نحن وأولادنا وأحفادنا وأحباؤنا جميعاً سنبقى رهينة حرب الارهاب وضحيتها لفترة طويلة. لا يوجد أي مؤشر الى تخلي شبكة"القاعدة"وأمثالها عن عقيدة التدمير وسيلة وهدفاً. وليس هناك أي مؤشر الى استعداد الحكومات والدول، خصوصاً الولاياتالمتحدة لتعديل وتصحيح سياساتها، بما يؤدي الى تعبئة الرأي العام العالمي في حملة شعبية ضد الارهاب. انه زمن اللااستقرار، البيئي منه والنفسي، زمن الفوضى والانتقام. انه إملاء الغطرسة، غطرسة العظمة، كما في الإدارة الاميركية وغطرسة الانتحار أو قتل الأبرياء كما في فكر"القاعدة"ومشتقاتها. كلنا في مأزق وفي خطر، وعلينا حقاً ان نكون في منتهى الخوف والقلق. فقد نسف خيار الطمأنينة. وقعنا في فخ السماح لإحباطنا بأن يتحول سلاحاً في ايدي من لا يتردد في تدميرنا وهو يدمر"العدو"، كما في ايدي من استنتج اننا مجرد قطيع لأننا تخلينا عن المساءلة والاستحقاق. الصلاة والدعوات لن تنقذنا، فإما ننهض بما لم نعتده أو نسقط في حفرة أعمق وهوة مرعبة. شطر كبير من الرأي العام العربي والمسلم، والأوروبي الى درجة أقل، يشعر بأن اميركا وسياساتها أتت بالإرهاب اساساً، ثم عززته حين كان في وسعها القضاء عليه. هذا الشطر يذكر بأن وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية زينت"الجهاد"للمحاربين في افغانستان من أجل إلحاق الهزيمة بالشيوعية. وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي استغنت اميركا عن المجاهدين وتركتهم موتورين بلا وظيفة. يشعر الرأي العام ايضاً بأن الولاياتالمتحدة تحالفت مع حكومات خدمتها على حساب الشعوب، ولم تبال حينذاك بالديموقراطية والاصلاح. يشير الى استخدام العراق وصدام حسين في الحرب مع ايران لمنع تصدير الثورة، ولمصلحة استراتيجية اميركية في ضرب ايرانوالعراق بعضهما بعضاً، كما لمنع الشيعة في الدول العربية من الوصول الى الحكم. ويقول هذا الشطر من الرأي العام ان اميركا حاربت ايران والشيعة عندما كانت تصنع الأصولية السنية في افغانستان، واليوم هناك في صفوفها من ينادي بتقسيمات في المنطقة لمصلحة الشيعة. وعند هذا الشطر، تفتقر اميركا الدولة العظمى الى حس العدالة، تدوس على الحقوق، تزرع بذور الفتنة لتحصد مصالح اميركية محضة تخون اصدقاءها، تعلك الحلفاء ثم تبصقهم، عنصرية في نهاية المطاف، وهي فريسة اختراق الاعتذاريين لاسرائيل الى درجة جعلتها مسيّرة بما يمليه الطفل المدلل. وبالتالي، نتيجة انانيتها وغطرستها وسياستها المؤذية ورفضها الاستماع، يشعر هذا الشطر بأن اميركا لا تفهم سوى لغة الارهاب. وهو في ذلك يبارك ضمناً تحدي"القاعدة"للولايات المتحدة حتى وان كان ينبذ وسائلها. بكلام آخر، يوجد اليوم تداخل مخيف بين الغضب من السياسة الاميركية وبين"التفهم"للعمليات الارهابية بوصفها تحدياً مفيداً لاميركا بغض النظر عن ابعاد وافرازات العمليات وعن الفكر والعقيدة وراءها. هذا الشعور يمثل فكر الإحباط بكل معنى الكلمة. انه الإحباط أمام السياسات الاميركية. وهو الاحباط ازاء الرد عليها بوسائل لا تصحح وانما تزيد البلاء. الرأي العام العالمي، والعربي بالذات، يتفرج الآن على مبارزة في فن الفناء. اميركا مقتنعة بأنها ستنتصر في الحرب على الارهاب وستأتي بالفناء ل"القاعدة"وأمثالها. وشبكة"القاعدة"مقتنعة