معظمنا في تمزق وحيرة عشية الحرب الأميركية في العراق. حتى أكثرنا حزماً في عاطفته وموقفه يجد نفسه في استدراك "انما" عند التدقيق في صميم دعاة اجتياح العراق وفي صميم فكر القيادة العراقية ونهجها. قلّ بيننا مَن هو في اطمئنان لما قد تأتي به الحرب وما سيأتي بعدها. الأكيد الوحيد في ذهننا هو أن الحرب آتية قريباً جداً، وأننا لا نعرف حقاً جميع أسبابها وغاياتها. حفنة منا لا تزال تراهن على "التمرد" الذي تقوده فرنسا وعلى الرأي العام الأوروبي لتفادي الحرب، وهذه حفنة تحلم. ذلك ان قطبي الحرب في العراق، الادارة الأميركية والقيادة العراقية، اتخذا كل تدبير لضمان اندلاع الحرب. واشنطن بدهاء الصقور من المحافظين الجدد الذين اتخذوا قرار الحرب تحت أي ظرف كان. وبغداد بحماقة تقطير التعاون مع المفتشين فيما يتطلب انقاذ العراق زلزالاً في فكر القيادة العراقية. كثيرون لا يوافقون على هذا التقويم، في الساحتين العربية والأميركية. فجزء كبير من العرب يرى في الحرب الأميركية السبيل الوحيد لانقاذ العراق من استبداد نظامه واخراج المنطقة بأسرها من وضع راهن رديء يتطلب تغييره اجراءات جذرية، احتلالية واجتياحية. وجزء كبير من الأميركيين يعتقد بأن التردد في حسم الملف العراقي عسكرياً هو الذي سيحول اميركا من دولة عظمى الى دولة لا يؤخذ بجديتها. واضح أن الشعوب العربية ممزقة بين كراهيتها لأنظمتها وكراهيتها للسياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط. بعضها اعتبر صدام حسين، مرحلياً، وجه التصدي، للغطرسة الأميركية وتحاملها على العرب في النزاع العربي - الاسرائيلي. وبعضها اعتبره أساس البلاء بسبب مغامراته وحروب الزعامة التي خاضها. والأكثرية الساحقة حمّلت بقية القيادات العربية القدر نفسه من المسؤولية عما آلت اليه أحوال البقعة العربية بسبب استبداد معظمها وكسر كبرياء الشعوب عمداً حفاظاً على الأنظمة. وهذه الأكثرية لامت الولاياتالمتحدة على سياساتها التحاملية وعلى تحقيرها للفرد العربي دائماً في سياسات استبعاده قصراً من أجل السيطرة على موارده الطبيعية. هناك اليوم شطر من الرأي العام العربي، أكثره من الشباب، لا يمانع الحرب في العراق لأنها في رأيه الوسيلة الوحيدة للتخلص من النظام العراقي. معظم الشعب العراقي يريد أيضاً التخلص من النظام بأي أسلوب كان، حتى باجتياح واحتلال أميركي، حسب مطلعين على الوضع العراقي من غير المعارضة في الخارج. فمستوى القهر لدى الرابضين في ظل النظام العراقي والسأم لدى العاجزين عن تصوّر تبني الأنظمة العربية لاصلاحات ضرورية بلغ حد اليأس. واليأس ولّد استسلاماً لما من شأنه هز البنية التحتية في العالم العربي، حتى عبر حرب وضع تصورها وأهدافها رجال عُرف عن سيرة بعضهم البغض والتحقير للشعوب العربية والولاء الكامل لاسرائيل، بل للشارونية. فالمهم عند هذا الشطر ان يُنسف الوضع الراهن الرديء، لعل المنطقة تتحرّك نحو الديموقراطية. الولاياتالمتحدة، عند هؤلاء، هي الوسيلة للخروج من الوضع الراهن. انها دبابة الاسعاف. ما يحدث بعد ذلك، في رأي هؤلاء، ليس بأهمية الحدث ذاته. والحدث المرجو هو تفجير المنطقة لتغييرها. اميركا، في هذه الحال، هي "الديناميت" الى الديناميكية. انها "الشريك" الملائم الموقت في الانتقالية، لكنها ليست موضع ثقة بأكثر من ذلك، حتى عند هذا الشطر من الرأي العام. مهلاً، يقول شطر آخر يريد تحقيق الهدف ذاته لكنه يختلف على الوسائل والأدوات. ان الاصلاح بالفوضى والقوة العسكرية ليس المسار الى الديموقراطية بل الى أحكام عسكرية. لذلك، ففيما يوافق على الحاجة الماسة الى التخلص من أنظمة على نسق النظام العراقي، إلا انه يتمزق في معارضته الحرب والاجتياح والاحتلال من جهة وفي بحثه عن وسائل تغيير الوضع الراهن بلا حروب كارثية، من جهة أخرى. وما يزيد في تعقيد المسيرة يتعلق مباشرة بالادارة الأميركية وبأجندة دعاة اجتياح العراق الذين ليسوا ابداً في وارد المحبة للشعوب العربية وتكريس عظمة اميركا لمجرد تأمين الديموقراطية لهذه الشعوب. فالحرب على العراق ليست حرباً من أجل العراق وانما هي من أجل العظمة الأميركية عبر نافذة العراق التي أتاحت فرصة وجدها صقور الادارة الاميركية ذهبية. ولو كان بناء عظمة اميركا، عبر العراق، من أجل قيادة الى عالم أفضل، بعاطفة رحيمة وبعناية صادقة بالشعوب المضطهدة، لربما اثّر ذلك في النظرة الى الحرب على العراق. لكن صقور ادارة جورج دبليو بوش يريدون حرباً على العراق من أجل "عقيدة" صنعوها منذ سنوات ووضعوا عليها اسم جورج دبليو بوش أخيراً. عقيدة فحواها استباحة أي شيء من أجل الحفاظ على تفوق العظمة الأميركية باستفراد الاستباحة بعمليات وقائية استبقائية. والاستباحة عبر منع حتى الأصدقاء والحلفاء من التجرؤ على المنافسة أو الشراكة في الهيمنة. معركة هؤلاء مع فرنساوالمانيا تدخل في الحسابات ذاتها التي وضعتها "عقيدة" الدفاع الاستراتيجي التي صنعوها. وليس أمراً عابراً أو زلّة لسان في اندفاع وزير الدفاع الاميركي الى تقزيم فرنساوالمانيا في جهد متعمد لخلق الانقسام في صفوف حلف شمال الاطلسي الناتو. فهذا جزء مما تقتضيه "العقيدة" ودونالد رامسفيلد يضع تلك العقيدة في اعلى قائمة الاولويات الاميركية. قد يكون أحد أعمق تفسيرات تحوّل وزير الخارجية كولن باول من معسكر الحمائم الى معسكر الصقور عائد الى "العقيدة" التي كان في الاساس، ومنذ سنوات عدة، جزءاً من تطويرها. فهو جندي مخلص يتصرف على اساس الولاء التام للقائد صاحب القرار الاخير. وهو ايضاً عسكري اساساً، قبل ان يمارس الديبلوماسية كوزير خارجية، وكعسكري ساهم كولن باول منذ البداية في صنع العقيدة التي تواجه على صعيد الصداقات والتحالفات تحديات، خصوصاً من جانب المانياوفرنسا اللتين دخلتا في معركة مع اميركا، معركة عنوانها العراق وحقيقتها العقيدة. ثم هناك روسيا التي تتحايل على العقيدة باسترضائها حيناً ووضع العصا في عجلتها حيناً آخر. وهناك الصين التي تتظاهر بأنها لا ترى عقيدة فيما تعمل بهدوء وتماسك على نصب شراك لها وحفر قبر لاحتضانها. العراق ساحة اختبار للعقيدة. والعرب لا علاقة لهم بها لأنهم لا يفهمونها ولا يريدون ان يفهموها. كذلك الرأي العام الاميركي. انه يفهم العقيدة من قشورها. يفهم انه ينتمي الى دولة عظمى ويريد التفوق الدائم للاحتفاظ بمرتبة العظمة. لكنه غير راغب في فهم افرازات اسلوب العقيدة عليه، كأميركا واميركيين. فسياسات ادارة بوش ستحول اميركا الى عظمى في الكراهية لها واختفاء