رأى بعض المراقبين ان التشاؤم غلب على "المنتدى الاستراتيجي العربي" بدبي، وهو تناول "العالم العربي عام 2020" وقضاياه المعلقة في الأثناء. والقرينة على التشاؤم توجه صاحب الدعوة، وجامع عقد المنتدين، على "اخوانه المسؤولين العرب" بالتحذير: "إن لم تُغيِّروا ستتغَيَّروا، وإن لم تبادروا الى اصلاحات جذرية تعيد الاحترام الى العمل العام، وترسي مبادئ الشفافية والعدالة والمساءلة ستنصرف عنكم شعوبكم، وسيكون حكم التاريخ عليكم قاسياً". واقترح "المسؤول" على "اخوانه المسؤولين" ايلاء "مركزي الثقل"، رأس المال البشري والحكم الصالح، صدارة سياساتهم الإصلاحية الجذرية في العقد ونصف العقد الآتيين. ويبدو "تغيير" الحكام والقادة جزاء احجامهم عن تغيير ما بأنفسهم وبلدانهم، ونكوصهم عن انتهاج نهج الحكم الصالح وأوصافه المعروفة والمشهورة، تهديداً عظيماً يتهددهم، ويتهدد شعوبهم بالويل والثبور. وأما نزول حكم التاريخ القاسي عليهم وفيهم فغاية التشاؤم التي ليس بعدها ولا وراءها غاية. وقبل يومين من افتتاح "المنتدى الاستراتيجي" كان منتدى آخر هو "منتدى المستقبل" الذي ينتظر بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا، او تنتظره هذه البلدان متوجسة وقلقة، يعقد بالرباط وأسهم المنتدى الأول في تليين الحكم القاسي الذي قد ينزل في "الإخوان المسؤولين" اذا هم انحرفوا عن جادة "الإدارة الرشيدة"، اسم "الحكم الصالح" على الضفة الغربية من ساحل المتوسط. والعلامات الهادية على الجادة الرشيدة هي انتخابات حرة وعامة لا تستثني النساء ولا الشباب، وصحافة حرة كذلك لا تقيدها طوارئ عرفية معلنة او مضمرة، ومكافحة الفساد. وأَوْلى المنتدى الأول والبكر رأس المال البشري عنايته. فأوصى بتدريب مئة ألف مدرس "مدني" او "دنيوي" في الأعوام الخمسة القادمة، وتقليل عدد الأميين الى نصف عددهم القائم في المدة نفسها، وجعل الحواسيب في متناول الأيدي و"الإنترنت" في متناول الأفهام، وإقراض انشاء مليوني وحدة منتجة صغيرة في الأعوام الخمسة وتدريب اصحابها باليمن والأردن ابتداءً. ويفترض في برنامج الإجراءات الدقيقة هذه ان يمهد الطريق الى "مواطنة نشطة ومسؤولة" تضمن بدورها "انتقالاً ديموقراطياً" لا حيدة عنه ولا مناص منه، يتوج اصلاحاً "حقيقياً"، ويبلور "إرادة سياسية حقيقية" في... الإصلاح، على قول بعض أوراق المنتدى المستعجلة. وعلى هامش المنتديين الواعدين توقع وزير خارجية ألمانيا، يوشكا فيشر، ان تعالج البرامج المزمعة "قضية الإرهاب". ومعالجة المسألة هذه من طريق "التنمية" والديموقراطية معادلة اميركية امست تقليدية. ويرد عليها بعض "الاخوان المسؤولين" وبعض هيئات المجتمع "المدني" او الأهلي وحركاته السياسية والأهلية والأمنية، على ما صنع بعضهم على منبري المنتديين، بالرباط ودبي، بمقالات امست تقليدية كذلك. فيقولون: الإرهاب من "الأفكار المنحرفة" عن الدين، وهو دعوة "خبيثة" الى صراع الحضارات، وينبغي ألا يفرض شيء من الخارج، ولا يصح ويجدي إلا إصلاح "ينبثق من خيارات كل دولة على حدة"، ولا نفع من إصلاحات لا تكون "إرادية" ولا يشارك فيها "المجتمع المدني" وهو، في هذا المعرض، راية المحافظة والتمسك بالأعراف والسنن "الثقافية" الموروثة. واضطرت الجمعيات الأهلية العربية الى الاعتذار عن "تقاطع" رؤيتها و"بعض الدول الكبرى"، في اثناء انعقاد المنتدى الدولي بالرباط. ويتصدر التحفظَ عما يسميه حزب العدالة