"الزمن الأميركي" شعار مجحف بحق الصهيونية ودورها في تسهيل قيام الامبراطورية الكونية التي لم تتنكّر لهذا الدور، فكان اول قرار يتخذه كل بلد "يتحرر" من الشيوعية، هو قرار الاعتراف بإسرائيل، كبطاقة دخول الى النظام العالمي الجديد. كما ان اول قرار اتخذته "منظمة الأممالمتحدة" في الزمن الأميركي، هو شطب القرار بإدانة اسرائيل بالعنصرية، الذي كانت اتخذته المنظمة الدولية في شبه إجماع في النظام العالمي السابق. وعندما حاول الرئيس الأول للامبراطورية الكونية، وقد اخذته نشوة تحقيق الحلم الأميركي، ان يغلّب المصلحة الأميركية على المصلحة الإسرائيلية، تلقى درساً، بطريقة غير مباشرة، افاد منه ابنه، الرئيس الحالي. لم تكن المساهمة الصهيونية في إسقاط الاتحاد السوفياتي خدمة مجانية للحليف الأميركي، فالشيوعية تتناقض اصلاً مع العنصرية، عدا ان الاتحاد السوفياتي كان احدى عقبتين امام استكمال المشروع الصهيوني، الثانية هي الإسلام. وما كان بالإمكان تذليل الثانية بسبب التحالف الأميركي - الإسلامي في زمن الحرب الباردة قبل تذليل الأولى. وهكذا، منذ ايصال ميخائيل غورباتشوف الى سدة السلطة، وتحويل الاتحاد السوفياتي صديقاً لإسرائيل، بعد تحوّله الى الديموقراطية، بحيث بات انهياره مسألة وقت، بدأ التنظير الصهيوني عن "الخطر الأخضر"، بديلاً عن "الخطر الأحمر"، في عدائه للديموقراطية، وللحضارة الغربية، عبر مؤتمرات راح ينظمها الإسرائيليون في اميركا تحت عنوان "مكافحة الإرهاب"، والمقصود "إرهاب" المقاومة الإسلامية في لبنانوفلسطين، لأن المقاومة الإسلامية في افغانستان كانت لا تزال معتبرة اميركياً "قوات تحرير". وكما هي العادة في تاريخ العلاقة الاستراتيجية مع اميركا، فإن الكلمة الأخيرة هي للصهيونية. كان بنجامين فرانكلين، احد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية تنبّأ، محذّراً، بأن الأميركيين سيصبحون مطيّة العقل اليهودي. وبعد اقل من قرن اكد كارل ماركس ذو الأصول اليهودية "ان السيادة اليهودية على الغرب المسيحي تحققت في اميركا الشمالية"، لأن المال "صار بفضل اليهودي قوة عالمية"، كما جاء في كتابه عن "المسألة اليهودية"، خالصاً الى القول: "إن العالم لن يتحرر، ما لم يتحرر من يهوديته". وقد ظن صانع "ثورة اكتوبر"، مستلهماً ماركس، ان العالم بدأ التحرر، و"إن الذهب لن يعود يصلح في المستقبل إلا لتزيين المراحيض العامة"، بحسب تعبيره. لكننا نعلم اليوم ان تخوّف فرانكلين على الديموقراطية الأميركية من العنصرية اليهودية، وتخوّف ماركس على الحرية الإنسانية من الحرية المالية، قد تحققا، على رغم تناقضهما، عندما وحّدهما المشروع الصهيوني في "الزمن الأميركي". كان ابن المقفع يقول: "ان الزمن هو الناس"، لذلك فإن التاريخ لن ينتهي هنا طالما ثمة مغبونون وغابنون بين الناس، وطالما ظلت العدالة منتقصة، وهي اليوم في ذروة انتقاصها، في العالم بعامة وفي العالم الإسلامي بخاصة، حيث "الدعوة الى العدالة" هي الإسلام، كما لخصه عمر بن الخطاب، وتعاقب على تأكيد هذا التلخيص كل الفقهاء، حتى ابن تيمية الذي عاش في ذروة التعصب الإسلامي بعد "الحروب الصليبية"، يقول: "ان الله لا ينصر حاكماً ظالماً وإن كان مؤمناً، وينصر حاكماً عادلاً وإن كان كافراً"، واضعاً هكذا العدالة قبل الإيمان. ولأن غالبية الناس، في كل مكان وزمان، حساسة للعدل، كان لا بد من تغييب مسألة العدالة عن الصراع الغربي - الإسلامي الذي كان "تنبأ" به الصهاينة الأميركيون منذ نهاية الحرب الباردة. وهكذا صار عنوان الصراع الراهن: "التقدم في مواجهة التخلف" وهو عنوان سليم الشكل مزوّر المضمون. فأين التقدم في دعم الغرب مشروع دولة عنصرية على اشلاء شعب آخر، بحجة "وعد إلهي" مزعوم؟ وأين التخلف في مقاومة هذا المشروع؟ إلا اذا المقصود الإمكانات بين الطرفين. لكن الإعلام، صانع الرأي العام، الذي للصهيونية الحصة الكبرى في توجيهه، استطاع تحميل مسؤولية الصراع الى الحضارة الإسلامية التي ترفض التقدم طالما ان الحضارة المسيحية هي التي تقوده، بحسب تعبير صموئيل هانتنغتون. وهي مقولة ينقضها تاريخ الإسلام السياسي في عصر النهضة. فالنخبة الدينية الإسلامية ناصرت مبادئ الثورة الفرنسية، فاتحة عصر الأنوار في العالم، حين كانت النخبة الدينية المسيحية في الغرب تحارب تلك المبادئ. لقد بشّر الشيخ الأزهري، رفاعة الطهطاوي بالدستور الفرنسي: "على رغم ان غالب فيه اي الدستور ليس في كتاب الله ولا في سنّة رسوله، ولكن فيه امور لا ينكر ذوو العقل انها من باب العدل". والعدل للشيخ الطهطاوي هو الحرية: "وإن ما يسمونه اي الفرنسيون الحرية هو عين ما نسميه نحن العدل والإنصاف". ولم يكن الشيخ مخطئاً، فليس ثمة عدالة من دون حرية، ولا حرية بلا عدالة، بعكس ما يفعل اليوم بعض منظّري الحداثة الذين عندما ينادون بالحرية، يتجاهلون العدالة. وهذه المعادلة "الحرية - العدالة"، كانت منتقصة في الشرق كما في الغرب، قبل الثورة الفرنسية. فلم يكن الاستبداد في الغرب المسيحي منذ انهيار اثينا، اقل شراسة من الاستبداد في الشرق الإسلامي منذ انهيار الخلافة الراشدية. ومع تحطيم الثورة لهذا المفهوم الاستبدادي، الذي حكم العالم في العصر الوسيط، كانت النخبة الإسلامية هي السباقة في الشرق الى مناصرة مبادئها التي اعتبرتها استكمالاً للثورة الإسلامية التي كان صادرها الحكم الأموي بتبنيه تقاليد الحكم في بلاد الروم والفرس. ولم يتحرّج الإمام الكواكبي من وضع "النبيّين" و"رجال ثورة الفرنسيس" في مصاف واحد. واعتبر الإمام محمد عبده ان الإسلام الحقيقي موجود في فرنسا، ولو من دون مسلمين. وبلغ انبهار النخبة الإسلامية بمبادئ الثورة الفرنسية ان قادت جماهيرها الى التمرد على مركز الخلافة الإسلامية الذي كان يجسد التخلف والاستبداد. فعن اي حضارة غربية مسيحية مرفوضة إسلامياً يتحدث هنتنغتون؟ بالطبع ليس عن مبادئ الثورة الفرنسية، او الدستور الأميركي، بل عن حضارة الغزو والاستغلال التي ساندت التخلف والاستبداد في الشرق الإسلامي، وحالت دون تقدمه. حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت النخبة الإسلامية، كما النخبة الوطنية، تميز بين وجهين للغرب: الوجه الحضاري والوجه الاستعماري. فالطهطاوي، اول من بشّر بالدستور الفرنسي، كان من جيل طرد الفرنسيين من مصر. وظل هذا التمييز بين الوجهين قائماً حتى وحّدهما المشروع الصهيوني المدعوم من الغرب سياسياً وثقافياً، فلم يعد بإمكان النخبة الإسلامية، ولا الوطنية، ان تقنع جماهيرها بأن المشروع الصهيوني ليس "حملة صليبية" جديدة، الى "بيت المقدس" بوكالة يهودية. وهي صورة ليست بعيدة من الواقع، ومع ذلك انقادت الغالبية المسلمة الى الخطاب الوطني، ولم يصبح