الظهيرة تقطر حزناً وندماً وحنيناً، لحظة ان عالجت مفتاح السيارة في عنق المقود، وانطلقت متعثراً بأخطائي ومبالغتي في تضخيم ذاتي، على رغم أنني أركب سيارة "دايو" اشتريتها أخيراً من بقايا السيارات المنتهية الصلاحية لشركة "ذيب للتأجير". طيور القوارير تبشر بموسم صيد جيّد، وهي تغطي سماء طريق الملك عبدالعزيز، ففتحت زجاج النافذة اليدوي، وشممت بعمق الهواء المسجون في الخارج حتى طار حراً في صدري الشاسع. توقفت عند سوبر ماركت بنده، بعد أن أطفأت محرك السيارة الكورية، فاختنق محمد عبده وهو يُطرب طيور القوارير الهائجة في سماء الرياض، مغنياً: "لنا الله يا غالي!". كم يحترم خطوتي هذا السيد المحترم المدعو "باب زجاجي أوتوماتيكي" وهو ينفرج بضلفتيه سريعاً حالما يراني. مررت بشموخ وقد قلت لنفسي: فرجت!! ها هي الأشياء بدأت تحترمك، وفي القريب ستفعل الكائنات مثلها! قد يبقى الإنسان آخر من يحترمك، لكنه حتماً سيفعل! فلا تكترث! في ممر السكر والطحين كانت بنت ترمي طحين عينيها في قلب شاب يركض خلفها، ويمد يده بورقة صغيرة، فتلتقطها بعينين مغتبطتين، تنضحان سكراً وطحيناً وعشقاً الى ما لا تعرف! عند الثلاجة رميت سلة البلاستيك الحمراء فارغة، وقد تذكرت موت أبي منذ أيام، فلم تعد ثمّة جدوى من أن أجلب له عصير الربيع المشكل. مددت يدي الى علب المشروبات الغازية المثلجة، فباغتني بالصقيع المنتشر فوق أجسامها، إذ كانت تشبه جثث موتى محتجزين داخل ثلاجة، لا يمكن أياً منهم الخروج إلا بعد سداد فاتورة مستحقات علاجه المتأخرة. أخذت علبة "سفن أب دايت" وقد حسست أنها تحمل برودة جسد أبي في ثلاجة المستشفى الخاص. كانت باردة جداً حدّ التجمّد، وكذلك جسد أبي الضئيل يتجمّد محتجزاً داخل الثلاجة. "إكرام الميت دفنه!" قالت أمي. أعرف ذلك، وأحب أبي كثيراً، ولكن كيف لي أن أكرِّمه، وأدفنه وهو سجين في ثلاجة ضخمة، محروسة بأقفال عنيدة لا تنام ليلاً ولا نهاراً. كان عليّ أن أدفع المبلغ الباهظ حتى أتسلّم الجثمان وأكرمه بدفن يليق برجل نجدي وقور، في مقبرة تليق بحياة البسطاء المحاربين. ولكن كيف يمكن من لا يملك سوى سيارة "دايو" كورية مدعوكة بالأقدام والمؤخرات، ويقيم في بيت مستأجر، أن يدفع أجرة ليالٍ وأدوية وتخدير وتشريح وتنغيص عشرة أيام متتالية!! مددت يدي نحو المحاسب بريال واحد، ثمن علبة "سفن أب" واحدة، صحيح انني حررت هذه العلبة من صمت الموتى في ثلاجة سوبر ماركت بنده، لكنني لا أملك أن أحرّر جسد أبي من ثلاجة المشروبات الغازية في ثلاجة المستشفى الخاص، وقد صار أبي بعد سنوات من الشقاء إلى مجرّد علبة ليست رخيصة! قبيل أن أدخل مسجد الراجحي وقت صلاة العصر حسدت الأثرياء الذين يجيئون بجثث أقربائهم بعربات الإسعاف الحمر، ويدخلونهم مغسلة الموتى كي يتطيبون ويغسلون بالماء والسدر قبل الصلاة عليهم، وقد تمنيت أن أحضر أبي كي يبتهج مع الموتى المسترخين بدعة فوق المصاطب. لا