«جاسر هرب يا حسين، لازم تتصرف إنت وأخوك». حاولت التركيز من جديد. متى هاتفتني أمي؟ «وهل قتل جاسر أخي بالفعل» الفرح شغال، وسعيد عبدالمنعم يحدق في عقارب ساعته، وأنا شبه مخدر، تائه، مسطول، تعبان، والفرح شغال، حضرت الراقصة، خطت من أمامي، فضوى جسدها الأبيض وبان القوام الممشوق حين انبطح الصبي. أحمد غزّ ابن أمين بالسونكي في قفاه؟! النمل يسرح في رأسي، وأقدامي ترتعش، وموتور العبرة الدودج ما زال دائراً والساعة تقترب من الثالثة بعد منتصف الليل، والرجل الملتحي يرمقني من الشرفة العالية المواجهة لقعدتنا، دفع زوجته المنتقبة بكلوة يده فنهضت تترك الشرفة محتجبة خلف ستارة سوداء. وكأنني لم أسمع شيئاً، الساعات تمر، ويقترب أذان الفجر، وما زال الرقص يدور فوق المسرح الخشبي المرتفع، وسعيد يمد يده وسط المائدة ليتناول علبة «السفن أب» قام بفتحها، ناولني فشربت. شربت حتى آخر قطرة، أفقت على اصطكاك الكراسي، فتبينت صوت المؤذن. دلقت الماء فوق رأسي، غسلت وجهي مرتين، ووقفت فجأة ولازمني هاني فسار على يميني، وبات سعيد في يسار وقفتي، كنت قد قررت وبقوة، أن أفعل ما أراه صالحاً، نعم الآن، الآن تحديداً يا حسين عليك أن تفعل ما تمليه عليك الأقدار نعم «الأقدار» قدرك. تركنا طريق مصر حلوان الزراعي، وقصدنا الأوتوستراد، واختلف هاني الجبالي وسعيد عبدالمنعم على طريق ومسار السير، وسعيد يسألني: إلى أين نحن ذاهبون؟ قلت «بورسعيد أولاً يا سعيد» وماذا ستفعل في بورسعيد، «عليك أن تفكر في الدفن أولاً، لن أدفن أخي يا سعيد، سأسافر الآن إلى بورسعيد. سعيد ممسكاً بهاتفي المحمول بعدما قرر الرد على كل مكالماتي، كنا قد تركنا منطقة الهايكستب، وطارت الدودج على الطريق الصحراوي، الساعة الآن تقترب من السادسة والظلام ما زال منتشراً، ثمة ضباب يزحف بهالاته الشيطانية، ضباب رمادي، علي شقيقي يهاتف سعيد، كان قد عقد العزم على التخلص من أبناء أمين واتفق مع قدري على ذلك وكأنه قد أيقن ما أردته أو خططت له منذ سماعي الخبر، أو قل منذ حدوث الاعتداء على عادل أمين من قبل أشقائي منذ ثلاثة أسابيع، السماء سوداء، ولا نجمة واحدة في الفضاء المتسع، وأنا أضحك في ذهول – أتمرد على الكرسي الخلفي مطلاً لأعلى أرقب سواد السماوات، وهاني يناولني الهاتف من جديد، ويأتيني صوت أحمد شقيقي الأصغر. حسين إيه رأيك إحنا في الطريق في الإسماعيلية وإسعاف مستشفى الأميري ورانا، وأخوك جاسر جرحه ينزف ومحدش فينا عارف هوه ميت، ولا لسه فيه الروح. ضحكت من جديد، وتذكرت كل ما دار في عقلي، كل ما سيطر على مخيلتي في السنوات الثلاث الأخيرة، جاسر وأحمد ضربا عادل أمين، وجاسر هارب منذ ثلاثة أسابيع، وعادل أمين مكث في مستشفى ناصر 12 يوماً وهرب، عادل أمين يقول: «مش هيسيب جاسر، ناوي يقتله، وأنا أقول في نفسي: عليك باتمام ما أتيت من أجله، قدرك؟!، نهاية الرحلة، كنت عارف إن دي هتكون النهاية. «جاسر هيقتل عادل، أو عادل هيقتل جاسر، لا فرق الآن»، الدموع تدفقت من عينه، فاتسعت حدقتي وصرت أكثر بصيرة أحدق في الأفق وفي جنبات السيارة الدودج – والطريق – طريقي، طريق أبناء عبدالرحيم. قرب القنطرة غرب طلبت من سعيد التوقف، مع سريان أول ضوء للنهار هبطت تاركاً السيارة وانتحيت جانباً ساحباً المصلية الحمراء في أسود من شنطة الدودج، نويت الصلاة فقصدت القبلة، فوق رمال مبتلة وفي فراغ الخلاء، دعوت ربي، وكأنني أدعوه للمرة الأولى «اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه». انتهيت من صلاتي ووجدتني وقد تكومت على السجادة في العراء، مع نسمة ما بعد الفجر، تكررت الاتصالات من شقيقي أحمد وناولني سعيد الهاتف وجاءني صوت أحمد: «حسين – إحنا واقفين في أبو خليفة، وأبوك مش عايز يدفن جاسر إلا في حضورك». «أنا قريب منكم يا أحمد، هكلمك تاني». تمددت على الكرسي الخلفي من جديد، وسعيد ما زال صامتاً يرقبني بأسى وحذر، وهاني يدخن بشراهة، ويده على المقود بعدما أطفأ محرك السيارة، والموج يضرب في رأسي، وصورة جاسر بملامحه البريئة ممددة في خيالي ولون الدم أمام عيوني، تتناثر قطراته في حالة غليان، ثمة هياج وفوار يهزان كياني، صور وحشية تتحرك أمامي، تهز خلجاتي، تقتلعني من ثباتي الظاهري، تدعوني للاندفاع تارة، والتريث تارة أخرى. - أخوك اتقتل يا حسين؟ - عادل أمين قتله. اتشح المكان من حولي – رائحة دم طازجة، سعيد يشد جلد باطن كفه بعدما احترق على أثر لهب الولاعة الموجهة الى القطعة المكومة في منتصف باطن الكف الأيمن، قضم جلد الكف بأسناني فزاد الدم غزارة، العربات تهوي فوق الإسفلت الأسود والسجادة ما زالت تفترش الرمال المبللة بالندى وأنا أحدق في الرسوم السود التي يطفو إحمرار خيوطها المزركشة التي تتوسط المصلية، ثمة مقابر في البعيد، شواهد قبور، تلال ورُبى، وجبال عالية، رؤية متسعة المدى، الأفق السماوي بات قريباً للبياض، جاسر يحضك، يهزي يفر، فرار وتحليق، وطوق، واشتياق، أحلام مجهضة أعقبتها خيبات طويلة، 30 سنة يا جاسر. 30 سنة – أنت هناك – وأنا هنا؟! والتواصل مستمر من دون انقطاع يذكر. - ألوه – أيوه أنا قدري يا حسين - لا... أنا سعيد عبدالمنعم معاك، لو سمحت بلغ شقيقي بأن هناك حادثة على الطريق والشبورة كثيفة وجاسر لسه فيه الروح. - ياريت يا سيد سعيد تبلغه. لازم نغير الطريق؟!».