تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    الإتحاد يُعلن تفاصيل إصابة عبدالإله العمري    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    جدة تستعد لاستقبال مهرجان "منطقة العجائب" الترفيهي    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    الثقة به مخاطرة.. «الذكاء الاصطناعي» حين يكون غبياً !    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    984 ألف برميل تقليص السعودية إنتاجها النفطي يومياً    «مهاجمون حُراس»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    لصوص الثواني !    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    الهلال يهدي النصر نقطة    رودري يحصد ال«بالون دور» وصدمة بعد خسارة فينيسيوس    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    حديقة ثلجية    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    وزير الصحة يتفقد ويدشّن عدداً من المشاريع الصحية بالقصيم    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    الأزرق في حضن نيمار    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    رحلة طموح    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    جودة خدمات ورفاهية    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مثقفون عراقيون يقرأون لحظة سقوط تمثال صدام


صورة الصنم ... صنم الصورة
كم تبدو صورة هذا العراقي المقهور، مؤثرة وأسطورية وهو يحمل نعاله ليصفع إرثاً دموياً تمحور بين الصورة والشخص، نازفاً، متوجعاً من فرط ما نزف من أبنائه وشعبه، مضيئاً في الوقت نفسه سخطه المتكدس منذ أربعين عاماً من الذل الذي كرسته الصورة في الشخص والشخص في الصورة.
الشعب العراقي ينفض في هذه الأيام الملحمية كابوساً لا مثيل لثقله، إنه يزيح تمثال الطاغية، والتحنيط والتبجيل الاحتفالي في هندسة حروب رمت العراقيين جميعهم في فرن جهنمي ليصيروا حطب العالم.
العراقيون، أبناء الأساطير والإرث الجمالي العظيم يعيدون في هذه اللحظة التاريخية صناعة تاريخهم في تحطيم الصنم وازاحة خشبة الجريمة. منذ أربعين عاماً والعراقيون يذبحون أمام حفاوة الصنم وصوره من دون قدرة على التعبير عن رغباتهم في اطاحته، بسيرته ذات الشبهات المركبة. العراقيون الذين كانوا محكومين بخوف تاريخي تولد من شهوة الإبادات الجماعية وكرنفالات الموتى التي ينفذونها في الفجر، يسقطون الصنم ليسقط الشخص، وبسقوط الشخص، تتهاوى منابر العبودية ويقع إرث كامل من البرابرة. العراق اليوم سيبدو شغوفاً بالطمأنينة والحياة الآمنة ذات الطابع المدني، وأرغفة حارة تسد الجوع المزمن. العراق المقبل نريده مستقلاً، تنبت في أرضه الخصبة زهور الليبرالية واحترام الدساتير والقوانين التي تنبذ الأحادية الضيقة والطائفية المقيتة لتفتح الباب أمام أنوار المعرفة والثقافة الخلاقة.
جواد الأسدي
رمز بالغ الخطورة
لم أنظر في يوم ما الى أي تمثال أقيم لصدام حسين أو لوحة صوَّرته، نظرة جادة، كما لم يتناولها أي من النقاد في كتاباتهم، على رغم أن القليل منها يرقى الى مستوى فني عالٍ جداً، لأنها تصنف على الأغلب ضمن الفن الإعلامي.
وهي إذ بدأت ببعض التجارب الجيدة، فإنها سرعان ما كثرت وشاعت شيوعاً بشعاً، وتدنى مستواها الى حد الابتذال. وما التمثال الذي سقط يوم الأربعاء إلا نموذج منها، وكان سقوطه سيثلج صدري في أي ظرف آخر غير تلك اللحظة الفريدة التي أذهلت الجميع بلا استثناء" تلك اللحظة المربكة المحيرة هي التي حولت التمثال الى رمز بالغ الخطورة.
