لا أكثر تلبيساً على قارئ من كاتب أو كُتاب يتوسلون الموضوعية، وهم منهمكون في إدانة انتقائية لأوضاع وحالات ومواقف تتطلب إما الإخلاص لوجه الحقيقة وبالتالي الكف عن تلك الانتقائية التي تبرع في إدانة حالة وتتجاهل إدانة مشروع يسد منافذ الأمل بتقدم حقيقي منشود أو متخيل أو موهوم.. أو الاعتراف بأنهم أكثر عجزاً وقدرة على مواجهة مسؤولية مثقف أمام لغة التوازنات واللعب على حبال التعمية من أجل الوصول إلى إدانة حالة يتيمة تكشف بعض عورات المثقفين العرب وهي تخفي تحتها ركاماً هائلاً من حقائق لا يراد حتى الاقتراب من أوحالها، ناهيك عن إدانتها. كتب الدكتور شاكر النابلسي مقالاً طويلاً يدين فيه مواقف المثقفين العرب من الحالة العراقية في صحيفة إيلاف الالكترونية (عار المثقفين العرب في العراق). وهو مقال يشرح فيه كيف ارتكب كثير من المثقفين العرب العار بحق العراق نتيجة مواقفهم من محنة العراق الكبرى التي أبتلي بها، والمتمثلة في إفساد العرس الديمقراطي العراقي، الذي يزف فيه كل يوم عشرات الشهداء من الأبرياء العراقيين ومن رجال الشرطة ومن سواهم من الجيش العراقي. يتساءل النابلسي عن موقف المثقفين العرب المتخاذل - ويعترف أنه كان من ضمنهم - من جرائم صدام حسين في العراق قبل التاسع من أبريل 2003م، ويشير إلى أن كثيراً منهم انهمكوا في تمجيد الطاغية، ويعدد بعض الاصدارات البائسة التي خرجت تمجد فكر صدام حسين الاستبدادي وشخصيته وعنفوانه ومشروعه. ويتحدث عن تقاطر مواكبهم شعراء وباحثين وأدباء على موائد المربد الذي لا وظيفة له سوى تمجيد حكم استبدادي ديكاتوري وهم يستجدون أعطيات ومنح القائد. ثم يستدعي ماهية المثقف الحر وتكوينه الذي يعبر عن ضمير رجل الروح الصارم - كما يعبر عنه - وأن مواقف المثقفين العرب من عراق اليوم كذب على النفس وعلى الحقيقة وعلى التاريخ كذلك. وعار على المثقف العربي أن يتخلى عن دوره في دعم حرية الشعب العراقي، وكيف اتخذ هذا المثقف من الوجود العسكري الأمريكي في العراق حجة وذريعة لكي يقف موقف المتفرج من الدم العراقي المسفوح بل وأحياناً يقف موقف المادح والمشيد بمسلسل الذبح العراقي اليومي. ويتساءل بعد حديث طويل عن مبرر هذا الموقف من المثقفين العرب الذي وصفه بالعار، هل مرده إلى كراهية المثقفين للشعب العراقي، أو مرده خوف العرب من أن يتكرر الفلم العراقي في بلادهم، أم مرده إلى تعلق النخب العربية بحكم الطاغية وعطاياه ومطاياه وكوبونات النفط أو كراهية بقوى المعارضة العراقية التي استقوت بالتدخل الاجنبي وخاصة بأمريكا. ويظن أن السبب الأخير هو السبب الرئيس لعار المثقفين العرب في العراق. أولاً، أتفق مع توصيف شاكر النابلسي لموقف كثير من المثقفين العرب من المسألة العراقية، لكن في ذات الوقت لا اتفق معه في تبسيط واختزال عار المثقفين العرب في موقف كثير منهم من الحالة العراقية. وإذا كان المثقف الليبرالي النابلسي يتوسل الموضوعية في إدانة المثقف العربي، وهو يعود ليستدعي من ميشيل فوكو وهادي العلوي مفهوم المثقف الكوني، ومن سارتر