلس الأمن وبقبول عودة لجان التفتيش والسعي الظاهري لتجنيب العراق ضربة عسكرية اميركية جديدة، إلا أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، لأن لتركيا - مرة اخرى - "أجندة" خاصة في هذا الموضوع، تحتوي على فصل يخص القضية الكردية وآخر يتصل بالأطماع الاقليمية، وثالث يشير الى الارتباطات الدولية. ولعلنا لا ننسى توغل القوات التركية غير مرة داخل الأراضي العراقية في السنوات الأخيرة بدعوى تعقب فلول "حزب العمال الكردستاني" للقضاء عليها. وهذا يقودنا الى التسليم بأن المسألة الكردية، التي تمثل قاسماً مشتركاً بين تركياوالعراقوايران وربما سورية، تلعب دوراً محورياً في تحديد السياسة التركية تجاه الشرق الاوسط ودول الجوار فيه. وهنا أشير الى نقطة مهمة، وهي أن سقوط الاتحادالسوفياتي لعب دوراً خطيراً في دفع السياسة التركية نحو اتجاهات جديدة لم تكن متاحة لها من قبل، وأعطاها ذلك العمق الاستراتيجي والامتداد الثقافي في بعض الجمهوريات الإسلامية التي نشأت من تفكك الاتحاد السوفياتي. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل أنقرة حريصة حقاً على سلامة العراق ووحدته الاقليمية؟ وهل تبدو نصائحها لبغداد خالصة؟ أم انها محاولة لغسل الأيدي من عملية عسكرية كبرى ضد العراق تلوح بوادرها في الأفق وتبدو مقدمتها على الطريق؟ لذلك، أظن أن الموقف التركي من المسألة العراقية هو امتداد قريب للخطوط العريضة في سياسة أنقرة الكبرى تجاه الصراع العربي - الإسرائيلي ذاته. أريد أن أشير صراحة الى الدور التركي الغائب في التسوية السياسية للقضية الفلسطينية. وعلى رغم تسليمي بجهودها في المحافل الاورومتوسطية، إلا أن رؤيتها للمنطقة لا تخرج عن اطار توجهات أتاتورك ابن سالونيك بنشأته الغامضة، وأفكاره المثيرة للجدل، ودوره الكبير في تغيير الخريطة السياسية للشرق الأوسط خلال القرن العشرين وإنهائه الكامل لآخر دول الخلافة الإسلامية كلها. مع ذلك ما زلنا نتطلع الى دور تركي ايجابي يرحب به العرب ولا ترفضه إسرائيل، ويكون عادلاً ومتوازناً وموضوعياً ومخلصاً. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.