أمير تبوك يطمئن على صحة مدني العلي    كوريا الجنوبية تهزم الكويت بثلاثية    تبرعات السعوديين للحملة السعودية لإغاثة غزة تتجاوز 701 مليون ريال    حسابات منتخب السعودية للوصول إلى كأس العالم 2026    القبض على 3 إثيوبيين في نجران لتهريبهم 29,1 كجم "حشيش"    إجتماع مجلس إدارة اللجنة الأولمبية والبارالمبية السعودية    الحقيل يلتقي في معرض سيتي سكيب العالمي 2024 وزيرة الإسكان والتخطيط الحضري البحرينية    «الداخلية» تعلن عن كشف وضبط شبكة إجرامية لتهريب المخدرات إلى المملكة    وزير الإعلام يلتقي في بكين مديرَ مكتب الإعلام بمجلس الدولة الصيني    ارتفاع عدد الشهداء الفلسطينيين في العدوان الإسرائيلي المستمر على قطاع غزة إلى 43736 شهيدًا    مركز الاتصال لشركة نجم الأفضل في تجربة العميل السعودية يستقبل أكثر من 3 مليون اتصال سنوياً    «محمد الحبيب العقارية» تدخل موسوعة غينيس بأكبر صبَّةٍ خرسانيةٍ في العالم    المروعي.. رئيسة للاتحاد الآسيوي لرياضات اليوغا    أمير الرياض يستقبل أمين المنطقة    أمير المدينة يلتقي الأهالي ويتفقد حرس الحدود ويدشن مشروعات طبية بينبع    الذهب يتراجع لأدنى مستوى في شهرين مع قوة الدولار والتركيز على البيانات الأمريكية    انطلاق المؤتمر الوزاري العالمي الرابع حول مقاومة مضادات الميكروبات "الوباء الصامت".. في جدة    الأمير عبدالعزيز بن سعود يرأس اجتماع الدورة الخمسين للمجلس الأعلى لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    صندوق الاستثمارات العامة يعلن إتمام بيع 100 مليون سهم في «stc»    «هيئة الإحصاء»: معدل التضخم في السعودية يصل إلى 1.9% في أكتوبر 2024    البلدية والإسكان وسبل يوقعان اتفاقية تقديم العنوان الوطني لتراخيص المنشآت    اختتام مؤتمر شبكة الروابط العائلية للهلال الأحمر بالشرق الأدنى والأوسط    وزير الخارجية يصل لباريس للمشاركة في اجتماع تطوير مشروع العلا    "دار وإعمار" و"NHC" توقعان اتفاقية لتطوير مراكز تجارية في ضاحية خزام لتعزيز جودة الحياة    البصيلي يلتقي منسوبي مراكز وادارات الدفاع المدني بمنطقة عسير"    مصرع 12 شخصاً في حادثة مروعة بمصر    رؤساء المجالس التشريعية الخليجية: ندعم سيادة الشعب الفلسطيني على الأراضي المحتلة    «التراث»: تسجيل 198 موقعاً جديداً في السجل الوطني للآثار    قرارات «استثنائية» لقمة غير عادية    رينارد: سنقاتل من أجل المولد.. وغياب الدوسري مؤثر    كيف يدمر التشخيص الطبي في «غوغل» نفسيات المرضى؟    فتاة «X» تهز عروش الديمقراطيين!    رقمنة الثقافة    الوطن    عصابات النسَّابة    «العدل»: رقمنة 200 مليون وثيقة.. وظائف للسعوديين والسعوديات بمشروع «الثروة العقارية»    ذلك «الغروي» بملامحه العتيقة رأى الناس بعين قلبه    هيبة الحليب.. أعيدوها أمام المشروبات الغازية    بحضور الأمير سعود بن جلوي وأمراء.. النفيعي والماجد يحتفلان بزواج سلطان    الطائف.. عمارة تقليدية تتجلَّى شكلاً ونوعاً    أفراح النوب والجش    الخليج يتغلّب على كاظمة الكويتي في ثاني مواجهات البطولة الآسيوية    استعراض جهود المملكة لاستقرار وإعمار اليمن    استعادة التنوع الأحيائي    حبوب محسنة للإقلاع عن التدخين    أجواء شتوية    مقياس سميث للحسد    أهميّة التعقّل    د. الزير: 77 % من النساء يطلبن تفسير أضغاث الأحلام    السيادة الرقمية وحجب حسابات التواصل    كم أنتِ عظيمة يا السعوديّة!    فيلم «ما وراء الإعجاب».. بين حوار الثقافة الشرقية والغربية    «الشرقية تبدع» و«إثراء» يستطلعان تحديات عصر الرقمنة    الذاكرة.. وحاسة الشم    وزير الداخلية يرعى الحفل السنوي لجامعة نايف العربية للعلوم الأمنية    تكريم الفائزين بجائزة الأمير سلطان العالمية للمياه في فيينا    محمية جزر فرسان.. عودة الطبيعة في ربيع محميتها    إضطهاد المرأة في اليمن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الثقافة التغييرية بين التطرف الليبرالي وديكتاتورية الامبراطورية
نشر في الحياة يوم 29 - 11 - 2004

"لن تشهد المرحلة المقبلة صراعاً بين الحداثة وما بعدها، بل بين الثقافة وما بعدها".
