يغالب الروائي الاحساس بالزمن، الزمن من حيث قدرته على تطوير الخبرات واعادة صياغة الخيال، او بما يحفل به من ذكريات وحوادث وشخصيات تشكل مصدرا من مصادر نصوصه. حنان الشيخ الروائية اللبنانية اختارت ان تكتب روايتها الجديدة (حكايتي شرح يطول) الصادرة عن دار الاداب، عن زمن لم تعش الا الجزء اليسير منه ولكنه ينتسب اليها، فقد دونت سيرة حياة والدتها، حسبما جاء على غلاف الرواية، لتجمع جانبين مهمين في شغلها الروائي: الأول التمرين على تجاوز وجهات النظر السائدة حول صورة الأم النمطية، والثانية تشكيل تلك الصورة على نحو معاصر دون تغريبها عن بيئتها. اي انها لم تلغ متعارفات الماضي في تحديد وجهة نظر الرواية، وان أفادت من أفكار الحاضر ونظرته الجديدة الى المرأة. الموازنة التي حصلت في روايتها، كانت تقوم على مفهوم بسيط للسرد، يعتمد التوثيق والامتاع. في مقابلة صحافية معها ذكرت الشيخ ان كتابتها النص قرّبها من والدتها التي كانت قد غادرت البيت وتركتها وأختها، طفلتين وحيدتين مع عائلة الاب. وفي الظن ان هذه الرواية واحدة من أفضل أعمال حنان الشيخ، فهي وجدت مادة غنية طوع يديها، الامر الذي مكنّها من أداء يحمل الكثير من الطلاقة والابتعاد عن خلطات الخيال وتلفيقاته. ومع ان بمقدورنا ملاحظة الكيفية التي حاولت فيها الكاتبة استثمار فضول القارئ في المزج بين سيرة والدتها الحقيقية والمتخيلة، بيد انها كانت على درجة من الاقتناع بان الحياة ذاتها مجرد حلم سينمائي تتلبسه مخيلة النساء حين يقتربن من صورة المرأة الجديدة في ثلاثينيات القرن المنصرم. السينما هنا ثيمة أساسية في السرد مثلما هي تورية لتقابل مرايا الذات الأنثوية في تقلباتها العاطفية، والسينما ايضا تمثل واحدة من مداخل الوعي الحضاري الذي تسرّب الى البلدان العربية منذ مطلع القرن المنصرم. «كاملة» بطلة الرواية القادمة من ريف الجنوب اللبناني الى بيروت، نشأت في مجتمع يحرم المرأة من الذهاب الى السينما، ولكنها بعد ان تخطت حاجز التحريم وجدت في السينما عالمها التعويضي. الحرية المسروقة التي كانت تمارسها في تقليد بطلات الشاشة المصرية، اصبحت ميدانها الارحب في الهروب من حياتها القديمة، فبدت وكأنها تمثل كل الادوار: العاشقة والمعشوقة، المظلومة والمتمردة، الضحية والمضحية بطفلتيها من أجل سعادتها. الأوجه المتعددة للسيرة الذاتية للأم لاتحيل الى فعل الإرادة، قدر ما تصبح تبريرا لمنطق الخيال، لمهمة السرد الذي يكمن خلفه الحضور المضمر لشروط القراءة في زمنين متشاركين: زمن الام وزمن الكتابة.: «اتمنى لو اتحدث معه كما كنا نفعل، حول البركة، عن الافلام والممثلين، فاقول له ان السينما علمتني الحياة، وافكر ان بائعة التفاح لم يتسن لها حضور أي فيلم، وإلا لكانت تعلمت ان تكون ارستقراطية من تلقاء نفسها». تضع المؤلفة القارئ على محك اختباراتها في فهم هذه الشخصية واستيعاب أوجهها المتحركة، وهو فهم متأخر كما تقول في مقابلتها، حيث صعب عليها الامر في الماضي.انها لاتبخل بذرائع المسايرة، بل تستنطقها لتكتشف نضارة الام وجمالها وحبها للسعادة، حيث تصبح رغبتها في الفرح تعادل وجودها ذاته. زوّجت كاملة غصبا لأرمل شقيقتها والد حنان، الذي يساوي عمره ضعف عمرها، ولكنها اكتشفت سعادتها قبل هذا الوقت، مع شاب يعرف الافلام ويكتب الشعر، فذهبت اليه وتزوجته بعد ان هدأ الضجيج حول سيرتها كمتمردة. الأنا المتكلمة هنا تقوم بفعل مطابقة بين أفكار الماضي والحاضر، فعندما تقترب حنان القاصة من صوت أمها تستعين بذخيرتها من فن الاعتراف الغربي الحديث، حيث يصبح بمقدورها تبديل قيمة الاحداث المسرودة بإخراجها من تعميمات المبادىء الاخلاقية لمؤسسة العائلة. تحاول ان تجد في بنى الخطاب الاجتماعي المعاصر، مداخل لقراءة الماضي، وهي شديدة العناية بإبراز الجوانب السلبية عبر استرجاع الاحداث المهملة وترتيب علاقات جديدة لها كي تصبح مقبولة وضمن السياق المؤثر في النتيجة. من الصعب التسليم عند قراءة هذه الرواية بكونها سيرة شخصية، فهي تبقى تحمل كل مميزات التخيل الروائي، اي ان الكاتب العليم استطاع خلق النموذج بالتركيز على الشخصية وردود افعالها، مع ان السرد حاول ان يمكّنها من وعي قيمة افعالها وتبدل مواقع افكارها. تستخدم الكاتبة فن السخرية لتماثل معنى النموذج الشعبي، والسخرية ضرورية لتصوير الخفة التي تنتج عن تداخل الحيلة والبراءة في شخصية البطلة، انها تقربنا من النموذج الانساني البسيط التلقائي المقبول او المهضوم حسب تعبير اللبنانيين. النقص هنا يعّبر عنه بالذكاء اللماح، بصورة المرأة المستظرفة التي صنعتها تلك الرحلة المضنية حيث ساقتها الاقدار من ريف الجنوب اللبناني الى أضواء بيروت المدوخة.