قصة مختلفة منعت ايرلندا كتبه حتى الستينات، ورد بالقول ان عاصمة بلاده هي "مدينة الفشل، الضغينة والتعاسة". لكن ايرلندا تتاجر بابنها اليوم وتبدأ احتفالات يتوجها بعد ستة أشهر "يوم بلوم" في 16 حزيران يونيو المقبل. "بعد عشرين سنة، هل سيذكر أحد ما هذا اليوم؟" تساءل جيمس جويس. ايرلندا تقول نعم بعد مئة عام، وتشترك حكومتها مع شركتي نقانق وبيرة في تمويل الاحتفالات بالذكرى الأولى لصدور "يوليسيس". هل كانت "يوليسيس" أعظم رواية في القرن العشرين أو أكثرها اثارة للملل؟ "أطول مما يجب" قال رودي دويل في احتفال في نيويورك "لا تحرك القارئ، وتُبّجَل أكثر مما تستحق". جيمس جويس نفسه ليس أفضل كاتب ايرلندي بل جنيفر جونستون المؤلفة المغمورة ل"قواد وملوك". طالب دويل بالغاء الاحتفال التقليدي ب"يوم بلوم" لخمس سنوات لئلا يضطر أحدهم الى قتل ديفيد نورس السيناتور والخبير في جويس، أو ترحيله. ورد هذا ان الكثيرين من متوسطي الموهبة يحاولون لفت الأنظار بمهاجمة جويس، علماً أن دويل حائز جائرة بوكر. ملّ الأخير اعتماد جويس معياراً يقارن كل الأدباء الايرلنديين به ويتهمون بسرقته كلما كتبوا حواراً بلهجة دبلن. "هراء الاعتقاد انه يملك لغة أهل دبلن أو أنه اخترعها". كل عام يزور نحو ثلاثين ألف سائح مركز جيمس جويس في دبلن، ويقول مجلس السياحة فيها ان اثر الكاتب في موارده لا يقدر. يتوقع مشاركة مئات الآلاف في الاحتفالات التي تضم ندوة ومعارض وفيلماً وعرضاً بالموسيقى والضوء على نهر ليفي. وتنشط تلاوة نصوص من روايات جويس الأربع، علماً ان احدى مجموعات المطالعة أمضت سبعة أعوام ونصف العام للانتهاء من "عزاء فينيغان". المتقاعدون من أهل دبلن أشد المتحمسين لمجموعات المطالعة، لأنهم يملكون الوقت الكافي لقراءة جويس الذي تكاد روايته ىوليسيس" تبلغ ألف صفحة. على ان "بلومز داي" يبقى الأكثر جاذبية بتقليدها نهاراً في حياة ليوبولد بلوم وصديقه ستيفان ديدالوس الذي كان نسخة واضحة لجويس في أول عشريناته. ينطلق المشاركون مثلهما من المنزل الرقم سبعة في شارع ايكلز، ويأكلون الأحشاء المقلية ويجرعون الجعة ويطوفون المدينة لينتهوا في بيوت البغاء، أو أمامها. قال جويس ان دماغه يشبه دماغ بقال، ويستغرب كثيرون هذا الاجلال لرواية كاتب حرص على تدمير المقدسات. رأتها ايرلندا داعرة عندما صدرت قبل مئة عام، لكن جويس تجرأ يومذاك على الزيف واللاسامية في الوقت الذي عني باللغة وأفعال كل يوم. مئوية "يوليسيس" تلقي الضوء أيضاً على ابنته لوتشيا، وأمس بدأ عرض مسرحية "كاليكو" على خشبة "ديوك أوف يورك" عن المرأة المضطربة التي ستصدر الطبعة البريطانية من سيرتها في أيار مايو المقبل. تزوج جويس نورا بارناكل شبه الأمية التي شك في أن تكون عملت مومساً قبل أن يلتقيها وطلب منها أن تكتب له رسائل خلاعية كلما فارقته لسبب ما. انجبا جورجيو الذي سحقته شهرة والده، ولوتشيا التي ساعدت الكاتب في انجاز الألاعيب اللفظية المتعددة اللغات في "عزاء فينيغان". بدا ان الأسرة وجدت فقط لخدمة الكاتب الذي كان بطيئاً وخضع لأكثر من عشرين عملية لعينيه. تقول كارول لوب شلوس في "لوتشيا جويس: الرقص في العزاء" الصادر في أميركا ان لوتشيا كانت راقصة استثنائية ورسامة مبتكرة وإن غريبة. كانت في الحادية والعشرين عندما عمل صامويل بيكيت الذي كبرها عاماً واحداً مساعداً لوالدها في باريس. يبدو انها أحبته وليس أكيداً ما إذا كانا ارتبطا بعلاقة أو لا، على أن جويس طرد بيكيت بعد فترة ومنعه من الاقتراب منه. كانت لوتشيا تنفجر في نوبات سباب وعنف ورمت والدتها يوماً بكرسي. شلوس ترى أسباب ثورتها اجتماعية، في حين تفسر برندا مادوكس في سيرتها عن نورا سلوك الابنة بالفصام الخطير الذي لا يحول دون صفاء الذهن غالباً. لا يمكن اليوم التأكد من حال لوتشيا لكثرة النظريات والعلاجات الغريبة التي سادت يومها وخضعت هي لمعظمها. هؤلاء الأطباء، قالت، يحاولون "الامساك بروحي" ولم ينفعها أي منهم بمن فيهم كارل يونغ الذي كره "يوليسيس" في شدة وتساءل عن الأسباب النفسية لنفوره. عزا يونغ فشله في علاجها الى التماهي بينها وبين والدها الذي رفض القبول بجنونها، لأن ذلك عنى له أنه هو أيضاً مجنون. قال