هذه قراءة، وترجمة لجزء من حوار مع سارتر عندما بلغ السبعين من عمره، أجراه معه ميشيل كونتا في آب اغسطس 1975. وقد حركت فضولي، من بين مواضيع هذا الحوار، اهتماماته الموسيقية. لكنني سأبدأ بالأشياء الأخرى، من دون أن أتوقف عندها كثيراً. نحن نعيش في عصر باتت الأشياء تتقادم فيه بتسارع كبير، بما في ذلك انحسار ظل وجوه ثقافية كانت ملء السمع والبصر في يوم ليس ببعيد، وهو ما يصدق عليه قول الفنان الأميركي اندي وارهول أن الفنان في عصرنا بات يحظى بالشهرة ليوم واحد فقط. وهذا ينسحب الآن على سارتر بقدر ما ينسحب على مثقفين ومبدعين آخرين. فأين سارتر الآن، ومن يتذكره، ربما سوى من يستبد به الحنين إلى تلك الأيام، ومن يكتب عنه لأغراض أكاديمية؟ فحتى في أيامه - الأخيرة - بدا أن الستارة كانت تنسدل على اسطورته. ونطق بهذه الحقيقة محاوره بسؤاله: "هل تشعر بالأسى لأن المثقفين الشباب لم يعودوا يقرأونك اليوم، وانهم باتوا يعرفونك من خلال أفكارك الخاطئة فقط؟" وجوابه: "استطيع أن أقول إن ذلك يحزنني كثيراً". "بقدر تعلق الأمر بك، أم بهم؟". "إذا شئت الحقيقة، بقدر تعلق الأمر بهم أيضاً. لكنني أظن أنها مرحلة عابرة". مع أسف أنها لم تكن مرحلة عابرة، على ما يبدو. فزماننا هذا طمس الكثير من الأصوات وحتى أصداءها، ولم يكن سارتر استثناء، بل لعله كان من أكثر المفكرين المرشحين للنسيان، بحكم موقعه المترجرج في عالمي الفكر والسياسة... وأنا لم أكن معجباً بأفكاره، لكنني اعجبت بكتاباته الروائية. وعلى رغم ذلك، لا أجد في نفسي رغبة قوية لإعادة قراءة هذه المؤلفات، بالمقارنة مع مؤلفات روائية أخرى أهم منها. وفي كل الأحوال، كنت وما زلت افضله على ألبير كامو، على عكس ما ذهب إليه بعض الكتاب - اليمينيين؟ - ممن رأى أن تطور الأحداث في زمننا هذا أثبت "صحة" مواقف كامو، و"خطأ" أفكار سارتر. لكن الانتكاسة لا ينبغي - في رأيي - أن تعتبر معياراً صحيحاً للأشياء. كنت أقرأ الحوار مع سارتر بإحساس من الحب والحنين والحزن في وقت معاً. فهو، في السبعين من عمره، وفي مرحلة أفول مجده، كان يدعوك إلى الاحساس بالاشفاق عليه، على رغم أنه كان صلباً ومتماسكاً إلى حد غير قليل. لكن ضعف بصره الذي حرمه في أواخر أيامه من القراءة المباشرة كانت سيمون دي بوفوار تقرأ له كان شيئاً محزناً، مثلما كان طرش بيتهوفن شيئاً أليماً. وعلى أية حال، وجدت في اهتماماته الموسيقية ضرباً من العزاء له، لا سيما بعدما علمت أنه كان أكثر من متذوق للموسيقى. لكنني سأنقل شيئاً من حديث سارتر عن همومه بعد عجزه تقريباً عن القراءة والكتابة، قبل أن انتقل إلى الموسيقى: ميشيل كونتا: هل تشعر بأنك فارغ من كل عمل؟ سارتر: نعم. فأنا أمشي قليلاً، والصحف تُقرأ لي، وأصغي إلى الراديو، وأحياناً ألمح شيئاً خاطفاً مما يجري على شاشة التلفزيون، وفي الواقع تلك هي الأشياء التي تمارسها عندما تكون فارغاً من كل عمل. كنت معتاداً على كتابة ما كنت أفكر به قبل ذلك، بيد أن اللحظة الأساسية تكمن في الكتابة نفسها. أنا لا أزال أفكر، ولأن الكتابة أصبحت مستحيلة بالنسبة إليّ، فإن النشاط الحقيقي للفكر قد اخمد بشكل ما. وما لم يعد سهل المنال بالنسبة لي هو شيء بات الكثير من الشبان يهزأون به: الأسلوب، أو فلنقل الخطاب الأدبي لطرح فكرة ما أو موضوع ما. وهذا بطبيعة الحال يقتضي تنقيحاً، تنقيحاً قد يعاد النظر فيه خمس أو ست مرات. أما الآن فلم يعد في وسعي تصحيح ما اكتبه حتى مرة واحدة، لأنني لا استطيع قراءة ما اكتبه. لذا، ان ما أقوله أو ما أكتبه يبقى بحكم الاضطرار في صيغته الأولى. وبوسع أحدهم أن يقرأ لي ما كتبته أو قلته، وإذا حزب الأمر فبوسعي تغيير بعض التفاصيل، لكن هذا غير مسألة إعادة الكتابة التي كنت امارسها بنفسي. ميشيل كونتا: ألم يكن في وسعك استعمال المسجل، والاملاء، والاصغاء إلى نفسك، والاصغاء إلى تنقيحاتك؟ سارتر: اعتقد أن هناك فرقاً كبيراً بين الكلام والكتابة. إن المرء يعيد قراءة ما يعيد كتابته. بيد أن المرء يستطيع القراءة ببطء أو بسرعة: بعبارة أخرى، أنت لا تعلم كم سيستغرقك التفكير ملياً في جملة ما. من المحتمل أن ما لا تراه صحيحاً في الجملة قد لا يكون واضحاً لديك في القراءة الأولى: ربما كان هناك خطأ متأصل فيها، أو ربما كان هناك ارتباط هزيل بينها وبين الجملة السابقة أو اللاحقة أو الفقرة ككل أو الفصل... الخ. هذا كله يفترض أنك تقترب من نصك كما لو كان لغزاً سحرياً، انك تغير كلمات هنا وهناك الواحدة بعد الأخرى، وتراجع هذه التغييرات ثم تحور أشياء أخرى، وهكذا دواليك. أما إذا استمعت إلى المسجل، فإن وقت الاصغاء يتحدد بسرعة حركة الشريط وليس بما يستجيب لمتطلباتي. لذلك سأكون دائماً إما متخلفاً عن الآلة أو متقدماً عليها. ميشيل كونتا: هل جربته؟ سارتر: سأحاول، سأحاول يقيناً، بيد انني على ثقة من أنه لن يفي بالمرام. فأنا كاتب في المقام الأول، وترسخ هذا منذ نشأتي وتكويني ولا يزال حتى الآن، لذا فات أوان التغير. أما لو كنت فقدت بصري وأنا في الأربعين، فلربما كان الأمر مختلفاً. وفي ذاتي، يبقى النشاط الثقافي كما كان، أعني به شيئاً انعكاسياً. فعلى الصعيد الانعكاسي استطيع أن أنقح ما أفكر فيه، بيد أن هذا يبقى ذاتياً محضاً. هنا أيضاً تتطلب العناية بالأسلوب كما أفهمها فعل الكتابة بالضرورة. إن كثيراً من الشباب اليوم لا يحفلون بالأسلوب، ويعتقدون أن ما يقوله المرء ينبغي أن يقال ببساطة، وهذا كل ما في الأمر. أما بقدر تعلق الأمر بي، فإن الأسلوب - الذي لا ينفي البساطة، بل على العكس من ذلك - هو وسيلة لقول ثلاثة أو أربعة أشياء في دفعة واحدة. هناك الجملة البسيطة، بمعناها المباشر، ثم في الوقت نفسه، تحت هذا المعنى المباشر، هناك معانٍ أخرى ترد. إذا لم يكن المرء قادراً على منح اللغة هذه التعددية في المعنى، فلا جدوى من الكتابة. إن ما يميز الأدب عن الكتابة العلمية، على سبيل المثال، هو أنه ليس غير غامض، ان فنان اللغة يرتب الكلمات بطريقة، تتوقف على كيف يؤكد أو يُضفي عليها ثقلاً، وسيكون لها معنى واحد، وآخر، وآخر أيضاً، في كل مرة على مستويات مختلفة. ميشيل كونتا: تحتل الموسيقى موقعاً كبيراً في حياتك، لكن أناساً قليلين يعرفون ذلك... سارتر: كانت الموسيقى تعني الكثير بالنسبة إلي، كمتعة وكعنصر مهم من عناصر الثقافة. كان