سقط التمثال وتمزقت أجزاؤه، فحل قضاء الناس على صاحبه. كان وضعهم مفهوماً لو أنه جاء من دون السيناريو المصاحب له، ومن دون الاستعانة بالجندي الأميركي: الرمز المضاد، الذي صعد الى الرأس، ووضع علم أميركا في وجه التمثال قبل أن يلف الحبل على الرقبة. فاستنفر مشاعري، المستنفرة أصلاً من وجوده في مدينة السلام، وجعلني أتمنى في تلك اللحظة التي غلف فيها العلم الرأس لو يتحول التمثال الى رجل.
لم يكن خروج الناس بمستغرب، ولم يكن تهليلهم للغازي بعيداً من التصور. فهذا الشعب الذي ذاق ما لم يذقه شعب مثله من ويلات الحروب، وصنوف الحرمان والتعسف والظلم، وجد نفسه وقد انطلق من قيوده الرهيبة، وأن أمامه فرصة، قد تكون موقتة، ولكنها حاصلة بين يديه الآن لممارسة قيمة يسمع بها ولا يعرف كنهها، قيمة اسمها الحرية. فانطلق بكل ما في وسعه. وهو معذور لأنه لا يذكر غير واقعه المر، لذلك طلب اسقاط التمثال، ورقص أمام الغازي الذي وعده بأن يحمل الرحمة بيد والعدالة بالأخرى، ناسياً أنه مزّق، ولا يزال، أوصال شعبه بطائراته الجبارة، ونيرانه الطائشة. وهو معذور لأنه لم يسمع ولن يسمع بما يبيّت له، وما ستجره جزمة الأميركي الى أرضه من أوشال.
مي مظفر
لحظة الانهيار الكبير
كنت أنتظر هذه اللحظة، لحظة اسقاط الوثن عن قاعدته، منذ أكثر من عشرين سنة، ولكن ليس بالطريقة التي تمت بها أمام الشاشات، فهي لحظة جارحة للكرامة الوطنية، إذ يظل العراق أكبر من جلاد صغير. ولعل رمزية ما دار من محاولات اسقاط التمثال عن قاعدته من العراقيين، وعجزهم عن ذلك، ثم مجيء الأميركيين، كانت لحظة تجلب البرودة والقشعريرة الى الجسد، على رغم الجرح الوطني، إلا أنني أحسست بانزياح عالم عتيق عن كاهلي، عالم كان مصنوعاً من رجال أمن وحزبيين وليالي تحقيق وبساطير عسكر، وعيون تنظر الى الإنسان بكلبيّة لا تصدق، أحسست ان عالماً قديماً قد انهار، وأنني منفتح على احتمالات عدة، لا على الصعيد الشخصي فقط، انما على صعيد العراق أولاً، والعالم العربي ثانياً. الشيء العميق في نفسي أنني لم أعد أخشى أن أسلم ذات يوم الى نظام بلدي، سواء صدفة أو بسبب ما، لم أعد أخاف إذا ما سافرت الى أي بلد أو خالفت القوانين في أي بلد، أو ارتكبت حماقة ما. لم تعد هناك سفارات لهم، يمكنها أن تتعقبني أو تهددني أو تختطفني، فأنا اليوم أنتمي الى عراق آخر، جديد، سيكتب تاريخه المقبل بمداد طازج. سنقول لهم ذات يوم شكراً، لأولئك الذين ساعدوا على انزال الوثن من منصته، وسنقول لهم البلد إن لا يحتمل ملابس خاكي اضافية، فخذوا ما تحتاجون اليه، ودعونا نصنع سلامنا بأنفسنا.
هذا ليس مطلباً مستحيلاً، سنواري قتلانا ونداوي جروحنا، ونبني ما تهدم، ونتعاهد على ان ما مر على العراق من ليل لن يتكرر أبداً. لا نريد ديكتاتوراً ثانية، لا نريد أجهزة أمن تحصي على المواطن أنفاسه، لا نريد رقابة على الفكر، لا نريد حزباً واحداً أوحد، لا نريد قوماً أفضل من قوم ولا ديناً أفضل من دين. نريد أن ننتمي الى العصر بجدارة، فنحن لا نعيش على هذا الكوكب وحدنا، ولا يميزنا أي شيء عن بقية الجنس البشري. الطريق الى أهلي وقريتي صار سالكاً...