ادوار بوند
هل يجدي الكلام عن ماضي المسيرة الثقافية العربية، بعد الانقلاب التاريخي الذي طاول كل المفاهيم، بما في ذلك المفهوم الثقافي؟
هذا السؤال طرحته على نفسي عندما طُلب منّي اجراء حوار عن المسيرة الثقافية اللبنانية، وتالياً العربية، من خلال مساهمتي الشخصية فيها. وهي فكرة كان يمكن ان تكون مغرية في زمن الاستقرار، وليس في زمن الاستنفار، الذي يعيشه العالم عموماً، وعالمنا خصوصاً، حيث لم يعد الكلام في ماضي الثقافة مجدياً إلا من زاوية ما يتمخّض عنه المستقبل.
لكن، لأن من حق القارئ، الذي قد يخالفني الرأي، ان يستوضحني وجهة النظر هذه، استعضت عن الحديث بانطباعات عامة قد يتوافق معي في شأنها كثيرون ممن كانوا فاعلين مثلي في المسيرة الثقافية العربية، حتى نهاية "الحرب اللبنانية"، التي تزامنت مع نهاية "الحرب الباردة"، وتالياً مع "نهاية التاريخ"، التي اعلنها المفكر الاميركي فوكو ياما، بعد حسم الصراع الايديولوجي العالمي. وكان محقاً، لأن التاريخ هو سجل الصراع، وفي غياب الصراع يغيب التاريخ، لكنه أخطأ في الكلام عن نهاية التاريخ وليس عن نهاية مرحلة في التاريخ، فالصراع لا يتوقف إلا مع توقف الحياة، فهو يتجدد مع تجدد التناقضات في كل مرحلة جديدة من التاريخ.
والثقافة، موقفاً وإبداعاً، هي الخط البياني للمسيرة التاريخية التي لا تتقدم دوماً الى الأمام، فقد تنحرف يميناً او يساراً، او قد تتراجع الى الوراء. وليس التقدم العلمي هو المقياس، فقد يتقدم العلم وتتخلف الحقوق الانسانية. وهذا ما كان اشار اكبر عقل علمي في القرن العشرين، ألبرت أينشتين: لأن ذكاء النخبة، الاعلى مستوى من ذكاء الجماهير، قد يستغل العلم للمصالح الخاصة على حساب المصالح العامة.
ولعل النخبة هنا هي غير التي يحمل لواءها الياس عطالله، منظّر "اليسار الديموقراطي" في لبنان.
فماذا عن النخبة التي تقود العالم اليوم؟
***
إذا ثمة صورة كاريكاتورية، فهي مطالبة احد رجال المال والاعمال، دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الاميركي، بخلق مراكز "لصنع الافكار"، على غرار تصنيع الاسلحة كالتي باع بعضها للرئيس العراقي السابق.
