قبل أكثر من أربع سنوات، وعندما بدأ الصراع بين الإصلاحيين والمحافظين في إيران كان واضحاً أن الطلاب والنساء ومن هم في سن الشباب يقفون مع التيار الإصلاحي. بل ان الطلاب نزلوا إلى الشوارع واصطدموا مع قوات الأمن للتعبير عن موقفهم هذا. من هنا كان المشهد الإيراني آنذاك يعيد إلى الذاكرة الأيام الأولى للثورة: المظاهرات وبروز الطلاب إلى واجهة الأحداث، الاعتقالات والمحاكمات وإغلاق الصحف. بدا لي وقتها أن أبرز وجوه الشبه بين المشهدين أنظر الحياة العدد 13570 يتمثل في أن العامل الذي أدى إلى سقوط نظام الشاه عام 1979 يهدد بإسقاط التيار المحافظ الذي قاد الثورة ضد ذلك النظام، وهذا العامل هو "خسارة القاعدة الشعبية". خسارة التيار المحافظ لدعم القاعدة الشعبية كانت ولا تزال واضحة ومما يدلل على هذا أن الانتخابات البرلمانية والرئاسية السابقة، ومنذ 1997، ذهبت لصالح التيار الإصلاحي. والمؤشر الآخر أنه لم يعد أمام رموز المحافظين إلا اللجوء إلى الآليات القانونية والدستورية، وذلك بهدف المحافظة على مواقعهم وسلطتهم داخل الدولة. والحقيقة أن التجربة السياسية الإيرانية منذ الثورة كشفت أن دستور هذه الجمهورية الإسلامية صمم منذ البداية لمصلحة الفقهاء، ومصلحة احتكارهم للسلطة. وهذا واضح، مثلاً، في أن الدستور المادة السادسة يستبعد أهم مؤسسات الحكم في الدولة من عملية الاستحقاقات الانتخابية ويجعلها بالتعيين فقط وضمن دائرة الفقهاء دون غيرهم. وعندما يسمح الدستور بالانتخاب لهذه المؤسسات، فإنه يقصر ذلك على داخلها فقط، وبما يسمح للفقهاء بتدوير أنفسهم بين المؤسسات ذاتها. أهم هذه المؤسسات هو: مكتب المرشد, وهو أعلى سلطة في الدولة، ومجلس المحافظة على الدستور، صاحب قرار استبعاد آلاف المرشحين الإصلاحيين من الانتخابات التي جرت يوم الجمعة الماضي، وذلك بحجة عدم أهليتهم للترشيح. ربما تساءل البعض عن مصدر هذه السلطة السياسية والدستورية التي يتمتع بها مجلس المحافظة على الدستور، وهي سلطة تتجاوز سلطة رئيس الجمهورية. والإجابة تكمن في المادة الرابعة من الدستور، والتي تنص على "أن تكون كافة القوانين، والمقررات المدنية والجزائية والمالية والاقتصادية والإدارية والثقافية والعسكرية والسياسة وغيرها قائمة على أساس الموازين الإسلامية". وهذه المادة حاكمة على إطلاق كافة مواد الدستور والقوانين والمقررات الأخرى. وتحديد هذا الأمر هو من مسؤولية الفقهاء في مجلس المحافظة على الدستور. تعطي هذه المادة لمجلس المحافظة على الدستور سلطة شمولية على مختلف أنظمة وأعمال الدولة. وقد أوردت نصها هنا لأهميته أولاً، ولعلاقته المباشرة بما حدث ويحدث في إيران ثانياً، ولكشف التناقض الصارخ بين مطالب الإصلاحيين والإطار الدستوري الذي يتحركون داخله. تمت صوغ هذه المادة لوضع مجلس الشورى تحت رقابة الفقهاء المحافظين منذ البداية، فهي أولاً تهمش رئيس الجمهورية وتجعل من مركزه ودوره أمراً شكلياً، وثانيا تعطي لمجلس المحافظة على الدستور سلطة مطلقة حتى على رئيس الجمهورية وعلى مجلس الشورى، والأخير يفترض أنه السلطة التشريعية. وتؤكد هذه المادة ماهو أكثر من ذلك، وهو أن سلطة الفقهاء هي فوق السلطات الأخرى في الدولة. لاحظ أن هذه المادة لاتعطي في الحقيقة سلطة تحديد "الموازين الإسلامية" لمجلس المحافظة على الدستور تحديداً، وإنما تعطيها للفقهاء في هذا المجلس دون غيرهم. وهذا لأن مجلس المحافظة على الدستور يتكون من مجموعتين: الأولى ستة أعضاء من الفقهاء وينتخب هكذا حسب المادة 91 هؤلاء من قبل القائد أو مرشد