نكتب هنا عن تطور أقدم كتابة ابتكرها الإنسان ونحن نتطلع الى كتابة مستقبلية تقارب بين الشعوب واللغات المختلفة وتؤهل جميع الناس للالتقاء في قراءة المكتوب أو بعضه على الأقل، تماماً كما أهلتهم التقنيات الحديثة للتعامل معها من دون كلفة أو تمييز بين لغة وأخرى أو لون أو عنصر أو دين وغيرها. كما نكتب لإيضاح بعض قواعد اللغة العربية التي نتعامل معها. وليست هذه الفكرة خيالاً أو فكرة مثالية بعيدة التحقيق، بل هي واقع تعامل به السومريون القدماء أكثر من ألف عام وبنجاح، كما لا يزال الصينيون يتعاملون به بلغاتهم ولهجاتهم المختلفة، حيث تلتقي هذه في فهم عام للكتابة بينما يصعب ذلك بالمشافهة. الشفاهية والكتابية - سلسلة عالم المعرفة الكويتية رقم 82. وهنا نلفت الى أن أي تطور للكتابة أو أي تحول فارق بين لغة وأخرى، إنما كان يقوم على مسوِّغات منطقية تتبلور عبر قرون من التجارب وليس حصيلة ارتجال أو إبداع من فراغ. فالانتقال من التصويرية الى نصف التصويرية، ثم الى المسمارية الإيديوغرامية، إنما تم بعد توسع المجتمع وإلفته للصور وأشباهها في المدن الكبرى، بعد انتشار المدارس "إي دبّا" أي بيوت الطباعة. ثم لمقتضيات مادة الكتابة وهي ألواح الطين الطرية، التي لصعوبة ضبط الصورة جرى استعمال المسامير لرسم الشكل بعدد محدّد هو الذي يعين الكلمة الرمزية. وهذا ما استعملته أوغاريت في كتابتها الأبجدية، تجنباً للالتباس بين صور الحروف. ولنا هنا أن نفترض أن الانتقال الى استخدام "أبجدية جبيل" غير المسمارية لم يتم إلاّ بعد انتشار استعمال أوراق "البردى" البابير، المستوردة من مصر أو من بحيرة "الحولة"، حيث يكثر هذا النبات، في كعب جبل "حرمون". وما يؤكد لنا هذا الافتراض للتطور الى المسمارية هو استعمال المسامير لترقيم الأعداد ترقيماً منطقياً بالزيادة أو بالإنقاص، وهو ما ألفناه حتى اليوم في عملية الترقيم اللاتينية، قبل انتشار الترقيم بالأرقام العربية المأخوذة أصلاً من الحروف الأبجدية، وهو ما لا يزال لدينا في ما نسمّيه "حساب الجمَّل". استعمل السومريون العد على أصابع اليد كاللاتينية حتى الرقم "خمسة" فقط، ثم أضافوا لها: خمسة وواحد، خمسة واثنين حتى العشرة، ثم استعملوا الضرب والإضافة حتى الرقم ستين وهو "العقد" الأول عندهم. وهنا نلفت الى أننا ما زلنا نستعمل كلمة "اس" بمعنى "واحد" في أوراق اللعب. وهي لفظة سومرية. كما لا نزال نقسم الساعة وفق العقد "ستين". بين دقائق وثوان. وكان التشديد على هذا الرقم لسهولة تقسيمه الى أرباع وأثلاث وأخماس وأسداس، دون كسر باق. وهذا ما كانت الحاجة إليه لتقسيم المواريث والشراكات. ولكن مع سيادة الأكاديين الساميين انتشر الترقيم "العشري" من دون الاستغناء، عن "الستِّيني" فاستعملوا ذلك بالتناوب، أي بضرب الرقم مرة بعشرة ومرة بستين. وانسجاماً مع مبدأ التصنيف للكلمات وفصائل مدلولاتها استعملوا المراتب للأعداد، فغدا مدلول الرمز للعدد مرتبطاً بمرتبته، تماماً كما حالته اليوم. ولكنهم لم يستعملوا "الصفر" الذي