اما الصورة الجدّية فهي التي توقّعها دافيد روتكوف، المستشار السابق لوزير الخارجية الاميركي الاسبق هنري كيسنجر، وسماها "الامبريالية الثقافية الجديدة"، التي تتناسب مع "المشروع الاميركي" الذي: "قليلة هي المناطق في العالم التي تتمتع ايضاً بالاستقلال عن ثقافته"، كما جاء في كتاب هربرت شيلر "المتلاعبون بالعقول"، واصفاً المشروع الاميركي بأن له "ميزة مخاطبة غرائز النزعة الفردية، تعززها الصورة الباهرة التي يقدم فيها المشروع الاميركي مبتكرات التكنولوجيا ومباهج الاستهلاك".
ولقد طال هذا الانبهار بعض المثقفين اليساريين، في عالم المركز، كما في عالم الاطراف "العالم الثالث" سابقاً، حتى ان احدهم، الكاتب المسرحي سعدالله ونوس، تساءل، في الكلمة التي كلفته بها منظمة "الأونيسكو" لمناسبة "اليوم العالمي للمسرح"، وهي المرة الاولى التي يكلف بها مسرحي عربي، تساءل، مستغرباً وجود ازمة ثقافية: "على رغم الثروات الهائلة من المعلومات والمعارف، وامكانات التسويق والاتصال..." كما جاء في كلمته، التي لم يختلف تعليقي عليها آنذاك عما سيقوله لاحقاً خبيران بالثورة "المعلوماتية"، هما جيمس كاري وجون كيرك، في كتاب ملفت العنوان: "تاريخ المستقبل"، وفيه: "إن سادة العولمة يسمحون حقاً بأن يقاسمهم الآخرون المعلومات والمعارف، لكنهم في الحقيقة لا يسمحون إلا بما يرغبون، لأنهم يحتكرون اسلوب التفكير المقرر سلفاً".
هذا الاسلوب هو الذي جعل "المجتمع الغني بالمعلومات" ممسوكاً بالقبضة التجارية التي جاهد ليتحرر منها "المجتمع الفقير بالمعلومات".
وقبل ثلاثة آلاف عام ادرك الكاتب المسرحي الاغريقي سوفوكليس: "ان قيمة المعرفة ليست في ذاتها، بل في اسلوب استخدامها".
***
لا أريد للقارئ ان يفهم من كلامي انني ادافع عن النظام الاشتراكي المهزوم ضد النظام الليبرالي المنتصر. فلم تكن الممارسات، في أي من النظامين اللذين تنافسا على العالم، تُغري بالانتصار لأحدهما. لكن الصراع السابق كان مفتوحاً على احتمال قيام نظام عالمي جديد يوحّد الحرية الفردية، عماد الليبرالية، والعدالة الاجتماعية، عماد الاشتراكية: "بعد تنازع البقاء العظيم بين افكار كينز وماركس"، كما جاء حرفياً في بياني المسرحي الاول الذي قدمت به أولى مسرحياتي، في الستينات من القرن الفائت.
ولا اعتقد ان النظام العالمي الراهن هو النظام الذي حَلُم بعضنا به، وسعى اليه، فالشعور بالخيبة كان مشتركاً بين غالبية المبدعين، في الشرق كما في الغرب، ففي حديث الى مجلة "لو نوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية، يقول المخرج المسرحي السوفياتي سابقاً أناتولي فاسيلييف: "ان احدى النتائج المؤسفة ل"البيريسترويكا"، التي دافعت عنها ضلالاً او انتهازية، اكثر مما بدافع القناعة، هي اننا فقدنا العمل في بلادنا، من دون ان نكسب الحرية التي وعدنا بها أنفسنا".
وفي المقلب الآخر من العالم كان الكاتب المسرحي الأميركي، ادوار ألبي، صاحب "من يخاف فرجينيا وولف"، يقول لمناسبة "اليوم العالمي للمسرح"، العام 1994: ان الديموقراطية البديلة عن الانظمة الشمولية، هي ديموقراطية وهمية". فالى اي حد هي وهمية هذه الديموقراطية التي تفرضها الامبراطورية الكونية.