بد من انهم من الوجهاء الذين تستقبلهم المستشفيات الضخمة، أو ممن يملكون دفع تكاليف الاقامة في مستشفى خاص يرى زواره صورهم على ممرات الرخام اللامعة. قلت لنفسي: لمَ يحتجزون الموتى في الثلاجات، إذا كان وارثوهم لا يملكون نفقة علاجهم. بعد الصلاة تمدد الموتى الأثرياء قبالة الإمام، ودعوت لهم ولأبي أيضاً، وقد كنت أفكر وأتخيّل انه معهم، كأنني أصلِّي عليه صلاة الغائب. ليس ثمّة جدوى من أن يقف الرجل حاملاً حاجته أمام المصلين، تلكم الفواتير البغيضة، بخاصة بعد أن حرض إمام مسجد ما، على أن يخرج من الجماعة ممن يعمل في مكافحة التسول أو الشرطة، ليتولى أمري، فتعثرت في فمي الكلمات مصطدمة في سلالم حلقي، ودهمتني نوبة حياء وانكسار وسخط، فخرجت بعيداً أحمل حزن أمي ولوعة فقد أبي، وأنثرها على أرصفة طريق الإمام سعود، حتى توقفت قرب منزل، على سوره الخارجي تستند برّادة ماء سبيل، فشربت بعدما ملأ عامل بنغالي قارورته البلاستيك الضخمة ومضى. في الطريق الى المستشفى حيث ينام أبي في الثلاجة منذ أسبع فتحت علبة ال "سفن أب دايت" الباردة، وأدرت المحرك، فشهقت فيروز وهي تلون واجهات محلات الدهانات والسباكة والسيراميك بصوتها: "أسامينا... شو تعبوا أهلينا!!" فطارت بي الذاكرة الى نهاية كانون الثاني يناير للعام الرابع والستين بعد تسعمئة وألف للميلاد، حيث استردت أمي لونها في غرفة علوية من بيتنا الطيني في الشميسي القديم، وقد صرخت هازئاً بالعالم حولي، فرقصت جدتي وهي تعلن: "ولد"! ها قد جئت بعد سبع بنات كسيرات الأجنحة، دون أن ينفع جناحاي في تخليص أبي من صقيع ثلاجة الموتى!! من دون أن أستطيع أن أرمسه في دفء تربته! قالت أمي: "اسمه يوسف"!! وأوصت رسولاً الى نخل خالد في الخرج حيث يغيب أبي لأشهر مشغولاً يجدُّ النخل ذا الرطب الشهي، فيجلبه الى سوق المقيبرة. عاد الرسول يحمل كلمة أبي بالانتظار لحين عودته، فإن كان المولود جميلاً فاسمه يوسف، وان كان غير ذلك فعبدالله!! كم تعبت يا أبي على اسمي!! كم تعب أهلي!! كما تغني السيدة فيروز، لكنني لا أملك أن أصنع شيئاً! ماذا قلت يا أبي؟ أنا أملك الكثير؟ كيف؟؟ لم أسمعه جيداً، فارفع صوتك حيث أصوات الموتى عادة مملوءة بالخنة، وأصواتهم تخرج من أنوفهم المقفلة!! نعم الآن أسمعك بوضوح، تريدني أن أقف في الطوابير أحمل معروضاً بطلب السداد عن اقامتك في مستشفى! أن أقف على بوابات الوجهاء، أتأمل سحنة الحراس ووجوههم الباردة! كيف تريدني يا أبي أن أتحوّل الى شحاذ وأنت تسقي الكرامة في عروقي منذ الطفولة! ماذا؟؟ أتقول انني صرت شحاذاً مذ وقفت أمام جماعة المسجد؟ أتسخر مني يا أبي؟ أتشمت بي وأنت ميت وقابع في ثلاجة مثلك مثل علبة "سفن أب"؟ نعم؟ أبداً يا أبي لم أسخر منك، فالعلبة أرخص منك سعراً، ثمنها ريال واحد، أما أنت فثمنك كرامتي! أرأيت الفارق؟ العلبة يا أبي حررتها من وطأة صقيع الثلاجة في ثوان، أما أنت فلا بد من أن أقف مهزوماً ومجروحاً في طابور الانتظار الطويل! أن أمد ورقة موتي بخنوع، كي أخلص موتك! هل رأيت يا أبي؟ خلاصك من الموت وحياتك الجديدة في التربة يعادلهما موتي في الحياة! لا عليك، سأتولى الأمر يا أبي! سأبحث عمّن يقودني الى طوابير الموت، وسأسحقها مثل حشرة عند بوابة ضخمة! ماذا؟ تسألني من التي سأسحقها كحشرة؟ انها كرامتي يا أبي! في محل الزهور والهدايا، عند مدخل المستشفى، فتحت البراد المملوء بورود الجوري الحمر الطرية، ودخلت كمن يبحث عن وردة، فصعقتني البرودة الشرسة، وقلت لنفسي لو كان أبي في هذا البراد مجاوراً لورد الجوري لكان أكثر اطمئناناً، فتشت عن وردة حمراء يانعة، ثم همزت البائع الهندي بعشرة ريالات وخرجت. في المصعد نحو الدور الرابع تذكرت أن أبي لم يعد في الغرفة، وما إن خرجت من المصعد في الدور الرابع وتوقفت دائخاً حتى لمحت ابتسامتها وهي تدعوني، وتضحك بحزن: "هل نسيت اليوم أيضاً؟". قلت نعم، وقد ظنّت انني أبحث عن ابتسامتها في بلاد تتجهم التربة فيها!! تلعثمت وأنا أضع الوردة على "الكاونتر" أمامها، قائلاً ان أبي يبحث عن الورد، ولها أن تهديها لمن تحب. قبل أن أدلف في جوف المصعد ثانية سألتني موظفة قسم الجراحة، بلهجتها السورية عما إذا كنت خلصت أبي من حصار الثلج أم لا، فقلت لها: على وشك!! بينما انتظر الدخول على المدير التنفيذي للمستشفى، كنت أفكر في من ينشجون حزناً في المقابر لحظة دفن آبائهم وأمهاتهم، ألا يجب أن يكون هؤلاء سعداء للغاية، وقد تدبروا أمورهم، وأوجدوا لأهاليهم فسحة دافئة من الأرض المتجهمة!! أليس البكاء يحق لمن يقف على جسد أبيه ملفوفاً في صقيع الثلج، من دون أن يملك أن يهرب به الى أقرب أرض تحتضنه في دفئها؟! أشار السكرتير نحوي بالدخول. وقفت أمامه. فرفع نظارته الطبية الدائرية، وحدق بي بهدوء قبل أن يكنس صوته وقفتي: "أنت ثانية؟"!. نعم أنا أيها السيد المدير، جئت أطالب بأبي السجين في ثلاجتكم الموقرة، حتى أهيل عليه التراب والحزن والوحدة، جئت أخلص أبي من براثن موت جديد. لقد مات أبي مرتين: مرة على سريركم الأبيض، ومرة ثانية على ثلجكم الأبيض!! ماذا لو خمد تيار الكهرباء فجأة عن الرياض ليوم واحد؟ ماذا ستفعل بجثة أبي العطنة؟ هل سترمي بها في مزبلة المستشفى؟ أم ستحرقها وتذرو رمادها في وجه السموم كي تكسو الرياض هجمة ريح قانطة؟ قبل أن أخرج سألته: هل هناك تيار كهربائي احتياطي فيما لو خمدت الكهرباء عن الثلاجة؟ نظر إلي وقال بشفقة: "نعم!" ثم أعاد نصيحته علي بأن أكتب معروضاً واستعطافاً لأحد الوجهاء حتى يتكفل سداد مستحقات علاج أبي وعملياته، وإذا كنت أملك صداقة مع صحافي، فعليَّ أن أبادر نحوه كي يعلن فضيحتي على صفحات المحليات حتى ألفت انتباه أهل الخير!! قلت له سأفعل، خرجت من بوابة المستشفى لا ألوي على شيء، وقد طار غراب اسحم قرب شجرة البنسيان التي تظلل عربة الإسعاف، فبكيت. * روائي وقاص سعودي.