شاكر الأنباري
نهاية الصنم
خرجت من العراق الى المنفى في العام 1978، تاركاً ورائي بلاداً كبيرة، تاركاً أهلاً ونخلاً وأصدقاء وقصائد لم تقرأ بعد، تركت ماء في جرار فخاريّة صغيرة على السطح لتبرد في بيت أختي، تركتُ مكتبتي وشباك جارتي وابتسامتها خلف ستارة الباب الموارب، تركت الشمس البارزة والضفاف الطينية والأسماك الساهرة على الشط، وبالطبع تركت المقاهي والحانات والشوارع البغدادية البديعة ذات الشناشيل والمقرنصات والتعاشيق الهندسية، تركت قلبي هناك وأرجوحة في ملاعب العيد، وقبلة على شباك الإمام الكاظم ذي اللمسة الذهبية، منذ خمسة وعشرين عاماً تركت أشياء كثيرة، ربع قرن مرّ على فجر مغادرتي العراق.
وخلال هذه الأعوام التي عشتها في المنافي شريداً من أرض الى أخرى، وطريداً فوق أرصفة العالم، خلال هذا الزمن المنفي تدمّرت بلاد واسعة. حتى غدا بعضها طللاً، وتقصّف نخل طويل وقضى بشر كثيرون من أهلي وجيران محلتي وطفولتي، وبيعت مكتبتي الصغيرة في غيابي، وذبلت شواطئ وجفّت شطوط، وأغلقت مقاه واندثرت حانات وتغيرت سحن وأسئلة وأفكار، طوال هذا الزمن ومنذ خمسة وعشرين عاماً وأنا أنتظر هذه اللحظة التاريخية، هذه اللحظة التي كلفتنا عمراً كاملاً من دم وسجون وغربة وسهر وكلام وثرثرة ونقاش سياسي لا نهاية له في ليل المنافي الطويلة، داخل منازلها وحاناتها ومقاهيها، كلفتنا قصائد وأغاني حزينة وبكاء عراقياً حارقاً، ونحن ننتظر هذه البهجة العظمى، بهجة لا مجال لوصفها ونحن نرى الى الصنم الدموي وهو يهوي الى الحضيض، الى ظلام المهاوي، الى النسيان الأبدي، الى مسار القتلة البارزين من أمثال ستالين وشاوشيسكو وهتلر وموسوليني ومن لفّ لفهم ومن ينتظر، لحظة تعدل زمناً كاملاً من عذابات العراق، لحظة بهيجة لفتيان العراق وقلوبهم النشطة السعيدة وهي تسحل الطغيان وتمرِّغ أنفه النحاسي القاسي بالتراب، تسحل الجريمة المتعالية لتسقطها من عليائها الى الأرض التي شيد فوقها السجون هذا الصنم المسمى "صدام حسين" الذي ملأ الدنيا ببطولاته الكاذبة وشغل الناس بأفعاله العدوانية والشريرة.
ما زلت حتى اللحظة لا أصدق ما جرى، لم أصدق هذا الانزياح العظيم للصنم العراقي الذي تعالى كثيراً وتطاول على الحقيقة والتاريخ والمفاهيم البشرية. لقد هوى من دون رجعة.
ومنذ هذا التاريخ لن نسمح لأيّ صنم مهما علت مكانته السياسية وزعامته ورتبته أن يعتلي مرة أخرى فضاء العراق، ولسوف نعيد تمثال أبي نواس الى شارعنا المحبب مرة ثانية، بعد أن رفعه الطاغية بحجة أرومته الفارسية عن مكانه في بغداد، وهو جالس بأبهته على ضفاف دجلة، وسوف نعود لنرمّم تمثال السيّاب الذي اخترقته الرصاصات أثناء الحروب المتوالية للطاغية، وسوف نعود لنغسل تمثال الرصافي ونزيح عن كاهله غبار السنوات.
