في اواسط السبعينات بدأ فيديا نيبول يعتبر نفسه "خطراً" من الناحية الأدبية، ما يعني ان عمله، لا شخصه في خطر، خصوصاً بعدما رشّح لجائزة نوبل. كانت لديه مخطوطات كثيرة، بعضها غير مكتمل وبعضها الآخر بحاجة الى تنقيح، وكان على سفر مستمر، فقرر ان يودع مخطوطاته في مخزن لندني. إلا انه لم يقدّر ان المخزن المذكور سيحترق وستضيع مئات الصفحات والمسودات الثمينة ضياعاً نهائياً. صحيح ان الكارثة ليست بحجم حرق مكتبة الاسكندرية على ايدي المغول، إلا انها خسارة ادبية فادحة، خصوصاً ان صاحب المخطوطات تحوّل بعد العام 2001 لدى حصوله على نوبل للآداب، الى معلم بريطاني وباتت كتبه مثل "منعطف في النهر" و"لغز الوصول" من ابرز المداخل الدراسية للتعرّف الى الحياة المعاصرة في القرن المنصرم. من مواليد ترينيداد لأسرة هندية 1932، حصل نيبول على منحة كولونيالية للدراسة في اوكسفورد عام 1950. وجاءت روايته الأولى "الممسد الروحاني" تفتح امامه عالماً لم يكن هو نفسه يتوقعه. بل كان اول ما لفت انظار النقاد في اعماله الباكرة خلوّها من الارتباك والتصنع والتقليد مما هي صفات عامة في البدايات الإبداعية. لكن فيديا سيبيرساد نيبول بدأ تمرّسه في الكتابة المحترفة فور مباشرة الدراسة الجامعية، إذ كان يكتب لل"بي بي سي" مطالعات نقدية وتمثيليات وقصائد، لطالما جرى اعتبار مسوداتها في حكم الضائع بعد حريق المخزن، الى ان قام الصحافي البحاثة باتريك فرينشي بالتنقيب في ارشيف هيئة الإذاعة البريطانية فعثر على جزء بارز من الكنز: اربع قصص قصيرة، تمثيلية اذاعية وقصيدة قرأها نيبول بصوته للإذاعة، وهو في الثامنة عشرة من عمره: "العتمة تتكدس في الزوايا تتحدى القمر القتيل... لا غد لهذا اليوم ولا أمس لهذه الليلة إنما الآن وإلى الأبد وأنت خائف وأنه الموت ولا شيء سوى الحداد". يقول نيبول، الذي فوجئ لرؤية هذه القصيدة، انه لم يكتب شعراً غيرها. اما القصة الأولى التي عرفت طريقها الى مستمعي ال"بي بي سي" فأذيعت عام 1951 وهي مستوحاة من ذكرى طفولية تعود الى يوم اراد احد اعمام نيبول بناء كوخ من الخشب ليؤوي اسرته. وضع نيبول للقصة عنوان "هذا بيتنا" ووضعها في الصيغة "الكونية" التي تجلت لاحقاً في روايته الشهيرة "بيت للسيدة بيسواز". ويلحظ فرينش ان مسألة العيش الزوجي وما ينتج عنها من مساكنة للتوالد وتوزع الأدوار بين الرجل والمرأة، شغلت حيزاً واسعاً من نتاج نيبول: "هذا بيتنا، يقول لزوجته فيما كانا يستقرّان. ما عدت مقهوراً، يقول لنفسه. مع ذلك كان يشعر انه يكذب". وفي صيف 1954 تخرّج نيبول من اوكسفورد وبدأ يبحث عن عمل. كان بحاجة ماسة الى المال ولم يكن لديه سقف يلجأ إليه. امضى ستة اشهر بلا وظيفة ثم وجد عملاً موقتاً في ال"بي بي سي" ضمن البرامج الثقافية. فكان يناقش الكتب المنشورة ويجري مقابلات ويقرأ قصائد متنوعة المستوى، كما شارك في مسلسل عن الشعر الزنجي ومارس النقد السينمائي. إلا ان ذلك لا يعني ان ابواب الإذاعة البريطانية انفتحت له على مصراعيها، ولا يعني ان جيوبه امتلأت بالجنيهات، فما كان يحصل عليه بعد تلك الساعات الطويلة في الاستديو، بالكاد كفاه كفاف يومه، ولما اراد الانتقال الى مركز ثابت ووظيفة افضل ووجه بفضلات التمييز العنصري: "كانوا يتميزون ضحكاً عندما دخلت لإجراء مقابلة التوظيف وحين قلت انني قادر على إجراء بعض التحقيقات قهقهوا بسخرية، كأنني