والتنمية، الإسلامي المغربي "المعتدل"، "الإملاءات والضغوط الأميركية" الساعية في "استعمار المجتمع المدني" بعد "استعمار البلدان" - التحفظُ عن "تطبيع العلاقات مع الكيان الإسرائيلي"، على قول متظاهرين مغربيين، وعن الاعتراف ب"الاحتلال الأميركي" للعراق، على قولهم وقول آخرين كثر. وحمل منتدون بارزون فوت "الفرصة" التي اتاحتها وفاة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات - وهم يذهبون الى ان وفاة الرجل كانت فرصة سلام، او "نافذة فرص" سحرية وخاطفة، ويزعمون انها فاتت ربما الى غير رجعة - على "الموقف الأميركي المؤيد لإسرائيل"، والمغضي عن انتهاك هذه حقوق الإنسان الفلسطيني من غير لومة اللائم الأميركي. وحمل منتدون آخرون إخفاق الحرب على الإرهاب على تناقضها "المنطقي": فالعرب هم اصحاب الإرهاب، على زعم اهل الحرب، وهم ضحاياه فعلاً، وهم يُبعثون على المشاركة في الحرب على حين يُصْلون حرباً "تكاد تكون عنصرية"، على قول وزيرة المغتربين السورية. وتترجح هذه الأفكار إذا جازت التسمية بين نسبة تنشيط المشاركة السياسية والاقتصادية وتوسيعها الى الأجنبي ومصالحه الخبيثة، وبين اغتنام فرصة الدعوة الأجنبية في سبيل اشتراط حل المشكلات الوطنية والقومية الكيانية والبنيوية على الأجنبي الكلي القدرة. ولا يتخطى تحميل النفس بعض المهمات والتبعات عن الانخراط في سوس العالم نفسه، التلويحَ بحكم التاريخ في "المسؤولين". وفي الأحوال كلها يتوسل اصحاب المصالح المختلفة والمتضاربة بالإصلاح المفترض الى معالجة مسائل جزئية، او طارئة، سياسية او اجتماعية. ويتبادل اصحاب المصالح، قوى عظمى وكبرى او جماعات حاكمة او هيئات اهلية اقتصادية وغير حكومية، الحلول والبرامج المقترحة من غير تعهدها الاضطلاع بشطر الأكلاف العائد إليها. فتتوقع الدول الكبيرة التي يصيبها الإرهاب، ويتهددها التعصب القومي والديني في اندماج جاليات مهاجرين مسلمين عريضة في مجتمعاتها المنفتحة والتعددية، تتوقع ان تتولى الجماعات الحاكمة المضطربة والضعيفة "اصلاح" مجتمعاتها - اي تحديثها وتعليمها، وحملها على العمل وعلى قيم المساواة والمنازعة السياسية، وتداول الحكم من طريق الانتخابات ومقارعة الآراء وتأليب التيارات والمنظمات، وصوغ ثقافاتها في هذا الضوء الجديد والعام - من غير ان تعرِّض الجماعات الحاكمة هذه سيطرتها لمخاطر الإصلاح المتيقَّنة والثابتة. فيتراءى الإصلاح في صورة تكلفة رأسمالية، تتعهدها الدول الثرية، وترد عليها الجماعات الحاكمة في الدول الوطنية والمحلية برجاء إلغاء الديون المتراكمة والمبددة، او بطلب تزجية الدخول في منظمة التجارة العالمية، وهو دخول لا تطيق الدول الراجية تكلفته ولا تبعاته القانونية. ف"الإخوان المسؤولون" يتربعون، على بعض التباين، في سدة "بيروقراطية امنية مركزية"، على ما سمى القيصريةَ الروسية قبل قرن غداة هزيمتها في حربها مع اليابان وثورة 1905 احدُ اقطاب الاجتماعيات الألمانية. وتدور الإصلاحات المقترحة، في ميدانيها الرأسمالي البشري والإداري الرشيد أو الصالح، على تفويض هذه البيروقراطية وفروعها وفك قبضتها القاسية حقاً على الجماعات الأهلية ووجوه علاقاتها. ويقترح "المصلحون" على قمم البيروقراطية الأمنية المركزية وقياداتها، وعلى الجماعات الأهلية التي يسمونها "مجتمعات مدنية"، ان ترضى الأولى بانحلال سلطتها، وتوزيع عوائدها ومنافعها على المحكومين، لقاء احتفاظها