هاشم شفيق
الجلاد وتمثاله
أيها الجلاد/ عُد الى قريتك الصغيرة/ لقد طردناك اليوم، وألغينا هذه الوظيفة
سركون بولص
أيام وأنا في حال اضطراب مستمرة، فلا نومي صحيح ولا يقظتي كذلك، مشتت الذهن، لا أعرف ماذا أعمل؟ هل أقرأ؟ وماذا أقرأ؟ يبدو أنني أضحيت من جديد أستبر توارد الأخبار عن العراق، أما كان عليّ الامتناع، على الأقل خلال النهار، عن متابعة هذه الأخبار المهبطة للعزيمة! أجلس هنا وأتأمل المشهد، صديق عربي سألني قبل أيام، وبطريقة لا تخلو من القدح، هل ستعود الى العراق بعد سقوط نظام صدام حسين؟ لكنني التقطت الرسالة فوراً، وأجبته، نعم، سأعود، بعد سقوط نظام صدام حسين، الى لبنان! وهكذا تركته في حيرة من الأمر! لقد سئمت هؤلاء "المناضلين العرب"، أصحاب كوبونات النفط، ومن يدور في مدارهم! خصوصاً تلك "المناضلة" في البرلمان الأردني، والتي حظيت بتعاطفي الكبير معها في أيام ماضية، وهي تخوض نضالها ضد التركيبية "الرجالية" العشائرية في البرلمان الأردني! لكنني أتفاجأ بها وهي تفوح اعجاباً ب"رجولة" صدام حسين وتدافع عنه، حالها حال الآلاف من المواطنين العرب الفقراء، الذين يلوح لهم طيف صدام حسين وكأنه "المهدي المنتظر" ينقذهم من بؤسهم وفقرهم!
الغريب أن غالبية المثقفين العرب تمارس العمل الثقافي تقنّعاً، فهي أصولية، عنصرية في داخلها، وها هو الأمر الواقع اليوم يكشفهم يستجدون رضا الجماهير العربية الواسعة، ولسان حالهم يقول: الجمهور عاوز كده! تقرأ تحليلاتهم فتجدها أسوأ ما تكون عليه الصحافة، وأنا هنا أتحدث عن "شعراء" و"مفكرين" عرب كبار كما يقال!
كم شعرت خلال هذه الأيام وكأنني تجاوزت التجريدية، أو الشعرية، التي أغلف بها حياتي اليومية، سواء في النثر أو الشعر، فأنا اليوم أجدّ في المراقبة من بعيد، وأتحدث في شكل مباشر عن هذه الحرائق التي تخطفني من داخلي!
لا بد من أن يبدأ الحديث اليوم عن المقابر! فغداً سوف تُفتح المقابر الجماعية أفواهها، أين منها مقابر سبرنيكا؟ علينا أن ننتظر لكي تصف هذه المقابر نفسها لنا!
لم أكن أصدق أن الأمر سيمر بهذه السرعة، لم أصدق عيني وأنا أشاهد وأسمع... بهذه السرعة. ولكن ألم تكن هذه هي اللحظة التي انتظرناها ثلاثين عاماً وها نحن لا نصدقها...، أخي الصغير الذي لم أقابله منذ 25 عاماً، والذي كبر في غيابي وشارك في انتفاضة 1991 وهرب من البلاد حتى استقر به المطاف في أميركا، لم يكن يستطيع التعبير عن مشاعره، وطلب مني أن استمع اليه وهو يعوي مثل كلب. تعبير غريب عن فرحه وهو يرى اللحظة التي كان ينتظرها وقد حانت، ربما تعود هذه الطريقة في التعبير عن الفرح الى البيئة الصحراوية التي قدمنا منها! ها هو قاتل الأطفال إذاً، أمام مصيره المحتوم، قاطع رؤوس النساء، صاحب الغازات السامة، والذي يعود اليه الفضل في تدمير البيئة والطبيعة وتحويل بلد غني الى بلد من أفقر البلدان، تعشش فيه الأمراض وتنعدم أبسط الحقوق. ها هي مجازره أمامه: حلبجة، الأنفال، التهجير، قتل المنتفضين عام 1991 الخ...! ها هو "القائد الضرورة" الذي تصفق له الجماهير العربية ومثقفوها طويلاً، فيما لم يترك العراقيون مكاناً لكي ينجوا مما حلّ بهم على يديه، إلا وحاولوا أن يُسمح لهم بالعيش فيه، بل انهم طلبوا حق اللجوء حتى في اسرائيل نفسها!