بأن السياسات الاميركية ستفرخ خلايا قتالية ستأتي بالفناء للعظمة الاميركية عاجلاً أم آجلاً. واقع الأمر، ان هذه حرب غير قابلة للانتصار طالما ان الولاياتالمتحدة تفرض تصحيح سياساتها، وطالما ان"القاعدة"وأمثالها تتبنى التدمير اساساً. فانتصاراتها ليست سوى تعميق لهزائم العرب والمسلمين، وإلحاح على عزلهم وتعزيز الكراهية لهم عالمياً واستثمار في ارتهان الأجيال فدية للانتقام. وإذا ظن البعض ان"القاعدة"، اذا ثبت تورطها في مجزرة مدريد هذا الاسبوع، قد انجزت اختراقاً في مسار تغيير الحكومات نتيجة الانتخابات التي اسقطت الحكومة، على هذا البعض التدقيق في الافرازات الآتية: أولاً، حدث تكاتف بين الحكومات الأوروبية وعزم على صقل اجراءات ضد الارهاب. ستتضمن على الأرجح التشدد مع العرب في أوروبا مما يجعلهم تلقائياً شبهة ارهاب مما يزيد من القيود عليهم. هذا اضافة الى التشكيك بهم وحجب الوظائف عنهم وسحب الحياة الاعتيادية منهم، وهم الذين لجأوا الى الغرب بحثاً عما افتقدوه في بلادهم. ثانياً، ان سقوط الحكومة الاسبانية ثم يأت نتيجة ارهاب مفترض لشبكة"القاعدة". في أقصى الحالات يمكن القول ان العمليات ذكرت الاسبان بمعارضتهم لحرب العراق اساساً. لربما الخوف من العقاب كان عنصراً، انما العنصر المهم ايضاً كان في خطأ فادح ارتكبته الحكومة الاسبانية عندما تسرعت في اتهام منظمة الباسك"ايتا"بالعملية لأسباب انتخابية. ثالثاً، صحيح ان عملية مدريد قد تؤدي بدول الى التردد في ارسال قواتها للمشاركة مع اميركا وبريطانيا في العراق، انما وارد جداً ان تؤدي الى العكس تماماً، بصدور قرار عن مجلس الأمن يعطي الصلاحية الرسمية الدولية. ورابعاً، عكس ما حدث في مدريد، ان عملية مشابهة في اميركا تضمن للرئيس جورج بوش اعادة انتخابه. بل ان عملية مدريد قد تفيده في مسعى توسيع رقعة الحرب على الارهاب، أوروبياً بالذات، انطلاقاً من انه من غير المسموح للارهاب بإسقاط أنظمة، ومن منطلق"كلنا مهددون". لكن حتى لو اسفرت عمليات على نسق مدريد أو ما سبقها في عواصم عدة أو تبعها من عمليات في بغداد، عن انتقاد للسياسات الاميركية ولومها على حرب العراق والنزاع العربي - الاسرائيلي، فإن السؤال الأهم هو ماذا انجزت هذه العمليات؟ انجزت المزيد من الامتعاض من السياسات الاميركية؟ حسناً، انجزت المزيد من العزل للولايات المتحدة؟ لنقل: انجزت سقوط حكومة؟ هنيئاً، انجزت زرع الرعب وسلبت الطمأنينة وأطلقت حرباً جديدة من نوعها؟ نعم. انما لأية غاية وما هو الهدف؟ ما لم ينجزه الارهاب وقتل الأبرياء مهم للغاية. صحيح ان هناك"غمزة"مباركة، لكن الشعوب العربية والمسلمة ليست في وارد التباهي بوسائل أمثال"القاعدة"، وانما هي حقاً في خجل وشعور بالعيب منها. ما لم تنجزه"القاعدة"وأمثالها هو جذب الشباب الى وعود بغدٍ زاهر وحياة طبيعية. العكس تماماً ان ما تجتذبه هو الرغبة في الموت، وقتل الأبرياء، والتدمير كبداية ونهاية، واعتناق النقمة والانتقام والحقد والكراهية. وعلى رغم ذلك، لها جاذبية مرعبة لدى قطاعات واسعة اعتادت الاستسلام للاحباط وتشعر بالتقصير، باطنياً، وهنا بالذات تكمن المشكلة الأكبر. إذا بقيت الأمور في المعادلات السائدة فإن الآتي أعظم. فما بين اخطاء اميركا وغطرسة حكامها وجهل وتجاهل