صارت ردود الفعل على تصرفات الولاياتالمتحدة الخارجية تتفاوت تفاوتاً مذهلاً. لاحظنا تصميم بعض الدول أعضاء الحلف الأطلسي على استمرار مقاومة الضغوط الأميركية لإشراك الحلف بشكل أقوى في الأعمال العسكرية الجارية في العراق، أو حتى بالمساهمة في تدريب قوات الشرطة والجيش على الأراضي العراقية. وكان أقصى تنازل استعدت دول في الحلف، خصوصاً ألمانيا وفرنسا، لتقديمه أن يجري التدريب خارج العراق. الموقف الأوروبي هنا كما في مواقف أخرى يعني أن الحلف الذي استمر مطيعاً لمدة خمسين عاماً أو أكثر للقيادة الأميركية، بدأ يتمرد على نمط القيادة الآلية التي استسلم لها طواعية منذ إنشائه. ويبدو من حالات الانفعال البادية في واشنطن نتيجة هذه المواقف الأوروبية أن صانعي السياسة في أميركا غير مستعدين بعد لمواجهة هذا التحدي، خصوصاً أن الحلف لا يزال أحد أهم أعمدة السياسة الخارجية الأميركية، ولم تجد الولاياتالمتحدة بعد بديلاً جاهزاً له ينفع في المهمات التي تحتاج إلى جهد أو شكل جماعي. ويخشى مسؤولون في واشنطن أن يمتد التمرد من مجموعة صغيرة، وإن كانت قوية النفوذ في غرب القارة الأوروبية وكندا، إلى الدول التي انضمت حديثاً إلى الحلف. فقد بدأ المحللون السياسيون في هذه الدول الحديثة يتحدثون مثل أقرانهم في غرب القارة عن قضيتين تمسان صلب العلاقة الأميركية - الأوروبية، إحداهما رفض الأوروبيين فكرة أن الإرهاب حل محل الاتحاد السوفياتي والشيوعية كعدو للتحالف الغربي، وبالتالي تستمر هياكل الحلف والقيادة التقليدية الأميركية على حالها وإن توسعت المهام أو تغيرت. فالدول المنضمة حديثاً إلى الحلف لا يشغلها أمر الإرهاب إلى الحد الذي يجعلها تسلم مصائرها إلى دولة تقود حرباً خاصة بها أكثر منها حرباً ضد عدو يهدد أوروبا كما هددها على امتداد نصف قرن الاتحاد السوفياتي. القضية الثانية إصرار الولاياتالمتحدة على اعتبار الحرب في العراق حرباً ضد الإرهاب ودفاعاً عن قيم الغرب والحلف الأطلسي تستحق من أعضاء الحلف أكثر من مجرد التأييد الشكلي الذي التزم به الحلف بعد أحداث 11/9 بينما أكثر ما يشغل الأوروبيين الشرقيين في هذه المرحلة هو تصحيح أوضاعهم الاقتصادية والسياسية ضمن المنظومة الأوروبية والعمل على استيعاب روسيا داخل هذه المنظومة، فلا توضع موسكو مرة أخرى أمام خيار المواجهة والسباق على النفوذ. دفعت هذه الضغوط الأميركية الجديدة عواصم أوروبا الغربية إلى استئناف القلق بسبب ما حملته هذه الضغوط من احتمالات زيادة في تشدد السياسة الخارجية الأميركية. كانت أوروبا، والحرب الباردة على أشدها، مطمئنة إلى أن تهور السياسة الأميركية أو تشددها مقيد بالوجود السوفياتي في شرق القارة ووسطها. كما كان الاتحاد السوفياتي عنصر ضمان للحرية النسبية التي تمتعت بها أوروبا الغربية في مواجهة نوازع الهيمنة الأميركية بقدر ما كان عنصر تهديد لأمن أوروبا الغربية يحفز أميركا على استمرار وجودها العسكري لحمايتها. حدث خلال الأسابيع الأخيرة أن وقعت الحملة الشرسة من جانب المسؤولين الأميركيين، في الكونغرس والإدارة معاً، ضد كوفي أنان وبعده محمد البرادعي. وكانت الحملة تعني لأوروبا خصوصاً، والعالم عموماً الشيء الكثير، ولكن كانت أهم رسالة بعثت بها هي أن إدارة الرئيس بوش، في عهدها الجديد، مستمرة في تصعيد حملتها وإن بشراسة أشد على المنظمات الدولية، أو بمعنى أدق، على العمل الجماعي الدولي. وقد جاء رد فعل الإعلام الأوروبي سريعاً وقوياً يحذر من خطورة استمرار هذا التوجه الأميركي. قالت"الاندبندنت"إن تسريب معلومات عن التجسس الأميركي على هواتف البرادعي في الوكالة الدولية للطاقة الذرية قصد به إعلان الإدارة الأميركية بأنها تنتقم من الرجل الذي اتخذ موقفاً فضح كذب المسؤولين في إدارة الرئيس بوش عن امتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وكتبت"الغارديان"إن المحافظين الجدد لن ينسوا للبرادعي فضح المزاعم الأميركية عن مشاريع صدام حسين النووية. والواضح أنه لو كان هذا الاستنتاج صحيحاً لاتفق