لقد كففت منذ سنوات طويلة عن الحلم بالعراق، وهنا أعني الأحلام الواقعية، أحلام العودة التي يعيشها كل عراقي منفي ككوابيس في لياليه الطويلة، لكن ربما حدث حلم قصير جداً، لكنه وئد بمكانه، وكان ذلك عام 1991، لكني اليوم، اليوم فعلاً أضحت لدي الشجاعة على التفكير بأحلامي العراقية، الحلم بالعودة، الحلم بزيارة أماكن الطفولة، البحث عن الأشياء الهائلة التي فقدناها، وما أكثرها، والتي ربما لن نجد منها شيئاً يذكر! بدأت أشعر وكأنني أستيقظ من الموت، أو من الغيبوبة الطويلة! لا أدري كم مرة رن التلفون في هذا اليوم، وكم مرة سمعت نفسي وأنا أهذي فرحاً مع صديق عراقي أو حتى مع عراقيين أو عراقيات لا أعرفهم، الكل يريد أن يعبّر عن فرحه! اليوم بعد الساعات الأولى التي مرت بطيئة شعرت بأنه ليس علي القيام بأي شيء... وشعرت بالراحة لهذا القرار...
خالد المعالي
سنظلّ نرقص إلى الأبد
أولادي يتقافزون من حولي في الشقة المتواضعة في عمان، وقف احدهم يتقافز فوق الأريكة، في حين صرخ يوسف أصغرهم صائحاً: "حيل... حيل" أي "بقوّة... بقوّة" منادياً على العراقي الذي كان يضرب بشاكوشه الضخم على قاعدة التمثال.
اقترحت زوجتي على مَنْ ظهروا في التلفاز، والذين لم يكونوا يسمعونها قطعاً، ان يبقوا الحبل المربوط برقبة التمثال "يوماً أو يومين"... قالت انه منظر معبّر، رجوتهم أن يهدأوا قليلاً لنتلذذ بما نرى. وفوجئنا بسامر ولدي الأوسط يوجّه لكمة من مكانه الى التمثال، كادت تكسر شاشة التلفاز!
تحوّلت شقتنا الصغيرة الى مرقص مُرتجل... انها المرة الأولى التي يرى فيها الأولاد أباهم يرقص على رجل واحدة!
لم تعد الدبابة دبابة... تسلقها الشباب والصغار، واتجهوا بها نحو ذلك التمثال... الفردوس... ساحة الفردوس، محرّمة على الشياطين.
توقفنا حين بدأ التمثال يميل شيئاً فشيئاً... الكلّ ساكن بانتظار لحظة السقوط، أين أنت يا صدام، لترى ما نرى!! لم يكن تمثالك سوى نسخة منك فارغاً بشعاً، بالقضيبين الحديديين النابتين في القدمين المتبقيتين!!
استؤنف الرقص من جديد... أخال أننا سنظلّ نرقص الى الأبد!!