يقول مؤسسو هذا الشكل من الحكم في العالم ان الديموقراطية والامبراطورية نقيضان. كان ذلك عندما تحولت أثينا الى مركز امبراطوري، بعد تزعمها "الحلف الديموقراطي" في المدن الاغريقية، ضد الحلف الاستبدادي الذي تزعمته إسبرطه. وفوجئ الأثينيون بممارسات قادتهم غير الديموقراطية، فكان رد كليون، الزعيم الديموقراطي المتطرف: "ان الديموقراطية لا تصلح لتصريف شوون امبراطورية". ولم يكن جواب بركليس قبله أقل صراحة:"أعرف ان امبراطوريتكم تحولت الى ديكتاتورية، وهذا ليس بالامر العادل، لكنه يصعب التنازل عنه بسهولة".
فهل ان قادة اميركا أفضل من قادة أثينا، فيتنازلون بسهولة عن الديكتاتورية، ضريبة الامبراطورية، وبخاصة بعد ان صارت الامبراطورية الاميركية، امبراطورية كونية؟
لعل معاناة الديموقراطية في النظام العالمي السابق كانت أخف وطأة، لأن المعارضين في احد المعسكرين المتنافسين كانوا، عند الضرورة، يحتمون بمظلة المعسكر الآخر، سواء كان المعارض فرداً او حزباً او دولة. فأين المظلة التي تحمي من ديكتاتورية الامبراطورية الكونية؟
***
في زمن هجرتنا الصحافية الى أوروبا، التقيت، صدفة، بالروائي الراحل عبدالرحمن منيف، في احد مقاهي باريس، أواخر السبعينات، وخرجت من اللقاء متأثراً بكلامه عن العالم العربي، هو الذي خبره جيداً ، وعمل في مختلف أقطاره، فكتبت مقالاً عنه توّجته بعبارة منه: كل شيء في عالمنا يضيق الا السجن فيتّسع".
وفي اواخر التسعينات، في حديث الى "المؤسسة اللبنانية للارسال"، كرّر عبدالرحمن منيف عبارته عن السجن، لكنه نسبها اليّ.
ولأن الحديث كان مباشراً، على الهواء، كدت أطلبه لأصحح له الخطأ، لكنني تراجعت خشية ان يكون تقصّد ان يتبرأ من العبارة، تفادياً لاستغلالها في غير محلها، بعد عودته الى العالم العربي. وعندما استوضحته لاحقاً قال انني ألاحق منه بهذه العبارة بعد وصفي العالم كله بأنه صار سجناً، فلم يعد العالم العربي سوى زنزانة في هذا السجن الواسع.
فهل كنا نبالغ، هو عن العالم العربي، وأنا عن العالم؟
***
يقول الروائي غارسيا ماركيز انه طالما فوجئ بأحداث كان كتب عنها في بعض قصصه قبل وقوعها. ويعلل ذلك بأن حدس الفنان أصدق من حدث المحلل السياسي، وأكثر واقعية.
تأكدت من صحة كلامه عندما جاء الى لبنان المبعوث الاميركي، السيد مورفي، متوسطاً في الأزمة الرئاسية للعام 1988، فقال عبارته التهديدية الشهيرة: "فلان... أو الفوضى".
وقبل سنوات من ذلك التصريح كنت وضعت على لسان المبعوث الأميركي "كارت بلانش" وهو أيضاً اسم المسرحية التي كتبتها عن ازمة رئاسية متخيلة في لبنان، العبارة التهديدية نفسها: "فلان... أو الفوضى"، التي سيقولها مورفي لاحقاً فتتصدر الصفحات الأولى في الصحف اللبنانية.
لذلك لم أستغرب ان تتحقق العام 2001 نبوءتي عن ديكتاتورية الامبراطورية الكونية منذ ولادتها في مسرحية قصيرة بعنوان "1992".
اما لماذا تأخرت الديكتاتورية عشر سنوات، فلأن شعار الديموقراطية كان يحول دون اعلان "البلاغ رقم واحد" من دون ذريعة مناسبة تأخرت كواليس الامبراطورية في تدبيرها حتى الحادي عشر من أيلول من العام 2001، حين صار بامكان القيادة الامبراطورية ان تعلن: "من ليس معنا فهو ضدنا"، واضعة العالم امام خيارين: الطاعة او العقاب.