وادوراد بيرث وريمون آرون مفاهيم تمس ماهية المثقف ومفهومه في وجوده ككيان أو مشروع إذا ما خان ذلك الدور الذي وصفه بروح الرجل الصارم، حيث تلك الروح هي مقياس كينونة المثقف وصيرورتها الدائمة، فقد كان الاجدى أن يقول النابلسي بوضوح أن مفاهيم المثقف الحر لا تنطبق على كثير من المثقفين العرب وبالتالي لا حاجة لإدانة كل أولئك بالعار العراقي. الإدانة تنطلق من حالة قبول بمشروع مثقف لا استدعاء ماهية مثقف في منطقة مغلقة على مفاهيم لا تستوعب مشروع مثقف حر. ومشروع المثقف الحر لن تكون حدوده العراق أو فلسطين إنه قضية كونية أيضاً، وقضية لا تقبل المساومة وقضية لا تعرف معنى للتلون أو التأجيل أو المماحكة أو الازدواجية أو استدعاء بعض وجه الحقيقة والتعامي عن نصفها الآخر، وهذا ما يقع فيه النابلسي وغيره من المثقفين العرب الليبراليين الجدد. لماذا لا يستهوي المثقف الليبرالي النابلسي سوى إدانة موقف كثير من المثقفين العرب في العراق، وهي إدانة أقبلها لكنها ليست مطلقة وهي ملتبسة ولها شروطها، الإيمان بمشروع عراق حر وليبرالي وإنساني هو قيمة بحد ذاته لأي مثقف يحمل روح الرجل الصارم - أي ضمير المثقف الحر - ولكن روح الرجل الصارم تنزوي في النابلسي وغيره امام حالات أخرى تستحق أن يكون للنابلسي موقف منها يكشف فيها أنه تجاوز عقدة صدام، وأنه يملك الشجاعة اليوم والقدرة على الوفاء بشروط المثقف عندما يدين حالة عربية جماعية لا تعترف أصلاً للمثقف الحر بمشروع خارج إطار مفاهيم السلطة وشروطها للبقاء. علينا أن نكون حذرين من الانسياق وراء مفاهيم تتوسل مشروع مثقف حر وهي أيضاً مازالت لا ترى سوى نسق واحد للتحول، ولا تؤمن بمشروع آخر للحراك، وتدرك أن المثقف العربي هو أصغر الحلقات في مشروع إجهاض مشروع عراق حر وليبرالي وإنساني وديمقراطي وتعددي. مشكلة النابلسي أنه يرى العراق اليوم من زاوية واحدة لا سواها، وهي حالة وردية جميلة لا يفسد عرسها الجميل سوى أبواق المثقفين العرب الذين هزموا العراق الجديد بمواقفهم المتخاذلة من الحرية والتحول الديمقراطي. وإذا كان هذا حلمنا أيضاً فإني أعيد النابلسي لما كتبه كاظم حبيب في (إيلاف) عن البصرة الحزينة.. البصرة المستباحة، وغيره من المقالات - الشهادات، وهي تصور لمشهد يعيد حلقة الاستبداد إلى جنوبي العراق عبر مشهد بالغ الألم والتعسف والاستحواذ.. وممن؟ من أولئك الذين دفعوا ثمن المقابر الجماعية على يد صدام حسين ونظامه القمعي المستبد. الالتباس هنا في الاختزال السهل لمشروع تحول متعسر تلعب فيه القوى النافذة الدولية والإقليمية دوراً كبيراً في توجيه سفينة العراق وربما أغرقتها في مستنقع الاستبداد والظلم والدكتاتورية من جديد، أكبر بكثير من صراخ مثقف عربي - كثيراً ما أفرد له النابلسي وغيره - مسؤولية الترويج لعرس الدم العراقي. لا مشكلة لدي من الاعتراف بأن ثمة حلماً بعراق حر وديمقراطي وليبرالي وكنا أول الحالمين، لكن المشهد اليوم لا يتوقف على حلم مثقف أنه أوسع بكثير من هذا وأكثر تعقيداً والمأزق السياسي الذي يهرب