عمار المطلبي
إننا ندخل ملكوت التعارضات
"إنني فرح ولكن..."، هذا ما أحسب انه يشكل لسان حال معظم العراقيين ان لم أقل كلهم عندما يتذكرون صورة التمثال الساقط من عليائه، جاراً معه سقوط رجلٍ، وإن لم يرَ أحدٌ سقوطه العيانيّ، أي الرجل! وهذا لعمري واحد من وجوه المأساة، ممض ومرير. سقوط تمثالٍ ورجلٍ، ومعهما انطواء نمطٍ من التحكم بالمصائر وهدر الدماء وترويع الكائنات. فكأن المرء لم تلده أمّه في هذا الشطر من البسيطة الذي لم تكن الحياة فيه سائغةً يوماً ولا بسيطة، إلاّ ليكون ألعوبة لنظامٍ أو منفياً يتقاذفه هدير التداعيات الصامتة والمدويّة في غرفة مهملة في بلدٍ بعيد.
فرِحٌ هو العراقي، ولكن غمامةً من الحزن باهظة تعشّش على الروح. لمَ حيلَ يا ترى بينه وبين انتصاره، ولمَ لم يكن هو نفسه الصانع الحق لهذه الصفحة الجديدة من تاريخه؟ أية تراجيديا يونانية شاءت أن يقبل صاغراً ب"المعونة" تأتيه من القوة الكبرى نفسها التي غذّت حتى الأمس القريب الطاغوت الذي رزحَ على مصيره قرابة ثلاثة عقودٍ من السنوات ووقفت مصدّة هائلة دون اسقاطه يوم كان ذلك ممكناً بأيدٍ عراقيّة؟ أيفترض بالعراقي أن يقول "شكراً"؟ أو يتحدث عن "تحريرٍ" و"تضامنٍ" و"يدٍ مساعدةٍ" من دون أن يشعر بالانزياح الرهيب بين هذه الكلمات ومقابلها في الواقع؟ ما الذي يخبئه له الغد القريب؟
قل لي ما فعلت ب"لكن" التي تجيش في حنايا كيانك المهيض أقل لك أي عراقي هو أنت؟
كاظم جهاد
يا للروعة... انني معهم هناك
أجمل من هذا المشهد، لن يكون هناك مشهد. انه ببساطة مشهد رائع، رائع... في 9 نيسان ابريل 2003، ومع سقوط تمثال الطاغية صدام حسين في ساحة السعدون في بغداد، دُفن النظام البعثي الفاشي في العراق، دُفنت 35 عاماً من الارهاب والقتل والحروب والدمار. 35 عاماً كان على العراقيين أن يختاروا فيها بين أن يكونوا مقتولين أو مسجونين أو مدفونين أحياء أو منفيين.
أجمل من هذا المشهد لن يكون هناك مشهد. كان كل شيء مهيأ: صالة المسرح - الساحة، المشاهدون، وهناك في الساحة كان يسير المخرجون، انها مسرحية حية في الهواء الطلق، في ذلك اليوم المشمس، كانت الجموع تسير لتحطم التمثال ونحن نتقدم معها، مع عدسات المصورين القادمين من كل أنحاء العالم، انها لمفارقة عظيمة، لأن النظام الفاشي جلب أولئك المصورين ووضعهم في فندق ميريديان فلسطين، لكي يشهدوا "مجازر الجنود الأميركيين ضد المدنيين". كان ذلك الدور الذي خططه لهم وزير الدعاية، وزير العلوج، من دون أن يدري ان ما قام به في الحقيقة انجاز كبير، لأن فقط في هذا الشكل، شهد أولئك المصورون القادمون من كل العالم أجمل حدث في تاريخ البلاد الحديث... يا للروعة... لن يكون هناك مشهد أجمل من هذا المشهد: صور صدام تُمزق، تماثيله تُحطم.
انهم أولئك الصبيان الصغار الذين سحلوا رأسه المحطم عبر شوارع بغداد. انهم أولئك الصغار الذين سيصنعون الحياة من جديد في البلاد. كم أحسدهم... الكاميرا تسير معهم، وأنا أسير معهم وسنوات المنفى الطويل تسير معهم... في 9 نيسان 2003 حُررت البلاد، وقُبر البعث الفاشي للأبد.
نجم والي


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.