مع سلسة الانتقامات التي تجري ضد كل الأشخاص والأجهزة والصحف التي ساهمت في كشف فضائح كذب إدارة الرئيس بوش، وبينها أجهزة مخابرات ووزارة الخارجية والأمين العام للأمم المتحدة وفرق التفتيش التابعة له. فقد تحدثت"التايمز"اللندنية وصحف أخرى في ألمانيا وفرنسا وبلجيكا عن أخطاء جسيمة ارتكبتها إدارة الرئيس بوش عندما شنت حملة تشويه سمعة كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة أو اغتيال شخصيته. ونقل أحد خبراء معهد"اميركان إنتربرايز"المتطرف في اتجاهاته السياسية دعوته إلى إهمال الأمين العام للأمم المتحدة، واعتقاده أن الأممالمتحدة ستشهد مواقف جديدة من واشنطن خصوصًا في ما يتعلق برأيها في تقرير اللجنة التي شكلها أنان لإصلاح الأممالمتحدة والعمل السياسي الدولي بشكل عام. وتنبأ بأن المواقف الأميركية ستكون أقرب إلى القسوة والشدة في التعامل مع المنظمة الدولية. أعطت واشنطن في الأسابيع الأخيرة الانطباع بأنها تتبنى أسلوباً جديداً في العمل الدولي يقوم على الإيحاء للدول الأخرى بأن واشنطن ستصغي من الآن فصاعداً، ومقابل هذا الإصغاء تطلب منها إيلاء الأممالمتحدة وغيرها من أساليب العمل الجماعي اهتماماً ودوراً أقل. بمعنى آخر تريد واشنطن أن يقوم التعاون الدولي جماعياً أو ثنائياً من خلال الولاياتالمتحدة، وليس الأممالمتحدة. هنا أيضاً أعلنت دول كثيرة التمرد على أميركا حين تدافعت لتأييد كوفي أنان وتجديد ثقتها به في مواجهة الحملة التي بدأها الكونغرس الأميركي وانتقلت إلى مسؤولين كبار في الإدارة الأميركية. قادت التمرد مجموعة الاتحاد الأوروبي وتوالت المجموعات الأخرى، ولم تكن مفاجأة أن تأخرت المجموعة العربية، تأخرت في تجديد ثقتها بأنان تأخرت ليس لأنها غير واثقة من سلامة موقف أنان وحسن أدائه، أو لأنها لم تستحسن أنه أطلق التقرير الذي أعدته نخبة من الشخصيات العالمية الرصينة عن إصلاح الأممالمتحدة والعمل الجماعي، ليشتت انتباه الجميع ويبعدهم عن البحث والتدقيق في أسباب الحملة الأميركية وتجاوزات الأمانة العامة للأمم المتحدة وأوجه الفساد فيها، وإنما لأنها لا تريد تصنيفها متمردة. وتأخرت الدول العربية في تجديد ثقتها بالمدير العربي للطاقة الذرية محمد البرادعي. لم يكن التأخير هنا مفاجأة إذ كان التطور الحادث في الشرق الأوسط الكبير قد فاق المتصور والمتوقع وكان الكل يستعد لاستكمال سلسلة التحولات الانقلابية في السياسات الخارجية تجاه الغرب، وأميركا وبوجه خاص تجاه إسرائيل. وكانت تطورات حافلة بالمفارقات، وكثير منها يستدعي التوقف عنده والتأمل قبل إطلاق أحكام. فإن نحن استطعنا خفض صوت الضجيج حول قضايا منتدى المستقبل وحكاوي الشرق الأوسط الكبير، فأغلب الظن أننا سنكتشف أن دولاً كثيرة في هذا الشرق الأوسط الكبير تبدو كما لو أنها استبدلت أنظمتها الحاكمة بأنظمة جديدة من دون ثورة أو انقلاب عسكري ومن دون أن تغير شخصاً واحداً في الحكم أو خارجه. المشهد السياسي العربي العام ليس نفس المشهد الذي عرفناه منذ سنة أو أكثر قليلاً، وبالتأكيد ليس نفس المشهد عندما انعقدت قمة تونس وإن كانت البداية وقتها قد خطت خطوات واسعة. وأظن أن الإصلاح الذي تعيد أميركا ومعها دول أوروبا طرحه الآن بأدب شديد بعد أن تكرر رفضه وإدانته، جاري تجاوزه بأدب مقابل وسياسات وإجراءات لم يحلم الغرب بأنها ستتغير في يوم قريب. نرى سياسات انقلابية وثورية جديدة، نرى تصرفات وعلاقات وسلوكيات بالغة الجرأة، ولا أقول التهور، ونرى نفس الوجوه واثقة بأنها أدخلت تغييرات هي عند أميركا أهم من كل دعاوى الإصلاح السياسي. اكتشفنا كيف ننقلب على الذات من دون تحريك عسكريين أو متظاهرين. لقد أدرك جيل الحكم المخضرم أن طريق خلاصه أو كما يقولون طريق خلاص الشرق الأوسط العظيم، والذي أحببنا دائماً أن نقول عنه إنه متنامي التاريخ والحضارة والعظمة يمر من خلال إسرائيل. يتدافعون أملاً في وعد - وليس أكثر - بتخفيف ضغوط الإصلاح السياسي وضغوط أخرى. العالم يتمرد ليتنفس ونحن ننحشر في ثقب إبرة. كاتب مصري