قلت سأكتب التوراة". يقول نيبول عن تلك المرحلة في مذكراته. ولم يتغيّر وضعه حتى مطلع الستينات وقد بلغ الثلاثين من عمره وفي رصيده خمسة كتب بينها "بيت للسيدة بيسواز" حيث وردت قصة "بطاطا" في شكل برولوغ. حينئذ عرضت عليه "بي بي سي" كتابة برنامج عن الهند. وذلك بثمانين جنيهاً، اي عشرة اضعاف ما كان يقبضه ثمن القصة القصيرة. مع ذلك كان رد وكيل اعماله ان "السيد نيبول يعتبر العرض اهانة" مما اضطر "بي بي سي" الى جعل المبلغ 120 جنيهاً، فقبله نيبول. اكتشف نيبول في وقت مبكر من سيرته الأدبية ان شهرته ككاتب كاريبي كانت عبئاً ونعمة في الوقت نفسه. ففي الخمسينات لم يكن منظوراً بعين الجدّ، بل بعين الفضول المجرّد، اي كاتب من "المستعمرات" البريطانية السابقة. ولعلّ ما حققه نيبول على هذا الصعيد كان حجر الزاوية في تبديد تلك النظرة الفوقية، ما افسح في المجال امام عشرات الكتّاب الهنود والباكستانيين والكاريبيين مثل ديريك والكوت وجورج لامينغ وصاموئيل سلفون وغيرهم، ليضعوا اقلامهم في طليعة الإبداع في اللغة الإنكليزية. ويشير فرنش الى ان نيبول استعمل مادة مسرحية اذاعية بعنوان "ب. ووردزوورث" في روايته "شارع ميغيل". ويقول في مطالعته التي شملت عناصر القصص والتمثيلية انه من المحيّر ألاّ يكتشف احد هذه المخطوطات، علماً ان عمل نيبول المبكر في "بي بي سي" معروف ومحقق، فكيف توضع مئات الدراسات والأطروحات الأكاديمية على اختلافها عن نتاج نيبول من دون ان يفطن احد الى ما توارى منها عن الأنظار في محفوظات ال"بي بي سي". "وصلت البطاطا ولم يشتر أحد شيئاً" "مساء الخير!" صاحت السيدة غوبن من الشارع، وللتو بصق المنزل خمسة اطفال هرعوا بنهم عبر الادراج الخشبية الى الفناء حيث وقفوا صامتين، جامدين، مبغوتين لرؤية الهندية الغريبة. الا ان السيدة غوبن صاحت مرة اخرى "الى الداخل، اي واحد منكم يبقى سيأكل علقة لا تنسى" فانسحب الاولاد الى البيت من جديد. بعد قليل ظهرت امام الباب زنجية بدينة، لثدييها حجم بطيختين صغيرتين. زعرت السيدة غوبن. ونظرت الى عينيّ الزنجية وفكرت انها ترى حزناً ومرارة طالما خنقا كل فرح، وكل طاقة على المتعة - مرارة كانت تغمرها بهالة من الشفقة على الذات. "مساء الخير" قالت السيدة غوبن. "مساؤكم سعيد" اجابت المرأة، ووضعت يديها على وركيها البارزين كرفّين. "هل زوجك في البيت؟" ازاحت المرأة يسراها عن وركها واشارت نحو الاسطبل "هل ترينه؟" تساءلت. التفتت السيدة غوبن، وكأنها لم تلتفت من قبل وقالت "كلا". "ما الذي تريدينه منه؟" "طلبت منه ان يأتينا ببعض البطاطا من المدينة. احاول البدء بتجارة صغيرة". "انتم الهنود كلكم اذكياء، تجنون المال بحنكة. لا اعرف هندياً ليس غنياً. وكل ما تفعلونه انكم تساعدون بعضكم بعضاً". لم تجب السيدة غوبن، بل سألت "اي ساعة تتوقعين عودته؟" وكانت قد تبادلت التأمل بالنزجية والاخيرة تأملتها ملياً. "لست ادري. هذا الرجل يجنني، ذات يوم سأضربه. سأضرب ذلك الوغد، ابن الساقطة، وأذهب الى السجن بسببه. خذي نصيحتي، يا اخت، واتركيه بحاله. ليس اكيداً بالمرة حصولك على البطاطا بواسطته. ذات يوم، سأضربه، سوف ترين". مع ذلك كله، وصلت البطاطا، وصلت في الثالثة بعد الظهر من يوم السبت ... ولم يشتر احد شيئاً. مرت الناس وألقت نظرة فضولية، وعبرت. ف. س. نيبول مقطع من قصة قصيرة غير منشورة سابقاً ترجمة جاد الحاج.