***
يقول المنظر الاميركي أيرفنغ كريستول، لتبرير قيام الامبراطورية الكونية: "ان ما حصل هو ما أراده العالم".
وفي اعتقادي ان اي استفتاء، على مستوى الشعوب، خارج الشعب الاميركي طبعاً، ستكون نتيجته معاكسة للتنظير السابق، لأن ما حصل لم يكن نتيجة ارادة شعبية بقدر ما كان انقلاباً تمّ التخطيط له طويلاً، ولا تكفي صفة "العولمة"، التي ارتبطت بهذا الانقلاب، لاخفاء حقيقة وهوية هذا الانقلاب. وكأي بلد يحصل فيه انقلاب يظن الناظر اليه انه موحد بسبب الصورة التي تنقلها عنه وسائل الاعلام التي يهيمن عليها اصحاب الانقلاب، وليس من فارق سوى ان هذا الانقلاب كان على مستوى العالم.
هذا لا يعني ان شعوب العالم ضد "العولمة". لكن اي عولمة؟
كانت العولمة مطلب شعوب العالم عندما كان لها في زمننا اسم آخر هو "العالمية"، كسعي الى مجتمع مدني عالمي، أول من بشّر به الشاعر فيكتور هوغو، بعد "ثورة المواصلات" في القرن التاسع عشر، التي كان لها الوقع نفسه ل"ثورة الاتصالات" اليوم، متنبئاً بقرب تحقق ما سماه "الولايات المتحدة العالمية"، "العالمية" وليس الأميركية.
كانت العالمية ترافق شعوراً أممياً يهدف الى تضامن الشعوب ضد المستغلين، وليس، كما العولمة اليوم، تضامن المستغلين ضد الشعوب. لذلك فإن تهمة "التخلّف" التي يُطلقها مناصرو العولمة، المستفيدون منها، على المناهضين لها، وأنا منهم، هي تهمة في غير محلها. ولعلني كنت استبقت مصطلح "القرية الكونية" بمصطلح "العالم الصغير"، الذي "صار فيه المزارع الفنزويلي يستطيع أن يُنصت الى سُعال حمّال في أقاصي سيبيريا"، كما جاء في بياني المسرحي الأول في الستينات، انطلاقاً من وعي عام آنذاك بالخطر النووي الذي وحّد العالم، عندما كانت السفن السوفياتية تتقدم في اتجاه كوبا، حاملة الصواريخ النووية، على رغم الانذار الأميركي الحاسم.
وليس الخطر الذي يواجه العالم اليوم أقل من خطر القنبلة الذرية، بل هو أشد. انه خطر قتل الأمل بمجتمع عادل، طالما داعب مخيلة البشر منذ فجر الحضارة. وكان مجرد السعي في اتجاهه يزيد من صعوبة عودة البشر الى "شرعة الغاب"، حتى بداية النظام العالمي الجديد، حيث بدا ان العالم يتجه نحو "شرعة غاب حضارية".
انه انطباع يزداد ترسخاً بقدر الشعور الطاغي بأنه لم يعد ثمة بديل عما يجري. ولعل انتشار الحديث في العالم عن قرب نهاية العالم، و"عودة المسيح"، والانتقال الى "الجنة السماوية"، هو رد فعل على التيئيس من إمكان تحقيق "جنة أرضية"، كانت محور كل مشاريع "اليوتوبيات" في التاريخ، التي استُبدلت بالأسواق الحرّة.
***
فهل كان يبالغ الكاتب المسرحي الألماني الشرقي سابقاً هاينر مولر، الذي كان معروفاً بمناهضته للنظام الشيوعي، عندما قال، بعد انهيار الجدار: "كنا نظن اننا نقتحم باب الحرية، فإذا بنا سلعة في السوق".
فأين حصة الثقافة في هذه السوق؟
***
لم تكن الثقافة في يوم ما ثقافة واحدة، بل كانت دوماً ثقافتين: ثقافة التيسير وثقافة التغيير. وليس من نتاج ثقافي فاعل، نظري أو ابداعي، خارج الصراع بين هذين المفهومين اللذين يتبادلان الغلبة بين مرحلة وأخرى. فتغلب ثقافة التيسير في بداية كل مرحلة جديدة وتنغلب في نهايتها.