جاءنا أخيراً من حساب الهند. لقد عانت اللغة الأكادية متاعب كبيرة في الانتقال الى استعمال المقاطع للفظ الكلمات وكتابتها. وكان الشرط الأساس للكاتب هو معرفة اللغة السومرية، حيث غدت هذه المعرفة مجال مفاخرة بين الطلاب كما يفيدنا أحد النصوص. وقدَّر أحد الباحثين عدد الكلمات السومرية التي استخدمها الأكاديون للكتابة مقاطع لغتهم بمئتين وخمسة وثمانين شكلاً مختلفاً. ومنذ تلك الحقبة برزت حال إهمال الساميين للحركات الصوتية، إذ إنهم شددوا على الالتزام بالحرف الناطق فقط، وبذلك كانت تختلف كتابة الكلمة من كاتب الى آخر، حين تكتب تهجئة، بينما كانوا يقتبسون احياناً الكلمة "ايديوغراما" فتقرأ بأي لهجة أو لغة، وفق لفظ القارئ. وقد ظهرت هذه الحال في الشرائع الحثية المقتبسة عن شرائع حمورابي في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، ولو لم تكن ذات فائدة عملية لما جرى اقتباسها في لغات أخرى. ومثال على ذلك، ايديوغرام كلمة "ترّ" وهي تعني بالسومرية: مزّق. فقد يقرأها الأكادي: قدَّ، أو حزَّ، أو قطَّ وغيرها. وهي لا تزال بالعربية تعني "القطع" بلفظها وبمعناها. ولكن قراءتها كمقطع لفظي كان يتوقف على قرائن الكلمة التي ترد فيها. وقد شبه الباحث "سيروس غوردن" هذه الحال في القراءات المختلفة بحال حرف "إس" في اللغة الإنكليزية، حيث هذا الحرف يمكن لفظه: "ش، أو ج، أو س" في كلمات مختلفة. ويبدو أننا في الكتابة العربية ورثنا هذه الحال في لفظ الحروف قبل استعمال التنقيط لتمييزها وهو دخل اللغة بعد الإسلام. وهذا ما انتبه له "القلقشندي" حيث رأى أن للحروف العربية قبل التنقيط صور هي: أ، ب ت ث، ج ح خ، د ذ، ر ز، س ش، ص ض، ط ظ، ع غ، ف ق، ك، ل، م، ن، ه، و، لا، ي. ولنا أن نتصور هنا تباين اللفظ قبل الإعجام أي إدخال التنقيط 3: ص 19. ويقدم الباحثون في تطور المقطعية الأكادية واعتمادها الصور السومرية للتعبير عن لفظ الكلمات كلمة أنموذجاً عن المصاعب والالتباسات التي مر بها هذا التطور. وهذه الكلمة هي "نركبة" مركبة، وقد كان لها بالسومرية صورة واحدة ولكن لفظها الأكادي استوجب استعمال صور مختلفة ومتعددة لكتابتها. فهي تكتب: "نا- أر- كا - أب - تو"، أو تكتب: "نر - كا - أب - تو"، أو "نركب - تو". وكل مقطع من هذه المقاطع له صورة خاصة به. حافظ الأكاديون على بعض الرموز السومرية في لغتهم لمدة طويلة، حيث كانوا ينطقونها بلغتهم، وذلك تجنُّباً لتعقيدات الكتابة. فالملك باللغة السومرية هو "لوغال" أي: الإنسان الكبير، بينما هو "شار" بالأكادية، وهذه تكتب حين تفكيكها الى مقاطع: "شا - أر - رو" أو "شار - رو" أو "شارو - او". وهذه تختلف اشكال كتابتها الواحدة عن الأخرى. ولاختلاف الذهنيتين بين موضوعية سومرية وذاتية أكادية نجد تركيب الجملة متبايناً بين اللغتين، وهو ما يوضحه لنا نص الملك السومري "شولغي" مع ترجمته الى الأكادية في الصورة المرفقة. وهذا الفارق هو ما يفصل شعباً عن شعب آخر أكثر من فاصل اللغة أو القومية أو اللون. فالنص السومري