الجمهورية، والثانية ستة من الحقوقيين من مختلف حقول القانون وينتخبون من قبل المجلس الأعلى للقضاء. ثم يعرضون على مجلس الشورى للموافقة عليهم. بناء على هذه المادة وغيرها من مواد الدستور الإيراني، هناك تناقض صارخ بين الخلفية الاجتماعية أو الشعبية للثورة، وبين النظام الاستبدادي الذي افرزته الثورة. الجمهورية الإيرانية جاءت نتيجة ثورة شعبية، وبالتالي فالقاعدة الشعبية شرط أساسي لبقائها ومشروعيتها. لكن هذه الجمهورية تقوم أيضاً، وبحكم الضرورة على أساس دستوري صممه المحافظون بقيادة قائد الثورة وقتها آية الله الخميني، وفقاً لرؤيتهم الدينية ومصالحهم السياسية. ومن ثم فالصراع الذي برز، بعد وفاة الخميني، بين التيارين المحافظ والإصلاحي هو صراع بين من يريد إعادة الانسجام بين الخلفية الشعبية للنظام السياسي الذي جاءت به ثورة شعبية، وبين الأساس الدستوري لهذا النظام، وبين من يرى أن هذا الإنسجام يهدد المضمون الإسلامي للنظام الذي أسسه المحافظون. هناك نوع من التداخل، بل والتماهي بين ما يسمى بالمضمون الإسلامي للدولة في الدستور الإيراني، وبين إحتكار الفقهاء المحافظين للحكم، سواء كان هذا في شخص المرشد أو مجلس الخبراء أو مجلس المحافظة على الدستور. من هذه الزاوية، لا يبدو أن تغيراً كثيراً حدث في جوهر الصراع أو في ديناميكية المشهد السياسي الإيراني منذ بداية المواجهة بين التيارين المحافظ والإصلاحي في إيران. فالصراع لا يزال بين من يملك أدوات السلطة على أساس من مشروعية الثورة، أو المحافظين، وبين من لا يملك شيئاً من السلطة، لكنه يتمتع بدعم القاعدة الشعبية أو الإصلاحيين. وللحقيقة فإن الكثير من قيادات تيار الإصلاحيين الآن كانوا ممن شاركوا في الثورة في شبابهم، وبالتالي فإنهم يشاركون المحافظين مشروعية الثورة هذه. بل إن بعضهم، مثل محمد رضا خاتمي وهو شقيق الرئيس، شارك في الاستيلاء على السفارة الأميركية إبان الثورة. لكن هؤلاء الآن يريدون أن ينتقلوا بالمجتمع الإيراني، وبعد ربع قرن على الثورة إلى مرحلة مشروعية الدولة وآلياتها الدستورية والاجتماعية. الاشكالية أن السلوك السياسي للإصلاحيين لا يبدو متفقاً مع هدفهم في تحقيق الحرية والتعددية. مثل هذا الهدف يتطلب إعادة تأسيس الدولة. لكن السلوك السياسي للإصلاحيين يؤشر إلى أنهم إما لا يستطيعون الإفصاح عن ذلك، وإما أنهم في تناقض مع أنفسهم. اكتشف من شاركوا في الثورة من الشباب الإيراني مع الوقت أن قيادة الفقهاء لهذه الثورة فرضت ثمناً باهضاً، وهو احتكار هؤلاء الفقهاء الكامل للسلطات الرئيسية في الدولة. وعلى رغم أن الدستور يشير إلى الفصل بين السلطات الثلاث المادة 57، إلا إنه في الحقيقة لا يفصل بينها، بل يجعلها كلها تحت إشراف "ولاية الأمر وإمامة الأمة" أو قيادة المرشد. وسمة الاحتكار هذه من قبل من قاد ثورة أو انقلاباً، أو عملية توحيد سياسية تتميز بها منطقتنا بشكل واضح ومن دون استثناء. لكن تتميز الحالة الإيرانية في أن من يحتكر السلطة فيها ليس فردا أو عائلة أو مؤسسة عسكرية، وإنما طبقة دينية محافظة، تستند كما هو ظاهر على أساس ايديولوجي مستمد من الإسلام. الذي يبدو أن الإصلاحيين يريدون أن يقدموا بديلاً قد يكسر رتابة هذا النمط التاريخي. السؤال هو: لماذا فشل الإصلاحيون وهم يملكون القاعدة الشعبية في زحزحة الفقهاء عن مواقعهم؟ وتتأكد أهمية هذا السؤال أمام تراجع زعيم الحركة الإصلاحية رئيس الدولة نفسه محمد خاتمي، وإذعانه أمام سلطة مرشد الجمهورية وسلطة المحافظين، خصومه الرئيسيين. ربما توفر الانتخابات البرلمانية التي بدأت يوم الجمعة الماضي مادة، إحصائية على الأقل، تساعد في الإجابة على هذا السؤال. كما أنها قد تكشف عن إن كان هناك تغير طرأ على المشهد الإيراني منذ الانتخابات الأخيرة قبل أربع سنوات. حتى تتضح نتائج الإنتخابات، ربما جازت الإشارة هنا إلى ما قاله الكاتب الأميركي ديفيد إغناشيوس في عموده في صحيفة "واشنطن بوست" عن قيادة الرئيس خاتمي للتيار الإصلاحي. فما قاله يحمل الكثير من براجماتية الثقافة السياسية الأميركية, لكنه يضيء جوانب من هذه المسألة. يقول إغناشيوس إن أهم سمات الرئيس الإيراني أنه مثقف أكثر مما هو سياسي. ومن ثم فإن طروحاته تبدو مضللة. فهمه الرئيسي إقناع الغرب بأن الإسلام يلتقي مع الفلسفة الغربية كما تعبر عنها كتابات ماكس فيبر وديفيد هيوم. لكن إشكالية خاتمي كما يراها إغناشيوس، والتيار الإصلاحي الذي يمثله، أنه لا يملك السلطة السياسية لوضع مرئياته التنويرية موضع التنفيذ. وهذا صحيح. لكن الصحيح ايضاً، والأكثر أهمية هنا هو أن سبب فقدان الإصلاحيين للسلطة السياسية يعود في الأساس إلى أن هؤلاء الإصلاحيين مرتبطون في الأخير بالمدرسة نفسها التي ينتمي إليها المحافظون، وهي مدرسة الإسلام السياسي الذي يرى ضرورة الجمع بين الدين والسياسة ضمن معادلة سياسية واحدة، وضمن مؤسسة سياسية واحدة، هي مؤسسة الدولة. والأرجح أن هذا الارتباط كان السبب وراء إذعان خاتمي لسلطة المرشد، وهي سلطة تحيط بها قداسة نشأت مع الثورة ومع قيادة الخميني تحديداً. لم يقدر الإصلاحيون، كما يبدو، أن البعد الديني للثورة هو الذي يغذي التيار المحافظ، والمصدر الأساسي للدستور. فباسم المحافظة على الشخصية والروح الإسلامية للدولة، وباسم حماية القوانين الإسلامية، وضعت مهمة حماية الدستور تحت تصرف الفقهاء، لأن هؤلاء هم المؤتمنون وحدهم على مهمة بهذا الحجم وبهذه الخطورة. ما عداهم لا يملك الأهلية، ولا الصدقية الأخلاقية لمثل هذه المهمة. من هنا لا بد أن يكون مطلب تغيير الدستور هو الشعار الأول للإصلاحيين، خصوصاً المادتين الرابعة التي تضع مجلس الشورى تحت وصاية مجلس المحافظة على الدستور، والخامسة التي تنص على ولاية مطلقة للفقيه على الدولة بكاملها. بمثل هذا الطرح سيكون موقف الإصلاحيين يتناقض بشكل واضح ومميز مع طروحات وسلطات التيار المحافظ ممثلاً في رموزه من الفقهاء. وهو تناقض سيساعد الكثيرين ضمن القاعدة الشعبية على حسم مواقفهم بشكل واضح. هذا التناقض يجعل الخيارات واضحة وبينة من دون لبس، وبالتالي قابلة للقبول والرفض على أسس واضحة. لكن من دون تغيير الدستور سيبقى الإصلاحيون رهينة لسلطات وهيمنة التيار المحافظ. في السياق الحالي للمشهد السياسي الإيراني، قام المحافظون بانقلابهم السياسي الأخير أملاً بالسيطرة على أغلبية مقاعد مجلس الشورى. يريد المحافظون أن يستند احتكارهم للسلطة على قاعدة شعبية. ستكشف الانتخابات مدى نجاحهم في هذا. في الوقت نفسه لا أحد يعرف ما الذي قاله الرئيس خاتمي لمرشد الجمهورية في مرافعته ضد ذلك الإبعاد، ومدى دستوريته. من الناحية السياسية والثقافية يقول الرئيس خاتمي ما هو منطقي وصحيح، وما هو تنويري كذلك. لكن ربما أنه داخل الدوائر الحاكمة يجد نفسه في حال افتراق بين ما يقوله ويؤمن به هو، وبين ما ينص عليه دستور الجمهورية. ترى، هل هذا هو موقف رئيس الجمهورية؟ وهل هو موقف التيار الإصلاحي كذلك؟ إذا كان هذا هو موقفهم، فإن التغيير يتطلب جيلاً آخر من الإصلاحيين غير مرتبط بقداسة الدستور المستمدة من قداسة قائد الثورة. * كاتب سعودي.