وثقافة التغيير ليست واحدة بل قد تذهب في اتجاهين، يشدّ أحدهما الى الأفق الفردي، ويشد الآخر الى الأفق الجماعي، وهو الذي يتراكم عبر التاريخ تحت اسم "الثقافة الانسانية".
وإذ تتراجع الثقافة الانسانية لمصلحة ثقافة التيسير، أو ثقافة الاستهلاك، فلأن الثقافة وسيلتها الإعلام "الذي يصنع الرأي العام والذوق العام"، بحسب ريجيس دوبريه في كتابه "الميديولوجيا". والاعلام الأقدر على الوصول هو إعلام الرأسمال الأكبر، ما جعل الرئيس الفرنسي الراحل، فرانسوا ميتران، يتساءل، منذ العام 1993: "هل إن ما لم تستطع الأنظمة الشمولية تحقيقه، من فرض الرأي الواحد والرؤية الواحدة، يحققه تحالف المال والتكنولوجيا؟"
***
ان خطورة هذا التحالف، غير الرسمي، بين المصالح الحكومية والعسكرية والتجارية، انه يشمل صناعات الإعلام والإعلان والمعلوماتية.
أما لماذا صناعات الإعلام والإعلان والمعلوماتية، فالجواب عند هربرت شيلر: "لأن هذه الصناعات تمنح "التحالف" سلطة ثقافية، هي مفتاح كل سلطة".
ولكن أي سلطة؟
***
منذ أن استعانت جماهير الثورة الفرنسية الكبرى، أم الثورات الإيديولوجية، بفئة من خارجها، هي فئة المثقفين والعلماء، لدعم ثورتها، ترسخت هذه العلاقة الجدلية بين السلطة والمثقفين، وبلغت ذروتها في زمن الأنظمة الشيوعية، باعتبار ان هذه الفئة تملك أدوات المعرفة، والوعي التاريخي، وكل ما تفتقر اليه "البروليتاريا" لتحرير نفسها قبل "تحرير العالم".
لكن، منذ البداية، توقع المفكر النمسوي الماركسي كلوزوفيتز، الذي اشتهرت عنه عبارة "إن السياسة هي استمرار الحرب بطرق أخرى"، توقّع ان هذه الفئة، لدى أول تناقض بين مصالحها ومصالح الجماهير، ستغلِّب مصالحها على المصلحة العامة. وهذا ما سيؤكده لاحقاً جان - بول سارتر، ولم يكن مخطئاً، لأن أبرز المنظّرين لدعم النظام العالمي الجديد، سواء في بلدان المعسكر الشيوعي سابقاً، أو في البلدان الرأسمالية، انما جاؤوا من اليسار، وأحياناً من اليسار المتطرف، كما في أميركا، لخدمة ايديولوجيا تتناقض مع التي كانوا يعملون لها.
وفي غياب الصراع السياسي المتكافئ، الذي ميّز النظام العالمي السابق، وفي ظل هيمنة ايديولوجية وحيدة لا رادع لها، حتى اشعار آخر، يحق للمبدعين الأصيلين، تمييزاً عن المزيفين، أن يتخوفوا من التنظير الثقافي الجديد، المتماهي مع النظام العالمي الجديد ويحق للكاتب المسرحي الانكليزي ادوار بوند أن يقول: "ان المرحلة المقبلة لن تشهد صراعاً بين الحداثة ما بعدها، بل بين الثقافة وما بعدها، لأن الثقافة ستصبح سلعة يعتاش منها المثقف، من دون أن يعيش بها المجتمع".
وهو كلام لا يصدر عن ماركسي مُحبط، بل عن مبدع محسوب على الحداثة. فإذا هذا هو الحال في عالم لمركز، فماذا عن عالم الأطراف؟
***
لم تكن ثقافة عالم الأطراف، منذ بداية عصر النهضة، سوى صدى لثقافة عالم المركز، بكل أشكالها.