شعبها، وبين يأس الشعوب العربية والمسلمة الى درجة مباركتها ارهاباً على حسابها، ستكون هذه مرحلة قاتمة. المخرج الوحيد هو التعبئة العالمية ضد السياسات الاميركية وضد"القاعدة"وأمثالها. مثل هذه التعبئة غير وارد الآن بسبب"حوار الطرشان"بين الشعوب. لذلك، فإن التشاؤم في محله، والخوف له مبرراته، والقلق حالة طبيعية في كل مكان. الأموال تنفق على حرب بلا طرفي نزاع واضحي المعالم، بدلاً من انفاقها على التعليم والتأمين الاجتماعي والصحي والتقاعد والتطوير والتنمية. المشاعر تهدر على وطنيات زائفة مصطنعة مفبركة بدلاً من شعور المواطنة وما لها وما عليها من استحقاقات. و"العالمية"تحولت الى حرب ارهاب بدل ان تكون وسيلة لسد الفجوات بين الدول النامية والدول المتطورة. وما آلت اليه الأمور هو صدام ديانات وصدام حضارات بدلاً من تسامح وتعاون وتفاهم تجعل التعايش أمراً بدهياً في القرن الواحد والعشرين. لا شيء بخير. ولكي نكون بخير علينا مواجهة حقيقة مشاعرنا واستكشاف آفاق قدراتنا على التأثير. علينا الصدق مع انفسنا واتخاذ قرارات لم نعتدها. هذه القرارات تتطلب التدقيق في النتائج النهائية بدلاً من الاكتفاء بالدرس الآني الذي يُلقن. تتطلب الخروج من فكي كماشة الغطرسة، بقطبيها وعنوانيها. تتطلب الكف عن التغيّب عن المشاركة والبدء بإدراك نفوذ الرأي العام اذا جاء في شكل تعبئة شعبية. فإذا شاء الشعب الاميركي ان يعيش حياة عادية بطمأنينة واستقرار نفسي ومتعة بالعظمة، عليه الانخراط في السياسة الخارجية بصفتها مدخلاً اساسياً لهذا الخيار. عليه ان يأخذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة على محمل الجد، بدلاً من اعتبارها شأناً لا يخصه، وعليه ان يطالب حكومته بتصحيح أخطاء سياستها نحو اسرائيل لئلا يأتي دمار العظمة الاميركية عبر البوابة الاسرائيلية. الشعوب العربية، بدورها، لن تنعم بالحياة العادية والطمأنينة والاستقرار النفسي ما لم تفصل بين امتعاضها ورفضها للسياسات الاميركية، وبين ردود فعلها نحو الارهاب وسيلة للتعبير عن الغضب من هذه السياسات. على هذه الشعوب ان تفهم ان الموضوع ليس فلسطينوالعراق وليس استبداد الأنظمة وليس الرغبة في حياة رغيدة، كما تراه شبكة"القاعدة"وأمثالها. عليها ان تقرأ بين سطور تهديد فرنسا بعمليات ارهابية، بأنه ليس نتيجة مواقفها المعارضة لحرب العراق، وانما بسبب قوانين منع الحجاب لأنها تريد مدارسها علمانية. ومن الضروري للشعوب العربية ان تطالب بالبرنامج البديل، غير برنامج التدمير، الذي تقدمه المجموعات المتطرفة. الخوف من عمليات ارهابية تقتل أبرياء في بغدادومدريد ونيويورك والرياض والدار البيضاء واسطنبول وغيرها، خوف له ثقله ومبرراته، انما الخوف الأكبر الذي يجب الخشية الرهيبة منه، هو الخوف من مستقبل بلا أمل. وهذا هو المستقبل الذي يعد به التطرف الذي يتحكم بعقلية امثال"القاعدة". الخيار يبدو واضحاً أمام الشعوب العربية والمسلمة والاميركية والأوروبية وغيرها: التعبئة الشعبية ضد خيار الارهاب المطروح من جانب الذين لجأوا اليه خياراً، كما من جانب الذين اختاروه حرباً عالمية واستخدموا رفض الإذعان له مبرراً لعدم تصحيح السياسات. لا تعبئة، لا أمل. لا قرارات صعبة، لا مستقبل، لا انخراطاً، لا حق بالاحتجاج.