الثقة بها. ستحول الفرد الاميركي الى اسير للعظمة سُحبت منه لذة العيش والحرية التي وعده بها اعلان الاستقلال الذي اصرّ على ذكر الحق بالسعي وراء السعادة. والأسوأ ان هذه ليست سياسات اعتباطية او عشوائية. انها سياسات مدروسة اطلقتها حفنة متطرفة أحسنت استخدام استراتيجية وتكتيك طبع التوجهات في الذهن الاميركي وقطع الطريق على الاعتراض وحشد الرأي العام من خلال اللعب على خوفه والتلاعب بمخاوفه. فحزين جداً مصير اميركا اذا باتت رهنية الغطرسة والرعب. وحزين جداً ان تُصبح الشخصية الاميركية المحبوبة تقليدياً عرضة للأسر وموضع اصبع الاتهام. الأكثر حزناً أن يكتشف الشعب الأميركي، بعد حرب انهاك للعراق، أن ما امتلكه العراق من أسلحة دمار شامل يكاد لا يُذكر. أن يكون اطلق عداوة ضده لن تنحصر في لومه على الحرب على العراق. ان يكون صنع من التطرف والانتقام منه عملاقاً يمضغ طمأنينة الشعب الأميركي دائماً وتكراراً. والأسوأ ما سيحدث للشعب العراقي إذا عادت أميركا إلى نمط الحماس العارم ثم السأم السريع. عندئذ ستجتاج بقوة، وتحتل بسعاعة، ثم تتقلص وتسرع إلى التملص من مستنقع لا يهمها في الأساس. الأكيد أن الولاياتالمتحدة ستخدم في إحداث زلزال يهزّ البنية التحتية العراقية والعربية، وربما يمثل هذا لقاء مصالح وغايات بين أولئك في البقعة العربية الذين يريدون الزلزال كوسيلة للخلاص وبين الذين يريدون الزلزال في العراق لخدمة "العقيدة"، ولربما هذا مفيد للاثنين. ولربما يكون مفيداً للمنطقة. ولكن، ثم ماذا؟ وهذا ما يفتقده دعاة الحرب والاجتياح في المعسكرين العربي والأميركي. إنهم في امتناع عن التفكير العميق في اليوم التالي. والعتب أكبر على دعاة الاجتياح والاحتلال في البقعة العربية. فلهم حق هذا الخيار. إنما عليهم مسؤولية العمل على صنع مقومات يوم أفضل بعد يوم الدمار. وانهم متغيبون. أولئك الذين لا يريدون الحرب عليهم مسؤولية مماثلة، وهم أيضاً في قفص اللوم. فمعارضة الحرب لمجارد معارضة أجندة دعاتها من الأميركيين من دون صوغ بديل عن الحرب وعن استمرار النظام العراقي في عهده، إنما يمثل فصلاً آخر من الامتناع عن المساهمة في صنع مصير أفضل. وما قد يكون القاسم المشترك بين مختلف الآراء والتوجهات في الرأي العام العربي هو ذلك التمزق بين سيئ يُراد التخلص منه وسيئ يمتطي حصان الخلاص. أكثرنا يبدأ برأي، ثم سريعاً ما تتسرب "وإنما" إلى فكرنا ورغباتنا، اننا في تمزق وحيرة، لكننا لم نتوصل بعد إلى تلك الحقبة الضرورية في تاريخنا التي تتطلب منها حسم ال"إنما" ووضع توجهات تتعداها وتضعنا في مرتبة الثقة بصنع القرارات. الحكومات العربية لم تفهم أحداث 11 أيلول سبتمبر وتباطأت جداً في ادخال الإصلاح إلى البقعة العربية. الإدارة الأميركية تجاهلت ما من شأنه أن يمكّن الاعتدال وتبنت كل ما يقوضه. وعلى رأس القائمة ما فعلته ازاء القضية الفلسطينية وتبنيها لمنطق ارييل شارون وجميع غاياته. وهذا ليس صدفة، انه من صنع دعاة اجتياح العراق. ولهذا يصعب جداً الثفة بهم. إنهم طرف في التطرف الذي يحكم ويتحكم. التطرف يحسن النسف وخلق الفوضى واللااستقرار. ماذا بعد؟ انه السؤال الذي يتحدى التمزق إلى التغلب والتفكير العميق بكيفية المساهمة بعد الدمار.