يبدأ باسم الإله وينتهي بالفعل الإنساني من أجل هذا الإله، بينما النص الأكادي يبدأ بالفاعل كتوكيد ذاتي، وتأتي نهايته إخباراً عن هذا الفعل، حيث يأتي ذكر الإله في آخر النص مع "النجمة"، رمز الألوهة عند الفريقين. وهناك مشكلة أخرى أساسية نشأت مع اقتباس الأكاديين للرموز السومرية كي يكتبوا بها مقاطع كلماتهم اللفظية. ففي السومرية خمسة عشر حرفاً فقط، بينما يوجد في الأكادية اثنان وعشرون حرفاً، فغدا حرف "خ" السومري يمثل ثلاثة حروف أكادية هي: "خ، غ، ح"، وغدت الحروف الصافرة الأكادية الستة: "ز، ذ، ش، ظ، ث، ص" لا يقابلها سوى ثلاثة حروف سومرية هي: "س، ش، ز". وبهذه الحال غدت عملية الاقتباس تقريبية، بحسب ميل الكاتب وليس مطابقة مع الأصل. وهذه الحال هي ما يواجهه الكاتب الأوروبي اليوم عندما يريد كتابة اسماء أو كلمات عربية فيها حروف لا وجود لها في لغته مثل: "ق، ض، ظ، ع، غ، ح، خ، ص، ط". ومع دخول شعوب سامية جديدة الى أرض الرافدين وتبني هذه الشعوب للكتابة المقطعية المسمارية غدا تبسيط الكتابة واختصارها ضرورياً لتلبية الحاجة الاجتماعية والثقافية المتنامية لدى هذه الشعوب التي كان أبرزها الأمويون والأشوريون، مع تعدد لهجاتهم، وتباين لفظ مفرداتها. وقد لاحظ أحد الباحثين أن التطوير الأساسي في الكتابة حدث في خمسة اتجاهات هي: 1- اختصار الخطوط المتوازية. 2- المسامير المائلة غدت متوازية. 3- تقارب بعض المقاطع من دون أي تقارب في معناها. 4- اندماج الإشارات المتشابهة. 5- تحول الإشارات المركبة الى أزواج أبسط منها. وقد تم التطور الأكبر للمقطعية على يد الأشوريين وابتكر هؤلاء علامات الوقف التي نستعملها اليوم في الكتابات الحديثة، حيث اعتبروا إشارة المسمار الواحد كالفاصلة، ثم المسمارين، واحدهما فوق الآخر، كنقطتين للتفسير، والمسامير الثلاثة المتراكبة كنقطة للوقف النهائي. وهذا يعني أنهم تجاوبوا مع الحاجة الى الدقة في التعبير، هذه الدقة التي التزم بها الكتاب في الأزمنة الحديثة. كما هم استعملوا خطاً صغير الحجم للشروح والهوامش من قبل الناسخ، حين يكون الكاتب ناسخاً لنص قديم. وقد بلغت الدقة لدى الكتاب الأشوريين أنهم كانوا يرقمون السطور بالعشرات، كي لا تفقد لوحة أو يسقط سطر بالسهو. ومن السومريين اقتبس الأكاديون إشارات الجمع والمثنى والتأنيث. وهم حين كانوا يكتبون الإيديوغرام السومري الذي كان كثير الدلالات كانوا يوضحون لفظه في لغتهم بإضافة مقطع الى آخره يكتب ولا يلفظ تماماً، كما هي الحال في كتابة بعض الكلمات الإنكليزية المتضمنة حروفاً زائدة لا تلفظ. وثمل هذه الزيادات التي وضعت للتمييز وليس للفظ موجودة في العربية كحروف العلة، والألف الزائدة بعد الفعل للجمع، وواو "عمرو". وهي وصلتنا مع قواعد اللغة عن الأكادية التي برزت قواعدها منذ نهاية الألف الثاني قبل الميلاد. وكم حري بعلماء فقه اللغة العربية أن يعودوا لدراسة هذه القواعد التي حافظت على اللغة الأكادية قرابة ألف عام كلغة دولية. * باحث لبناني في التاريخ الحضاري.