جائزة نوبل الأدبية التي فاز بها هذا العام الكاتب الترينيدادي ف.ا.س. نيبول لم تخل من الانحياز السياسي المفضوح. فماذا يعني ان تتذكّر لجنة الجائزة نيبول الآن وتحديداً في أوج المعركة التي تخوضها الولاياتالمتحدة الأميركية وبعض الدول الغربية ضد "الإرهاب" الشرقي والعربي وضد "الظلاميين" في العالم الإسلامي؟ نيبول الذي كان من المتوقع ان يفوز بالجائزة قبل أعوام ولم يفز بها - ربما - تبعاً لمواقفه الصلبة أو المعادية تجاه الحضارة الإسلامية، بات الآن من أدباء نوبل، اي من الأدباء الذين يُفترض بهم ان يؤمنوا بحقوق الشعوب وحرياتها وأن يحترموا ثقافاتها وحضاراتها. حتى براءة الجائزة لم تكن مقنعة تمام الإقناع وخصوصاً بعدما تراجع ادب نيبول في الآونة الاخيرة. هل يمكن عدم مناقشة نيبول في كتابه "ما بعد الإيمان: رحلات إسلامية بين الشعوب المعتنقة"؟ ألا يمكن استخلاص موقف عدائي مسبق أو جاهز من العالم الإسلامي من خلال التحقيقات أو المقالات التي كتبها ويكتبها؟ وإن كانت تستحيل "محاكمة" الأكاديمية السويدية لاختيارها هذا الكاتب الذي ينعم بشهرة عالمية كبيرة فإن مناقشتها ممكنة جداً شرط ألا تتم خارج اعمال نيبول نفسها. ومناقشة هذا الكاتب - الظاهرة لا تعني الإقلال من اهميته أو تصويب اصابع الاتهام نحوه، بل هي تندرج في سياق البحث عن خلفيات موقفه السلبي وعن الأسباب التي حفزته إليه. لا بد من العودة الى روايات نيبول إذاً، وإلى عالمه الروائي وشخصياته. ولا بد من الاعتراف ان هذا الكاتب الذي لم يُترجم الى العربية - على ما يبدو - اي من كتبه لا يُقرأ بسهولة وخصوصاً في اعماله ذات الطابع الروائي - الوثائقي أو الأدبي - الأنتروبولوجي. فأدب الرحلة لديه لا ينتمي الى ما يسمّى "الأدب الرائج" أو التجاري. وإن كان البعض يعتبر نيبول "سولجنتسين العالم الثالث" فإن البعض الآخر يعتبره "الكارثة الأخيرة في الفكر الغربي الوسطي". وهذه الصفة كان ادوارد سعيد واحداً من الذين أطلقوها عليه أو تبنّوها إزاءه. يكفي ان يعود القارئ الى تلك التحقيقات الروائية الكثيرة التي كتبها نيبول عن جزر الكارايبي او عن الهند أو افريقيا والأرجنتين وجنوب الولاياتالمتحدة ليتبين كم ان هذا الصحافي الذي اصبح روائياً استطاع ان يفضح بقايا الاستعمار في تلك البقاع من العالم وأن يحطّم اسطورة "المضطهدين" الأزليين منتقداً الانطلاقة - أو المسيرة - الخاطئة للعالم الثالث. ولعل نيبول الذي وفد الى الفن الروائي من عالم الصحافة الغارديان، بي بي سي افاد كثيراً من الكتابة الصحافية وتقنياتها ليشرع في كتابة ادب الرحلات أو "أدب السفر". وكان بحق ذلك الكاتب الذي يهوى السفر ويمتدحه كما عبّر اكثر من مرة. وفي حقل "أدب السفر" استطاع ان يكون واحداً من الروائيين المجلّين وقد أسس عالماً روائياً خاصاً يجمع بين "الواقعية الوثائقية" والرؤية الساخرة أو الهجائية. صحيح ان نيبول كتب في اكثر من حقل لكنه كان - ولا يزال - ذلك الروائي أولاً وأخيراً. فالرواية هي الصنيع الذي استطاع ان يرقى به ككاتب وأن يكسبه جمهوراً من القراء يتابعونه في العالم. قصصه ونصوصه الأخرى لا تمثل حقيقة التجربة التي خاضها. وقد تميّزت رواياته بنقدها الحاد لبعض الأنظمة في بلدان العالم الثالث وفي نقلها مشاهد البؤس والفقر. غير ان نيبول لم يسع يوماً إلى أن يكون كاتباً ملتزماً في المعنى السياسي للالتزام. فهمّه هو جعل حياة الشعوب أشبه بالمغامرة الروائية التي على القارئ ان يعيشها مثلما عاشها هو نفسه ككاتب. يكتب نيبول لا ليهدم او ليصلح فقط وإنما ليكتشف باستمرار أسرار الكتابة التي لا حدود لها. يرفض نيبول الترينيدادي الأصل والبريطاني الجنسية ان يسمّى "روائي المنفى". فهو يعتبر نفسه يحيا بلا حنين. ويشير دوماً الى أنه لا يملك اي رغبة في ان ينتمي الى أي مجتمع أو بيئة. فهو ابن الشرق والغرب في آن، ابن البيئة القديمة المحاطة بالأديان والأسرار والبيئة الجديدة المنفتحة على الأفكار الحديثة والتيارات المعاصرة. ولعلّ انتماءه المتناقض هذا كان وراء مغامرته السافرة في كشف تلك المناطق المجهولة أو المنسية سواء في ذاكرته ومخيّلته الفرديتين ام في الذاكرة والمخيّلة الشعبيتين. أما السؤال المهم الذي يطرح الآن وفي هذه المرحلة الحرجة فهو: كيف سيقرأ العرب هذا الكاتب الذي لم يخفِ موقفه السلبي من الحضارة الإسلامية؟