أنا الشهبندر أنا من أعرف بالشهبندر بين جماعة التجّار. كنت أغضب إذا ناداني أحد بهذا اللقب، وأخجل إذا تهامس به الأصدقاء! كما أحتجّ بحزم كلما سمعتهم يقولون: التجارة شطارة. 000 لم أكن أشطرهم، بل كنت أكثرهم إقبالاً على الحياة، لهذا أشعر بالفرح، وكأنّ الكتاب الذي دخلته - ماذا تسمونه؟ - قد منحني حياةً جديدةً... لا يمكنني سوى موازنة فرحي هذا، مع شعوري بالتوسع المدهش لحظة موتي الفريدة تلك. الآ يبدو لي ما أراه مألوفاً كأنه يخرج من ذاكرتي، ومدهشاً كأنني أسمعه لأول مرّة! مضى وقت طويل على تهشمي دفعة واحدة... خلال جزء من الثانية اهتزّ كياني كله، لكني عشت التفاصيل: أحسست بانسحاق وجهي وجبيني، غمازتي على الخد الأيسر التي كانت تُعجب لوليتا لم يبقَ لها أثر، تكسّرت عظامي وانبعج بطني، أذكر ان فمي كان ممتلئاً دماً وزجاجاً! لا أدري ان كان ذلك حقيقة أم بتأثير صور وخيالات سابقة. * * * كنّا في مقهى حمدان، أول طلعة الشابسوغ، حيث نلتقي نحن الشباب المتعلمين، شاعرين بالتميُّز على من هم أقلّ منا حظاً بالتعليم. إثر انتصاري عليه في دوري الشطرنج، خطر ببال الشيخ بدري الذي تخرّج في الأزهر حديثاً أن يداعبني بلقب الشهبندر. ما بين تألق مهاراتي مع شاه الشطرنج، وتوسع تجارتي، وازدهار عمان، تعلمت التعايش مع اللقب، وأحببته، وان كنت أشعر أنه فضفاض عليّ، كما أشعر أن صفة مدينة فضفاضة على عمّان. شاه تعني السيِّد عند العجم، وبندر تعني المدينة عند المصريين كما يحلو للشيخ بدري أن يفسِّر... كيف جمعت الكلمة وصارت مرتبةً وامتيازاً؟ يضحك بدري على طريقة رجال الدين الشباب، ضحكة هي بين القهقهة المحكومة بالتعوُّد على الكبت، وبين التبسُّم الماكر، ويقول: الفضل في شيوع هذا اللقب يعود للطبعة المصرية لحكايات ألف ليلة وليلة، ولا فضل للساني الذرب في تركيبه كما تدّعي. الآن أتباهى بلقبي، وأفرح به لأنه صار اسمي. يقول المتورمون من زملائي انه لقب لا يعني شيئاً في النهاية: "فشيخ السوق هو كبير التجّار أبو عبدالرحمن العسبلي، وعمدة المدينة الجديد ورئيس مجلسها البلدي هو سامح بك، وأمير البلاد هو ولي نعمتنا وحامي مقدساتنا أطال الله بقاءه... وما أنت إلا لاعب شطرنج ماهر". ما علينا، كل واحد لديه ما يتباهى به، ولديه ما يخجل منه، حتى محسن العتّال يتميز بأنه يأكل صينية هريسة كاملة مع أوقية شطة حمرا من دون أن يشرب نقطة ماء، ويفاخر بذلك! * * * تسألون كيف صرت كبير التُّجار؟... لقد أخذت بالنصائح الذهبية التي كان يرددها أبي، ولم يحسن تطبيقها: ادّخر الموقف الصلب لصفقة رابحة. إذا رفعت سلاحك فعليك أن تستخدمه وإلاّ ارتدّ عليك. استثمر خطأ خصمك بمهارة. بخصوص المبدأ الأول أنت لا تعرف ان الصفقة رابحة إلا إذا ربحتها، أما حيال المبدأ الثاني فكنت أظنّ أنّ سلاح التاجر ماله ومصداقيته، وترسه النظام والأمن والقانون، فعلّمني السوق أنّ للتجارة أسلحة كثيرة آخرها المال والمصداقية، واكتشفت أنِّي رجل يشعر بالعجز أمام القانون: قانون البشر أو السماء، ولكن متى تحدّد السعر أستردّ قدرتي على الحركة والكلام! أرأيتم؟ من خالف أباه فما ظلم. أقرّ أنه - أذكره بلا ضغينة الآن - استغلّ غفلتي بمهارة، وقتلني بدم بارد من دون أن ينتبه أحد أنِّي مت مقتولاً، وهذا نقيض المبدأ الثالث. لما متّ، قالت نظمية خانم لزوجتي تواسيها: سعيد من مات وغبار الطريق على قدميه! لكنّ الغبار والزجاج كان في فمي، وليس على قدمي فحسب. * * * ... كانت أمي - رحمها الله - تدعو لي قائلة: روح يمّه، الله يبعدك عن الحاكم والحكيم، تعني السلطان والطبيب... وكنت قريباً منهما، وقادراً على التعايش معهما... وكنت سعيداً. الآن أدرك أنّي كنت سعيداً... انك لا تنتبه للتفاصيل التي مرّت بك إلا بعد أن يكتمل المشهد، أي بعد أن تموت، فقد كان لي دخل جيِّد، وأسرة أليفة وعشيقة رائعة، وكان لي زملاء عمل مرحون. أضحك من تلك الليالي التي سهرتها قلقاً على بضاعة لم تصل، أو زبون أهملته، أو صنف لم يخزن كما ينبغي، أو مبلغ من المال لم يسجّل في دفتري بدقّة. بدأت تاجراً للسكّر... ثم صرت أدير عملاً واسعاً وناجحاً. كنت أتبع خطة بسيطة لكنها صعبة: كل عام أضيف جديداً. لكن النجاح لا يسير بخطّ مستقيم صاعد، بل تنتابه العثرات ويلمّ به النكد، والحصيف من قاده الوقوع في الخطأ الى الحلّ الأكثر صواباً. لحظات التعثُّر والنكد، كنت أفكر بمهنة والدي، وأسأل نفسي: لماذا لم أبدأ من حيث انتهى والدي؟ أبي انتهى جمّالاً ينقل بضائع التجار على الجِمال، بعد الجِمال تأتي مرتبة الشاحنات، لماذا لا أشتري سيارة ترك، وأعمل سائق شحن، أحلم بتلك السيارة التي تزاحم الجِمال والبِغال والحمير، وتفرض هيبتها على الناس في السوق، فيتراكضون حولها زاعقين مستبشرين، وتفرّغ حمولتها من السكّر والأرز والشاي والبن، أو تشحن بضاعتها من القمح والصوف والجلود بكلّ فخر. لم لا أعمل سائقاً يجوب البلاد: يوم في الشام، ويوم في حلب، ويوم في بيروت، ويوم في القاهرة. أسافر الى بغداد شرقاً، أو الى حيفا غرباً. أصلِّي الصبح في الأقصى، وأفطر كنافة نابلسية، وأتغدّى قدرة خليليّة... وأتابع سيري الى غزة فالاسكندرية! تعلّمت سوق المركبات، واشتريت أتومبيل نوع دملر، يتناسب وسكني في جبل عمّان بين دار منكو وسكن أبو حنيك، ويعزِّز مكانتي في السوق. * فصل من رواية تصدر قريباً عن دار الآداب.