كل فرد من عائلتي موسيقياً: كان جدي يعزف على البيانو والاورغن، وكانت جدتي تعزف على البيانو بصورة جيدة، وكانت أمي تجيد العزف عليه أيضاً وتجيد الغناء، وكان خالاي الاثنان - لا سيما خالي جورج الذي كانت زوجته تتمتع بمؤهلات موسيقية جيدة جداً - عازفين ممتازين على البيانو، وأنت تعرف ان ابن خالي ألبرت شفايتزر كان لا بأس به في عزف الأورغن... وباختصار، كان كل واحد من عائلة شفايتزر يعزف، وفي أثناء طفولتي عشت في وسط موسيقي. في نحو الثامنة أو العاشرة من عمري كنت أتلقى دروساً في البيانو، ثم انقطعت عنها حتى الثانية عشرة، في لاروشيل. هناك، في المنزل الذي كنت أعيش مع أمي وزوجها الثاني، بعد ابيه المتوفى، كانت غرفة الاستقبال واسعة، ولم يكن يدخلها أحد إلا عند استقبال الضيوف، لكن فيها بيانو كبيراً. وهناك كنت أستعيد ما تعلمته بمفردي، في البدء كنت أعزف مقاطع من الأوبيرات، وبعد ذلك معزوفات بأربع أيدٍ، كنت أعزفها مع والدتي، لمندلسون على سبيل المثال، وشيئاً فشيئاً، بدأت أعزف مقطوعات أصعب، لبيتهوفهن وشومان وباخ في مرحلته المتأخرة، عزفاً لم يكن متقناً تمام الاتقان، لكنني استطعت أخيراً ضبط درجة السرعة tempo الى هذا الحد أو ذاك، وان لم يكن ذلك بصورة دقيقة تماماً، لكنني حاولت ان اضبط الميزان الموسيقي الى حد ما. ثم أفلحت أخيراً في عزف معزوفات صعبة نسبياً، مثل سوناتات شوبان وبيتهوفن، باستثناء سوناتاته الأخيرة جداً، الصعبة جداً. لكنني كنت استطيع عزف بعض مقاطعها. وعزفت شومان وموتسارت، وكذلك ألحاناً من أوبرات أو اوبيرتات مما كنت استطيع غناءها ايضاً. بل كنت اعطي دروساً في البيانو عندما بلغت العشرين من عمري، في الايكول نورمال. وفي الأخير أصبح العزف شيئاً مهماً بالنسبة إلي. على سبيل المثال، كانت سيمون دي بوفوار تأتي بعد الظهر للعمل في بيتي في 42 شارع بونابارت، وتبدأ بالقراءة أو الكتابة قبل أن أفعل انا مثل ذلك، وكنت غالباً أجلس أمام البيانو زهاء ساعتين. ميشيل كونتا: هل عزفت لأصدقاء؟ سارتر: كلا، لم يطلب مني أي منهم ذلك. في ما بعد كنت أعزف مع ابنتي المتبناة آرليت: كانت تغني أو تعزف على الناي، وكنت أصاحبها في العزف. كنا نفعل ذلك لسنوات عدة، ثم، يا ويحي، لم أعد استطيع الآن ان أعزف أي شيء. لذلك صرت استمع الآن الى الموسيقى أكثر من أي وقت مضى. وأملك ان أقول إن لدي معرفة جيدة بالموسيقى، من الباروك حتى اللامقامية. ميشيل كونتا: لم تؤلف عملاً موسيقياً ما؟ سارتر: نعم، بل انني ألفت سوناتا ايضاً، وهي مدونة. أظن ان كاستور سيمون دي بوفوار لا تزال تحتفظ بها. لعلها أشبه قليلاً بديبوسي. لا أذكر جيداً أي شيء آخر. أنا أحب ديبوسي كثيراً، وكذلك رافيل. بعد هذا كله، يبدو من المستغرب انني لم أتحدث عن الموسيقى في كتبي. أحسب ان ذلك يعود الى أنه ليس لدي الكثير مما أقوله بشأنها مما لا يعرفه الناس. طبعاً هناك تلك المقدمة التي كتبتها قبل زمن طويل لكتاب رينيه لايبوفتس احد الموسيقيين القلائل الذين تعرفت اليهم بصورة شخصية لكنني في هذه المقدمة تحدثت عن الموسيقى أقل من معنى الموسيقى، وهي يقيناً ليست من بين أفضل كتاباتي.