بيكيت ان لوتشيا "باتت جزءاً من قصة مختلفة"، ويستعير كاتب "كاليكو" عبارة قالها يونغ عن فتاة توفيت طفلة: "لم تولد تماماً". افتقرت أسرة جويس الى الاستقرار وانتقلت من بلد أوروبي الى آخر عندما خلصت المساعدات المادية الكاتب من فقره. تعلمت لوتشيا لغات عدة لكنها لم تحصل على دراسة ملائمة، وكثيراً ما تركت وحدها في البيت مع شقيقها. اعتقد جويس ان هجره ايرلندا يمنحه حرية مطلقة، لكنه بقي ايرلندي الروح، واستفاد من الدراسة التقليدية التي تلقاها في مدارس "الاخوة المسيحيون". تقول شلوس ان لوتشيا قد تكون نموذج ميلي المشاكسة في "يوليسيس" أو ابنة ايرويكر في "عزاء فينيغان" أو زوجته - الآلهة التي تتحول الى نهر ليفي الذي يجري الى البحر: "وهو قديم قديم حزين وقديم حزين ومتعب أعود اليك يا والدي البارد". حفيد جويس احرق مراسلاته بما فيها تلك التي تبادلها مع ابنته، ولا شيء يؤكد التكهنات التي شاعت عن علاقة زنا بينهما. المتحمسون يتمسكون بقول لوتشيا لوالدها: "لن أخونك أبداً" وبعلاقة الأب بابنته في "عزاء فينيغان"، لكن جواب الأسئلة قد لا يظهر أبداً. آباء وأبناء يكتب ف.س. نيبول عن الكتابة في "مناسبات أدبية" الصادر عن دار بيكادور. لا يقول انه بات كاتباً ناجحاً لأن والده ألّف كتاباً واحداً وتوقف. يتحدث عن الصدفة، الحظ، الاجتهاد وقوة الخيال التي سارت به من كتاب الى آخر اكتشف به الذات والعالم. صاحب اللغة الجميلة لم يبحث عن الأناقة والجمال أول الأمر، واختار قراءة الروايات التي "تفعل فعلها". أرادها أن تصبح حقيقية بمشاركة القارئ الفعالة، لكنه اكتشف ان قلة من الروايات تتمتع بهذه القوة. كان من آسيويي ترينيداد الذين نقلهم البريطانيون من الهند الى جزر الهند الغربية ليستغلوهم في العمالة الرخيصة. وإذ قرأ طفلاً روايات ديكنز وجين اوستن أدرك ان بلاده لن تقدم له فرصة الكتابة عن مجتمع معقد كذلك الانكليزي. تميز في المدرسة ونال منحة دراسية في اكسفورد وعرف النجاح في عشريناته مع رواياته الثلاث الأولى، وبكى عندما تسلم جائزة نوبل التي عصته طويلاً. ينتقد نيبول الكتّاب الذين يخططون مسبقاً ويورد جوزف كونراد مؤلف "قلب الظلام" مثلاً. "مواضيع كونراد وكل استنتاجاته تبدو موجودة في رأسه قبل أن يجلس للكتابة". يدين الاختبارات والألاعيب اللغوية التي قد يعرض الكاتب بها عضلاته لكنها تفقده القدرة على ايقاظ القارئ على "حس الادهاش الحقيقي". لا يصرح نيبول مثل غيره من الكتّاب عما دفعه الى الكتابة وأبقاه فيها، لكنه مسكون بوالده سيبرساد الذي عمل صحافياً في ترينيداد وتوفي قبل أن يهنأ بنجاح ابنه البديل من نجاحه هو. يذكر نيبول ان والده اشترى مجلات خلاعية أميركية وحاول تقليد القصص الجنسية فيها، وانه سمح لعائلة زوجته بدس قصص تعزز مكانتها السياسية والاجتماعية. كتب سيبرساد كتاباً واحداً عن القصص الشعبية، وفي 1953 طلبت منه الاذاعة البريطانية قراءة احداها في برنامج "أصوات كاريبية". اختار "رامواس والبقرة" وتلقى أربعة جنيهات اشترى بها قلم باركر لا يزال يستعمله حتى الآن. تنقل في آسيا وأفريقيا وخيّبته حركات التحرير فيها، فهجس بفشل الإنسان في التسامي بنفسه ومجتمعه. "لغز الوصول" يسجل بنزاهة مدهشة اشمئزازه من الفساد والتخلف في العالم الثالث. قد يكون دون كيشوت الذي يحارب طواحين الهواء، لكنه في حربه على الانهيار والتآكل لا يرحم حتى نفسه. الألم الواضح في أعماله الأخيرة أفقده الرؤية الهزلية في "بيت للسيد بسواس" فخاف وأشفق على نفسه. في 1983 كتب في مقدمة الطبعة الجديدة للرواية: "أقصى ما أطمح اليه في منتصف العمر كتابة عمل كوميدي يكمِّل أو يضاهي هذا الكتاب". كان في قبرص عندما بثت الاذاعة مقاطع من الرواية فبكى واجتاحته العواطف. تذكر السنوات السعيدة النادرة التي أمضاها وهو يكتب "بيت للسيد بسواس" الذي استوحى فيه والده. عندما كان في الخامسة أهداه كتاب "مدرسة الشعر". "كان المحل خفّض سعره من ثمانية وأربعين سنتاً الى أربعة وعشرين. كانت هديته لابنه شيئاً نبيلاً ومتصلاً بالعالم". يعيّره البعض بأنه قد يكون كوميدياً لكنه ليس مضحكاً، ويرى البعض الآخر ان قوته ككاتب تكمن في جمعه تفاصيل العالم الصغيرة وحربه عليه.