طالعتنا جريدة "الحياة" في عددها الصادر يوم الأحد 28 تشرين الثاني نوفمبر 1999، في صفحتها الأولى بخبر عن اكتشاف ابجدية جديدة مدونة على لوح جيري، وتم هذا الكشف في منطقة "وادي الحول" في مصر، وأعلن العالمان صاحبا الاكتشاف، وهما ديبورا كولمان دارنل، وزوجها جون دارنل ان هذه الابجدية قد "تعيد صوغ مفهوم الحضارة". الى هنا والخبر يمكن ان يكون عادياً، ولكن غير العادي فيه - كما ذكرت "الحياة" - هو ما نشر في جريدة "الهيرالد تريبيون" من ان "النقوش المحفورة والمكتوبة بنص سامٍ، ذي تأثيرات مصرية، تعود الى 1900 و1800 ق.م، أي قبل قرنين أو ثلاثة من أقدم ابجدية معروفة". وذهبت الصحيفة الى ان "التجارب الاولية للابجدية تبدو وكأنها من عمل الساميين الذين كانوا يعيشون في اعماق مصر، وليس في بلادهم الكائنة في منطقة سورية وفلسطين، كما كان معتقداً، مما يعيد الى الاذهان الادعاءات اليهودية التي تنسب الى اليهود بناء اهرامات الجيزة". ومما سبق يبدو أنه اصبح لزاماً علينا ان نعيش "حال استنفار" قصوى لمواجهة موجات الزيف والادعاء المتلاحقة التي اصبحت تشكل نوعاً من "الاسرائيليات" المعاصرة، إذ لم تعد تقتصر على مجال الدين وحده بل تجاوزته الى ميدان التاريخ ايضاً. لقد كنا - في مقالات سابقة ولاحقة - لا نزال في طور الرد على مزاعم العالم اليهودي الروسي الاصل الاميركي الجنسية ايمانويل فلايكوفسكي، التي يحاول من خلالها اعادة ترتيب التاريخ الفرعوني ليتفق ووجهة النظر اليهودية التي تحاول ان تقحم نفسها على هذا التاريخ، من خلال ايجاد رابط ما بين التاريخ المصري والتاريخ العبري. وهكذا فاجأنا ذلك الخبر ونحن نحارب في جبهة اخرى، لكنها الحرب نفسها تقريباً. فاجأنا مناحيم بيغن اثناء زيارته الاولى لمصر، بوقاحته الاسرائيلية المعهودة، بأن أجداده اليهود هم الذين بنوا الاهرامات!! ونحن لا نشك لحظة واحدة في انه كان يعرف انه كاذب، ولكن المبدأ الاساسي لديهم هو "لا ضير من الكذب والاستمرار فيه"، فمن المؤكد أنه سوف يؤثر - بشكل أو بآخر - في الأطراف الأخرى. فالكذب قد يؤثر في غير المختصين، لكنه - بالضرورة - سيشغل المختصين، ويشتت انتباههم الى قضايا جانبية. والرد على الادعاء السابق بسيط للغاية، إذ ان الاهرامات بنيت في الدولة القديمة، وفي عهد الاسرة الرابعة: اسرة البنائين العظام، وشيدها الملوك الثلاثة الاول من هذه الاسرة، وهم: خوفو وخفرع ومنكاورع، ويمتد حكم هؤلاء الملوك في الفترة من 2551 - 2494 ق.م، طبقاً لما اورده جيمس هنري بريستيد في كتاب "تاريخ مصر - من اقدم العصور الى العصر الفارسي". ويقول بريستيد إنه تم التأكد من تواريخ العصور الفرعونية المختلفة بمطابقتها بالسنة الشمسية الفرعونية والتي تبلغ 365 يوماً، بفارق ربع اليوم عما نستخدمه الآن. إذ بدأ التقويم المصري القديم في العام 2441 ق.م. متزامنا مع ظهور الشعرى اليمانية ذلك العام. وتبلغ دقة تلك الطريقة انه لم يحدث اختلاف في تقدير العلماء الا بمقدار طفيف يبلغ عاماً كل 1440 سنة، وهكذا يثبت لنا ان فترة حكم الملوك الثلاثة غير مشكوك في صحتها. وفي المقابل، فإنه طبقاً للتوراة فإن اول ظهور لليهود على مسرح التاريخ كأفراد كان في القرن الثامن عشر ق.م، أي ما يعادل 1800 ق.م. فإذا افترضنا صحة ما جاء في التوراة والذي يعتمده المؤرخون اليهود، فإن الاهرامات تكون بنيت قبل ميلاد ابراهيم بما يزيد على سبعة قرون على اقل تقدير. فكيف يتسنى لهم بناء الاهرام إذن؟ حكاية الأبجدية الجديدة ربما ما كان يدعونا الى الحذر في التعامل مع الكشف الجديد للسيد والسيدة دارنل، يتركز في ثلاث نقاط اساسية تشكل بالنسبة إلينا محاذير تحتاج الى وقفة موضوعية: الاولى: تتعلق بزعم رد الابجدية الى اقوام سامية. الثانية: تتعلق بالتاريخ الذي يريان انه زمن كتابة تلك الابجدية، والذي يحددانه بأنه حوالى 1900 و1800 ق.م، ويقع في عهد الاسرة الثانية عشرة، وفي الوقت نفسه هو تاريخ مقارب لظهور اليهود على مسرح التاريخ كأفراد أو عشائر. الثالثة: ادعاؤهما بأن من كتبوا تلك الأبجدية هم ساميون "متمصرون". فهل هناك من ينطبق عليهم ذلك التوصيف سوى اليهود الذين جاء في التوراة أنهم استوطنوا "ارض جاسان" في مصر محافظة الشرقية الآن لمدة 400 عام؟ وإذا كان التاريخ الذي حدده العالمان لكتابة لوح "وادي الحول" 1900 و1800 ق.م، يقارب بدء ظهور اليهود على مسرح التاريخ، فإننا نتوقع - طبقا لنظرية المؤامرة - انهما سيعلنان في وقت لاحق ان تاريخ الكتابة الأدق هو 1600 ق.م، حتى تتحول الاشارة الضمنية في الإعلان الاول الى تأكيد "علمي" في الاعلان الثاني. ولكن عليهما قبل ذلك ان يقوما بعملية جس نبض للطرف الآخر لقياس مدى رد الفعل لديه، حتى يتم تجنب اية مفاجآت غير متوقعة. ولا مانع بالطبع من ترديد بعض الكلمات التي تشي - ظاهرياً - بالموضوعية مثل قول السيدة دارنل: "إننا نعشق مصر وكل ما هو مصري. ومن يكتب غالباً في مثل هذا الموضوع في الغرب لا ينظر اليه بحساسية"! وهنا، فإن علينا ان نتساءل: إذا كان مبتكرو هذه الابجدية ساميين، ولما كانت الابجدية هي نتاج حضارة بالضرورة، فإلى أي حضارات الشرق القديم تنتمي؟ هل الى حضارات ما بين النهرين، أم الى الحضارة الكنعانية، أم الفينيقية؟ بالطبع تصعب الاجابة عن هذا التساؤل لأن التاريخ الذي حدده الزوجان دارنل للوح المكتشف اسبق من ابجديات تلك الحضارات جميعها. وإذا كان هؤلاء الاجانب المتمصرون ابتكروا تلك الابجدية بناءً على ما تعلموه من مصريين آخرين، إذن هي ابجدية مصرية في نهاية الأمر: لأن من ابتكرها "متمصرون"، أي مصريون بالثقافة والوطن، ومن اشار عليهم بها مصريون، ثم انها ابتكرت على ارض مصرية. حكاية الابجدية العبرية ودعونا نتخذ مرة ثانية وضع الهجوم كانت المرة الاولى في حرب 1973 لنطرح تساؤلاً آخر غاية في الأهمية: هل كان لليهود - طوال تاريخهم - ابجدية خاصة بهم؟ وسنتوقع - بالطبع - ان يكون الرد بالإيجاب، باعتبار ان الابجدية العبرية هي أبجدية يهودية. لكننا لن نلتفت الى هذا الرد "العاطفي"، ولندع الاجابة "العلمية" لواحد من اهم اصحاب المزاعم اليهودية في العصر الحديث، وهو ايمانويل فلايكوفسكي نفسه. لقد اورد في كتابه "عصور في فوضى" آراء العلماء في تأسيس الابجدية العبرية حيث نكتشف ان علاقة اليهود بها هي علاقة استخدام وليست علاقة ابتكار. ففي العام 1928 أسفر الحفر والتنقيب في قرية "رأس شمرا" السورية، التي تقع شمال ميناء اللاذقية، عن كشف اثري غاية في الاهمية. وفي هذا الكشف ازيح النقاب عن مدينة "أوغاريت" الكنعانية، وتم العثور على ألواح من الطين مكتوبة بأربع لغات مختلفة، قرئت اثنتان منها بسهولة وهما: الاكادية والسومرية وتنتميان الى حضارات بين الرافدين، اما اللغة الثالثة - وهي التي تهمنا في هذا المجال - فمكتوبة باللغة المسمارية ايضاً، وقد تصور بعض العلماء الذين قاموا بالتنقيب ان تلك اللغة ربما كانت العبرية القديمة، لكنها مكتوبة بأشكال مسمارية. وهنا ظهرت فكرة إحلال حروف عبرية محل العلامات والاشكال المسمارية، وأتت تلك الفكرة بنتائج مذهلة، اذ توصل العلماء الى ان تلك الألواح اقدم بستمئة عام من اقدم كتابة عبرية !! أي أن ذلك يعني ببساطة ان تلك الكتابة تسبق دخول الاسرائيليين الى كنعان بمئات السنين، وهو إثبات - على حد تعبير فلايكوفسكي - لا يقبل الجدل. وتأكد لهؤلاء العلماء ان الكنعانيين لم يستخدموا تلك اللغة العبرية كلغة تخاطب فقط، بل انها كانت لغة مكتوبة وبحروف ابجدية. إن فلايكوفسكي يقرر أن الكتابة بحروف ابجدية في القرن الخامس عشر ق.