ومن الطبيعي أن تكون النكسة التي أصابت الثقافة الثورية في عالم المركز قد شملت الثقافة الثورية في عالم الأطراف، وبخاصة في العالم العربي، حيث النكسة مضاعفة، بسبب تحالف "التوحش الليبرالي" مع "التوحش العنصري" عندما استغل أصحاب المشروع الصهيوني الظرف الدولي الجديد للتحرر نهائياً من القرارات الدولية السابقة التي كانت تحفظ بعض الحق للشعب الفلسطيني، وبعض ماء الوجه للنظام العربي المتعاطف معه.
وعلى رغم الحصار المزدوج، وانهيار المشروع القومي للتحرير، ظلّت الثقافة الثورية مدعومة غالباً من الرأي العام، المغلوب على أمره، حتى بعد تقاعس المقاومة الوطنية، وتولّي الحركات الإسلامية زمام المبادرة، فكان على كواليس الامبراطورية الكونية، ذات المصالح المتوافقة مع مصالح حليفتها الإقليمية، خلق ممارسات ارهابية، سواء بالتواطؤ أو بالاستفزاز، وهي قادرة على ذلك في الحالين، لقطع الطريق على هذا التعاطف، عبر خلط مقصود بين المقاومة والإرهاب، لضرب المفهوم الليبرالي بالمفهوم الديني، ما يسمح للمواقف الليبرالية العربية بالتقاطع مع المواقف الليبرالية الغربية، في اتهام المقاومة بالتخلّف، والأنظمة الداعمة لها بالديكتاتورية. وهو اتهام قد يكون في محله لو أن البديل عنه، كما صار واضحاً، ليس أسوأ منه، منذ أن تنكّرت الامبراطورية الأميركية، المهيمنة على السياسة الدولية، لشعار "السلام العادل والشامل"، ما جعلني أكتب، منذ نهاية العام 1992: "إذا وصل التخطيط الأميركي - الصهيوني الى غايته، سنترحم على التخلّف العربي، والديكتاتوريات العربية، وكل أشكال القمع التاريخية".
لم يكن موقفي انحيازاً الى التخلّف والديكتاتورية، فأنا متهم، في شبه إجماع، بأنني خالق لغة المسرح "الحديث" في لبنان، كما ان مسرحيتي "الديكتاتور"، العام 1969، كانت أول صيحة مسرحية عربية ضد الديكتاتورية. لكنني، بدفاعي عن آخر المواقف المتصدِّية للاستخضاع، كنت آمل، ولا أزال، أن تتيح هذه المواقف المتصدّية، مع التمييز بين المقاومة والإرهاب، وقتاً قد يتعدل فيه التوجّه الدولي الراهن، الذي اتبعت فيه الامبراطورية الأميركية، في النظام العالمي الجديد، سياسة الحسم، في اطار "الحق للقوة"، بدلاً من سياسة التسوية، التي ميّزت النظام العالمي السابق الذي كان يسعى لتطبيق مبدأ "القوة للحق".
***
لذلك فإن الأصوات المعارضة لهذا التوجه كانت تبدو نشازاً، أو في أحسن حال كان يوصف أصحابها بأنهم يتحدثون لغة قديمة، وكأن المطالبة بالعدالة موضة لم تعد تتناسب مع التوجه الليبرالي الغالب، المساير للإدعاءات الأميركية في مسألة "الحرب على الإرهاب" التي هي، حتى الآن، أهم استثمار سياسي أميركي، لا ينغصّه سوى الذين يعملون على فضح دور الكواليس الأميركية في صناعته. لذلك لم أستغرب، كما ذكرت في رد سابق في "الحياة"، ان كاتباً مثلي، يتعارض توجهه مع توجه المنبر الليبرالي الذي يعمل فيه، وألا يظل له محل في أي منبر ليبرالي، حتى إشعار آخر، إلا كضيف ربما وليس كمسؤول، فالمنابر الليبرالية العربية أكثر تأثراً، من مثيلاتها الغربية، بالضغوط السياسية، والأمنية، بشقّيها العلني والخفي، وفي الأخص بالضغوط المالية التي، وقد لا يكون انتبه أحد الى ذلك، حالت دون استمرار اي صحيفة يومية حزبية في لبنان، بلد الحريات الإعلامية، فصارت البيانات والتصريحات الحزبية محكومة بالمنابر الليبرالية تُبرز منها أو تغفل ما يتناسب وتوجّه كل منبر.