منه النابلسي لن تعوضه إدانة شبه يومية للمثقف العربي. كما أن الحالة تستدعي تجاوز إدانة موقف كثير من المثقفين العرب من الحالة العراقية إلى حالة إدانة أوسع لكثير من المثقفين العرب بمن فيهم الليبرالون الجدد من حالة تظليل تطال المنطقة برمتها. لماذا بقدرما يدين المثقف العربي الليبرالي - الذي يعيش خارج الوطن العربي - موقف المثقفين العرب المتخاذل من الحالة العراقية، لماذا لا يجرؤ وهو لا يعاني من أي ضغوط في الداخل العربي أن يدين ولو بدرجة أقل حالة حصار يعيشها مثقف عربي حر يعاني الأمرين: مرارة الحرمان من حقه في التعبير، ومرارة مشهد انتهازي بالغ الاذى يمارس سطوته مثقف عربي يتمتع بكل حرية التعبير لكنه يتخاذل عن نصره مثقف عربي آخر، لانه فقط لا ينتمي لمنظومة ثقافية ومعرفية يؤمن بها ذلك المثقف أو لا يرى أن يختصر الواقع العربي في مشهد يتيم مبدؤه ومنتهاه ذلك المثقف الذي يحمل عاره أينما حل. كيف يمكن أن نفهم تلك الازدواجية في المعايير التي يخضع لها رجل الروح الصارم وهو لا يتردد عن كشف عار المثقفين العرب من الحالة العراقية، بينما يططئ رأسه أمام حالات عربية كثيرة تستدعي أن يكون له فيها صوت وهو يستدعي رجل الروح الصارم بلا قلق الداخل العربي المسكون بالخوف والمصادر بسيارات التفخيخ والمعاقب بمحاكم التفتيش. لماذا يتحول رجل الروح الصارم إلى داعم مستبسل وهو يبشر بمشروع أمريكي بلا ملامح، سوى ما هو معلن في العراق، وما هو قيد التسوية في فلسطين، بينما تراكم حجب التظليل على بقايا قضايا الإنسان في كل المنطقة دون أن يكون لرجل الروح الصارم أي محاولة في انتزاع نفسه من حالة تبشير بمشروع - مازلنا نحلم أن يكون مشروع تحول واعداً لا مشروع استنزاف جديد - ويتوارى بلا صوت أمام حالات كثيرة من التعسف والظلم والتجاوز التي تطال مثقفين عرباً كثراً.. ولا تنتصر هذه الروح سوى لآحاد من المثقفين العرب الذين تتواءم رؤاهم مع مشروع مثقف ليبرالي له مقاييسه الخاصة.. وما سواهم سوى مثقفين عصبويين أو قومجيين ديماجوجيين. عار على كثير من المثقفين العرب مواقفهم من الحالة العراقية التي لم ينتصروا فيها لوجه الإنسان، وإذا كان من التسطيح بمكان أن نتصور الحالة العراقية تبدو زاهية وجميلة وبراقة لا ينغص عرسها سوى المواقف المتخاذلة لبعض المثقفين العرب، فإنه أيضاً يبدو عاراً كبيراً يطال أي مثقف عربي - خصوصاً أولئك الذين يملكون أن يعبروا عن رجل الروح الصارم - وهم يراقبون مشهداً عربياً مليئاً بالثقوب ومهلهلاً وقابلاً للاستلاب ثم لا يرون سوى ثقب واحد لأن ثمة مشروعاً يدفع به أن يكون شقاً واسعاً، أما أن يبحث عن رقعة تتفق ومقاسه أو يتسع حتى تصبح المنطقة خرقاً كبيراً ولا أمل في احتوائه، إلا بصناعة رداء جديد بمقاييس جديدة. عار على المثقفين العرب، أن يتحول رجل الروح الصارم إلى الوفاء بأجندة سياسية وتصبح هي قضيته التي يتوسل بها وجه المثقف العربي وعاره، بينما تغيب ملامح ذلك المثقف من عذابات روح الرجل الصارم وانسحاقه وضموره في طول العالم العربي وعرضه.