بمقاليد الحكم والأمر، ورعايتها بنفسها انحلال السلطة وتوزيع الغنيمة. ويقترحون، من وجه آخر، على المحكومين المتظاهرين جماهير لا تحصى نصرةً "للمقاومين" بفلسطينوالعراقولبنان والساكتين بالأمس عن "مجاهدي" الجزائر ومصر واليمن وغيرها، يقترحون عليهم ترك "مقاومتهم" و"جهادهم" تحت لواء "المسؤولين" من غير "إخوانهم"، لقاء فرص تعليم وعمل وتدريب وانتخاب وقول وانخراط في العالم المعاصر والكريه. ويحسب "المقاومون المجاهدون" أن الفرص هذه إنما هي ثمن تركهم دينهم ومعتقدهم وكرامتهم وشرفهم، ومابه قوتهم وعزتهم ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وهم يعزون الى "المصلحين" حمل الحكام على ترك الدين والمعتقد. ويعزون الى الحكام مماشاة هذا الترك، واستباقه، لعلهم يحتفظون بسلطتهم. ولا ينكرون على البيروقراطية الأمنية المركزية لا بيروقراطيتها ولا "أمنها" اي بوليسيتها ولا مركزيتها، بل يطعنون عليها قبولها تسليم زمام بلدانها، وإصلاح هذه البلدان، الى "عدوها". وحين تقايض الجماعات الحاكمة قبولها الإصلاح المقترح، اي اعلانها قبوله، تشترط باسم شعوبها والمحكومين ثمنَ القبول هذا معالجةَ المسائل "الكبيرة" المعلقة. وهذه المسائل فلسطين، العراق، الخليج... هي تلك التي أخفقت الجماعات الحاكمة، بالتكافل والتعاضد مع الجماعات الأهلية و"الشعوب"، في معالجتها وحلها. وهي تلك التي تتصدى الجماعات الأهلية لحلها من طريق وحيدة، ذكر بها رئيس حركة "فتح" الجديد والمزمن على رأس "سياستها الخارجية"، طريق "الكفاح المسلح" او "المقاومة" او "الجهاد". ولعل السبب في الإخفاق المزدوج، وهو كان واحداً الى يوم ليس ببعيد، ضعف استواء الشعوب شعوباً تجمع بين جماعاتها وفئاتها المختلفة والمتنازعة قواسم مشتركة متبلورة، وضعف استواء الدول دولاً تصوغ تماسكها على محاور ومناطات قانونية وحقوقية وأمنية لا تناقض محاور المجتمع الدولي. فأجمعت "الشعوب" و"الدول"، اي "الإخوان المسؤولون" والجماعات الأهلية المحكومة، على البيروقراطية الأمنية المركزية صيغةً مشتركة تساس من طريقها، وعلى رسومها مقتضياتها، شؤون "الأمة" وسياساتها واجتماعها ومعاشها. وتضامن الحكومات والشعوب العربية مع منازع "المقاومة" و"الجهاد" الانتحارية والتدميرية بفلسطينوالعراقولبنان، او سكوتها عن هذه المنازع خوفاً وتقية واشتراكاً في تناول السياسة ومباشرتها، قرينة على الأمر. والاشتراط الرسمي والحكومي على "الإصلاح" وأصحابه، او مقايضته اللفظية بسياسة اجنبية في المسألتين الملتهبتين اليوم، إنما يشتري من "الجماهير" مماشاتها بنود الإصلاح المفترض. وهذا ما لا تدفعه "الجماهير" ومنظماتها المأذونة، ولا تنكره إنكاراً صريحاً. وعلى هذا، فالأرجح ان الموازنة القائمة بين منازع الحكام ومنازع المحكومين، وبين طلب "الإصلاح" واستجابته، هي الصورة الثابتة والقوية لتنافر المنازع والطلب والاستجابة جميعاً، ولعسر رسوها على سياسات تقبل العقلنة والإعمال والإنفاذ. فتَقدّمُ "الاستراتيجيات" القومية على شرائط نشأة كيانات سياسية وحقوقية وطنية، إقرار بالموازنة البيروقراطية الأمنية المركزية، وبرجحانها على سياسات اخرى محتملة وهذه السياسات متأخرة كثيراً، على اي قياس قيست. والتقدم او التصدر هذا تقره "الجماهير" وتصدع به. والتشكك فيه، على ما يحصل في لبنانوفلسطينوالعراق، لا يبعد ان يكون سبباً في "حروب اهلية"، متجددة لا إلى غاية. * كاتب لبناني.