م. كما هو مفترض من هذه الألواح، كان كشفاً مذهلاً لعلماء اللغات القديمة والباحثين في تاريخ الحضارة الانسانية. وبما ان هذه الوثائق تعود الى القرن الرابع عشر او الخامس عشر ق.م، فإن ابجدية "رأس شمرا" تعتبر من الأبجديات الاولى التي تكونت في تاريخ العالم، بل كانت الاولى بين تلك الابجديات. ونظراً الى أن العلماء وجدوا انها ليست عملاً بدائياً، لأنها تحتوي على ملامح لغوية تدل على انها بلغت مرحلة متقدمة من التطور، فإن ذلك يعني ان هناك "اشكالاً" لغوية اكثر بدائية سبقتها، وسنعود الى تلك النتيجة مرة اخرى. تلك كانت شهادة العالم اليهودي ايمانويل فلايكوفسكي التي اوردها في الفصل الخامس من كتاب "عصور في فوضى" طبعة دار سينا في القاهرة العام 1995 في الصفحات من 210 - 212. وعلى رغم أنه كان يجادل آراء معظم علماء المصريات، الا أنه سلم تماماً بالنتائج التي توصل اليها العلماء في ما يتعلق بألواح "رأس شمرا"، لأن الادلة على صحة النتائج كانت قاطعة. ومن خلال تلك الألواح، يمكن لنا ان نتوصل الى النتائج الآتية: أولاً: ان اللغة الكنعانية هي نفسها الشكل الاسبق للغة العبرية، قبل ظهور أي وجود يهودي في ارض كنعان بأكثر من خمسة قرون. ثانياً: انها اسبق اللغات التي تم تدوينها في ما هو متاح لنا من معلومات. ثالثاً: بعد اندثار الحضارة الكنعانية، اصبحت اللغة الكنعانية ملكاً خالصاً لليهود ب"وضع اليد"، اذا جاز التعبير، إذ لم يكن هناك مطالب آخر بحيازتها. رابعاً: ان دخول لغات حضارات الشرق القديم عصور التدوين كان اسبق من اي وجود يهودي على مسرح التاريخ. ان جون دارنل وزوجته ديبورا لاحظ الاسم التوراتي لهما وهل يعني هذا شيئاً؟ توصلا الى نتائج، وهذه النتائج يمكن قراءتها في ضوء مكتشفات "رأس شمرا". فإذا افترضنا ان النتائج التي توصلا اليها صحيحة من حيث كون مبتكري ابجدية "وادي الحول" ساميين متمصرين، فإنه لا بد من ان نستبعد اي وجود يهودي عبر تلك النتيجة. فمن خلال التاريخ الذي حدداه 1900 - 1800 ق.م لم يكن اليهود وصلوا مصر طبقاً لما هو مدون في التوراة. واذا كنا ارجأنا الحديث عن ان العلماء قرروا أن اللغة الكنعانية كانت بلغت درجة من التطور تؤكد ان هناك اشكالاً لغوية اكثر بدائية سبقتها، فلأننا نستنتج انه اذا ثبتت صحة نتائج الأبحاث حول لوح "وادي الحول"، فإن ذلك يعني ان الأقوام الساميين هم كنعانيون، وأن الابجدية المستخدمة به كانت شكلاً بدائياً للابجدية الكنعانية. إن القرون الأربعة التي تفصل بين ابجديتي "رأس شمرا" و"وادي الحول" كانت هي الزمن الملائم لنضج تلك الابجدية من شكلها البدائي الى شكلها المتطور. وعلى رغم منطقية هذا الاستنتاج، الا انه من المستبعد وجود متمصرين ساميين في مصر في ذلك التاريخ، فالفترة الواقعة من 1900 - 1800 ق.م كانت في عهد الاسرة الثانية عشرة، وهي فترة التوحيد الثاني لأرض مصر. وعلى ذلك فقد كان المصريون مشغولين بمشاكلهم الداخلية الناتجة عن توحيد الوجهين مرة اخرى. بالإضافة الى ان الاسرة الثانية عشرة كانت مهتمة بالتعاون التجاري مع الجنوب بلاد بونت ولم تنشغل ابداً بالشرق، فهل يمكن ان يوجد ساميون متمصرون في عصر "الانغلاق" هذا؟ ... سؤال لا يزال يتطلب رداً مقنعاً. * كاتب مصري.