في كتابه "مغامرات الحرية" يقول المفكر الفرنسي برنار هنري ليفي: "لقد تغلّب التطرّف الليبرالي، في غياب الرادع الاشتراكي، على الديموقراطية، فلم تعد الليبرالية تتحمّل من الديموقراطية سوى اسمها".
وقد لا نستغرب اذا علمنا بأن الليبراليين الكلاسيكيين، المتمسكين بالقيم الديموقراطية الحقيقية، هم انفسهم، بعد اقل من عقد على تهليلهم لانتصار الليبرالية، الذين وصفوا الليبرالية الجديدة بأنها "الليبرالية المتوحشة"، متذكّرين بخوف شعاراً لماركس طالما سخروا منه: "الاشتراكية او البربرية".
***
لقد بلغ التنظير الليبرالي من الوقاحة الحد الذي لم يتورع فيه المفكر الفرنسي آلان مينك عن القول: "ان الديموقراطية محكومة بالفشل، لأنها ليست من طبيعة الإنسان مثل الرأسمالية".
***
ان هذه الصورة القاتمة عن مستقبل البشرية ستزداد قتامة اذا استمر هذا النهج الرأسمالي في ظل ديكتاتورية الامبراطورية الكونية. ولا شيء يشير الى إمكانية ضبطه، على رغم الأصوات المحتجة من قلب هذا النهج، خوفاً عليه اكثر مما خوفاً منه، كما المفكر الاقتصادي ايتان كابشتاين الذي، منذ العام 1996، عندما كان مديراً لمجلس العلاقات الخارجية في واشنطن، يقول: "ان العالم يتجه دون هوادة نحو الكارثة التي سيقف حيالها المؤرخون في المستقبل حيارى يتساءلون عن السبب في عدم اتخاذ اجراءات كان يمكن ان تحول دون هذا التدهور الذي أفرزه التطور الاقتصادي، والتقدم التكنولوجي".
في إحدى تراجيديات سوفوكليس، يقول العرّاف تريزياس: "وإذ يصبح الإنسان مالكاً لمعرفة لا ينضب معينها، يستطيع بعدها ان يختار طريق الخير او الشر".
إن الأكثر تراجيدية هنا ان النخبة التي تقود العالم اليوم لها من القدرة على التضليل ما يجعل مفهوم الشر والخير مبلباً لدى الرأي العام، الذي يصنعه إعلام يزداد ضعفاً إزاء "منطق القوة"، بعكس ما كانت عليه الحال في ماضي الأيام. فماذا يفعل المستضعفون الذين بلا حول ولا قوة؟
***
في العام 1973، في "اللقاء الشعري العربي الأول" في بيروت، قلت: "ان الشعراء اليوم هم الشهداء". كلمة صدمت الشعراء، بقدر ما تجاوب معها جمهور الشعر.
كنت استوحيت كلمتي هذه، من ام سرحان سرحان، التي فوجئت بجواب ابنها على القاضي الأميركي الذي سأله: "لماذا قتلت السيناتور روبرت كينيدي؟" فرد الشاب الفلسطيني: "إنما هو الذي قتلني، يا حضرة القاضي"، وانطلق يحكي عن الخير والشر بطلاقة، هو الذي كان نادراً ما يتكلم، ما جعل امه كما اخبرني محاميه، اللبناني الأصل، عابدين جبارة، الذي جاء الى بيروت العام 1971 لحضور عرض مسرحيتي "لماذا رفض سرحان سرحان" تقول: "لقد اصبح ابني شاعراً".
في وسط هذا الإحباط المتزايد في عالمنا، هل سيتكاثر امثال هؤلاء "الشعراء"، ام ان المستقبل سيشهد لغة ثورية جديدة، قادرة على قلب المعادلات الفوقية، دون الوقوع في ما وقعت فيه سابقاً الإيديولوجيا الثورية؟
* كاتب لبناني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.