لو عاد بدر شاكر السياب، بقدرة قادر، الى الحياة، وشاهد ما يحل ببلاده، لربما غير مطلع قصيدته الشهيرة "أنشودة المطر". فعو ضاً عن: "ما مر عام والعراق ليس فيه جوع"، يصبح المطلع: "ما مر يوم والعراق ليس فيه دم". يسيل الدم في العراق بغزارة، دم مباح، يسيل كل يوم، ولا يتوقف. ليست له حدود على ما يبدو. كأن البشر هناك قطيع خراف، جرى اعداده للذبح على نحو جنوني، حافل بالعبث والغثيان. الدم يجري الى حد انه لا يحرج ضمير أحد. لا أحد يصرخ: أوقفوا ذبح العراقيين! مع كل يوم يمر، يتأكد ان محنة العراق مقيمة، وكأن سنوات صدام حسين الحافلة بالحروب والغزوات والمقابر الجماعية لا تكفي وحدها ضريبة لكي يفك فيها هذا الشعب أسره. يبدو ان قدر العراقي هو ان يستمر في تسديد الفواتير الى ما لا نهاية. كانت حالة الفرح التي عصفت بالعراقيين جراء الحدث السعيد، بمثابة فترة سماح قصيرة، انعكس فيها التوق الى زمن عادي، يكتب فيه الناس، ويتكلمون من دون رقابة. لقد بدأ هذا الشعب المكبوت يفرج عن نفسه، لكن أولئك الذين يفكرون بالنيابة عنه، لا يريدون له ان يمرن حنجرته، كي يعيد اكتشاف صوته الخاص. أراد العراقي ان يبدأ العمل على تنظيف ذاكرته من الكوابيس، وصور الجلادين، وأسماء الرعب من وزن المهيب والكيماوي وأم المعارك والحواسم، كي يعيد ترتيب أحلامه الخاصة، لكن جاء من يريد اعادته الى أزمنة الموت، ورائحة البارود والديناميت والسيارات المفخخة. منذ اغتيال الرجل النبيل، سيرجيو دي ميلو، ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في بغداد في 19 آب اغسطس الماضي، بدا ان هناك قوة جبارة تعمل على معاقبة العراقيين، وكل من يمد لهم يد المساعدة، لكي يستعيدوا حلمهم المفقود. لقد عملت هذه القوة على مصادرة لحظة الفرح التي اعترتهم، تلك الصدمة العفوية، عودة الحياة من جديد، حين تهاوى في ساحة الفردوس في 9 نيسان ابريل الماضي، تمثال الوحش، الذي سيطر بإسالة دماء الأبرياء. لقد كان الفرح قوياً كالزلزال. لذا صدم البعض، وهز البعض، لكنه أغضب البعض أيضاً. كان في الواقع تعبيراً مكبوتاً، وهائل هو الشعور بالتحرر الشخصي، الزهو، النشوة، الاحساس بالأصالة الشخصية على حد تعبير فاكلاف هافل. السعادة في تلك اللحظة لم تنشأ عن رحيل الطاغية فقط، بل عن الارتياح الذي أثاره التعبير العلني الجماعي عن الغبطة. يعني ذلك بوضوح ان الغضب والصدمة متأتيان من ان هذا الكسب النفسي الكبير الذي أصاب العراقيين، قابل للعدوى. وفي حين ان بعض الحكام كان يريد من العراقيين ان ينتحبوا عند سقوط الديكتاتور، جاء الفرح عفوياً وكبيراً. وذلك هو الوقت الذي شعر فيه الناس بالسعادة. ان الإمعان في هدر دم العراقيين على هذا النحو الرخيص، لا يفسره غير الإصرار المسبق على معاقبة كل من ارتعش فرحاً، ومصادرة تلك اللحظة الجميلة من التاريخ، التي لا تحدث حتى على فترات متباعدة في أي مجتمع. اننا، اذاً، ازاء حالة جزائرية، يريد من خلالها الحزب الواحد ان يبرهن على ان البديل عن استبداده الفوضى والقتل!