شهدت السنوات السبع من مجيء توني بلير الى السلطة تشكيل الكثير من لجان التحقيق. لكن يجب ان لا نعتقد ان بلير يحبها أكثر من غيره من رؤساء الوزارة، بل انه يستعملها مثل شخص في عربة تطاردها الذئاب فيرمي لها قطع اللحم ليشغلها عنه. فقد كانت هناك أربع لجان تحقيق في انتشار وباء "القدم والفم" الذي أصاب اقتصاد الريف بضرر كبير. لكن الرأي العام لم يسمع شيئا عن النتيجة، أي من كان المسؤول عن القرارات الخاطئة، ولم يطلب بلير استقالة أحد. وتم في الأسبوع الأول من شباط فبراير تشكيل رابع لجنة تحقيق في قضية العراق، على أن تقدم تقريرها خلال عطلة البرلمان، أي انها لن تؤثر في شكل مهم على الانتخابات التي تجري وقتاً ما السنة المقبلة. وساد الشعور بأن بلير قاوم تشكيل اللجنة هذه، اذ كان الخط الرسمي في ما يخص أسلحة الدمار الشامل انتظار انهاء "مجموعة مسح العراق" عملها. لكن الأحداث تسارعت في واشنطن، بعدما أعلن رئيس المجموعة الدكتور ديفيد كاي: "كلّنا كنّا على خطأ". واضطر ذلك بلير الى قلب موقفه رأساً على عقب، لكي يقبل ما كان مرفوضا بالأمس. هكذا بدا أن بريطانيا تعود مرة أخرى للسير على خطى الرئيس جورج بوش، ربما خوفاً من تعرض الاستخبارات البريطانية الى انتقاد الأميركيين. من جهتها قابلت وسائل الاعلام نبأ تشكيل اللجنة الجديدة بانتقادات شديدة، خصوصا لأنها تأتي بعد صدور تقرير اللورد هاتون عن موت مفتش السلاح البريطاني ديفيد كيلي. ورأت الصحافة أن التقرير كان منحازاً في شكل فاضح الى الحكومة على حساب "بي بي سي". وقالت صحيفة "الغارديان" أن صياغة مهمة الهيئة الجديدة "بالغة التعقيد". وكانت الحدود المرسومة للجنة هاتن ضيقة أصلا، وجاء تفسير هاتون لها ليزيدها محدودية. واعتبر أكثر الصحف أن لجنة اللورد بتلر ستعاني من المشكلة نفسها. الا ان توني بلير وافق، تحت ضغط قوي من زعيم المحافظين مايكل هاوارد، على ان اللجنة لن تنظر فقط في أي "تفاوت" بين تقارير الاستخبارات التي أكدت وجود أسلحة الدمار الشامل وعدم اكتشاف أي من تلك الأسلحة بعد اطاحة صدام حسين، بل ستتفحص أيضاً كيفية استعمال الوزراء لمعلومات الاستخبارات. وكانت هذه خطوة على الطريق الصحيح، لكن من شبه المؤكد اننا سنسمع حال نشر تقرير اللورد بتلر الدعوات الى هيئة "حقيقية" تبحث في أسباب ذهاب بريطانيا الى الحرب. وكان حزب الديموقراطيين الأحرار، حزب المعارضة الثاني، محقاً عندما رفض المشاركة في اللجنة الجديدة. ذلك انهم يريدون الكشف عن الكيفية التي اتخذ فيها قرار دخول الحرب ومدى شرعيته، ويعتقدون ان الرأي العام يدعمهم في ذلك. وأحتج كين كلارك، آخر وزير مال من المحافظين، أن الحدود المرسومة للجنة بتلر "ضيقة الى درجة تفقدها أي معنى". فيما اعتبر وزير الخارجية العمالي السابق روبن كوك أن من السخف الفصل بين أحكام الاستخبارات والأحكام السياسية.والبادي حالياً اتجاه النية الى تحميل اجهزة الاستخبارات - التي ارتكبت اخطاء خطيرة بالفعل - المسؤولية الكاملة عن ما جرى. لكن الذي قرر طرح قضية دخول الحرب على البرلمان ودافع عنها هناك كان بلير وحكومته. ومن المؤكد ان كثيرين من النوّاب ما كانوا سيصوتون لصالح الحرب لو عرفوا وقتها تلك الحقيقة التي اعترف بها رئيس الوزراء الى المجلس لاحقاً. فقد قال للمجلس أخيراً انه عندما طلب من النواب التصويت لم يكن يعرف ان أسلحة الدمار الشامل التي كانت معدة للاطلاق "خلال 45 دقيقة" كانت تكتيكية حسب تقارير الاستخبارات وليست من النوع الاستراتيجي البعيد المدى. وتكمن أهمية هذا الاعتراف بالجهل والفشل في التعامل الدقيق مع معلومات الاستخبارات في أن بلير أكد أن الحرب على العراق لم تكن لاطاحة صدام حسين أو لأنه كان يتعامل مع "القاعدة" بل لأن العراق مثّل "خطراً داهماً" على بريطانيا، لأنه كان قادراً على استعمال أسلحة الدمار الشامل ضد القواعد البريطانية في قبرص ووحداث سلاح الجو الملكي البريطاني في المملكة العربية السعودية ومناطق أخرى في الخليج. وكان وزير الدفاع جيفري هون، الذي يتعرض لضغوط شديدة، أقرّ للمجلس انه كان يعرف ان الادعاء بقدرة العراق على استعمال الأسلحة المحضورة "خلال 45 دقيقة" اقتصر على السلاح التكتيكي وليس الاستراتيجي. كما قال روبن كوك انه كان يعرف ذلك بحكم منصبه في وزارة الخارجية وقتها. والسؤال المطروح الآن هو: هل اقتصرت هذه المعرفة على الاثنين أم ان وزراء آخرين كانوا يعرفون أيضا، فيما بقي رئيس الوزراء ومستشاروه على جهلهم؟ ولماذا لم يكلف أحد منهم نفسه عناء التدقيق في قضية ال"45 دقيقة"؟ أنا شخصياً لا أصدق أن 10 داونينغ ستريت لم يكن يعلم بأن الأسلحة المقصودة كانت تكتيكية فقط. الحقيقة هي أن بريطانيا اختلقت التبريرات للمشاركة في الحرب على العراق، وهي حقيقية تتزايد انكشافاً بمرور الأيام. * سياسي بريطاني من حزب المحافظين.