الخطاب الديني مسموعاً إلا بعد انهيار المشروع الوطني والقومي للتحرير. وكان بإمكان الخطاب الديني ان يستنهض ويدعم المشروع الوطني، كما حصل في حرب التحرير الجزائرية، لولا ان المسؤولين عنه آنذاك اهتموا بمشروع السلطة اكثر مما اهتموا بمشروع التحرير، فزادوا التصدع تصدعاً. ومن شقوق هذا التصدع تغلغلت السياسة الأميركية التي احتكرت السياسة الغربية في النصف الثاني من القرن العشرين لتدعم التيار الإسلامي، في اطار الصراع على السلطة ضد التيارات الوطنية والقومية واليسارية. ولم يكن من المستغرب، ان نقرأ في مذكرات هنري كيسنجر، وزير خارجية اميركا الأسبق، بأنه نصح صديقه الرئيس انور السادات، بتعزيز الإسلاميين. لم تكن النصيحة لوجه الله، ولا لوجه الإسلام، ففي غياب استراتيجية اسلامية سياسية سليمة كان يسهل استغلال بعض الحركات الإسلامية لمصلحة اميركا والله معاً. والأميركيون حريصون على مرضاة الله حتى انهم وضعوا شعار "اننا نثق بالله" على ورقة الدولار. وهكذا تطوع المناضل الفلسطيني، والداعية الإسلامي، الشيخ عبدالله عزام. استاذ اسامة بن لادن، للجهاد مع الناشطين الإسلاميين العرب في بلاد الأفغان، ضد الاتحاد السوفياتي، حليف القضية الفلسطينية، لمصلحة اميركا، حليفة اسرائيل، كما لو ان تغيير نظام نجيب الله الشيوعي اهم من تحرير فلسطين. أو ان دعم الحركات الانفصالية الإسلامية في آخر الدنيا ضد دولها القومية غير الموالية للسياسة الأميركية اهم من مواجهة التفتيت الصهيوني - الأميركي للمنطقة العربية، مهد الإسلام والمسلمين. كان الناشطون الإسلاميون آنذاك يدفعون سلفاً الى اميركا وإسرائيل، ومن دمهم، اجرة دفن قضيتهم المركزية في فلسطين. وعندما احتاجت اميركا، بعد نهاية الحرب الباردة، عدواً بديلاً عن الشيوعية، اكتشف اسامة بن لادن الوجود الأميركي في جزيرة العرب فأعلن ورفاقه الحرب على اميركا، بالأسلوب الذي تمنته، فخدموها في زمن العداء اكثر مما خدموها في زمن الولاء. إذا استثنينا تفجير المدمرة الأميركية كول في ساحل اليمن، فإن كل التفجيرات الأخرى المنسوبة الى تنظيم "القاعدة" وحلفائه، التي طاولت المدنيين، كانت تصب في مصلحة اميركا، وتضفي الشرعية على إرهابها، وعلى إرهاب اسرائيل التي استغلت تأسيس بن لادن للجبهة الإسلامية العالمية، العام 1998، لتضع المقاومة الفلسطينية في خانة الإرهاب الدولي، مشبّهة العمليات الاستشهادية للفلسطينيين بعمليات تنظيم "القاعدة"، وهو تشبيه ظالم كما نعلم، ليس فقط لأن المقاومة الفلسطينية تعتبر ان كل اسرائيلي هو مغتصب للأرض الفلسطينية وهذا التبرير لا ينطبق على المدنيين الذين يستهدفهم تنظيم "القاعدة" بل لأن استشهاديي المقاومة الفلسطينية، المحصورين بين مطرقة الجيش الإسرائيلي وسندان السلطة الفلسطينية، والمحاصرين بالحدود العربية المغلقة، كانوا يفجّرون اجسادهم بأعدائهم لأنها آخر وسيلة مقاومة متاحة لهم. فالمقاومة الإسلامية في جنوبلبنان لم تضطر الى قتل اي اسرائيلي مدني، طوال زمن التحرير، لأن الوسائل المتاحة كانت عديدة. وكذلك لتنظيم "القاعدة" الذي اصر على خيار قتل المدنيين. لم يستفد التنظيم وحلفاؤه من فشل الإرهاب الدولي السابق المحسوب على اليسار. ولم يعرف التاريخ ان ارهاب الأفراد غلب ارهاب الدولة، فكيف اذا الدولة المعنية هي اميركا، الامبراطورية الكونية. كما لم يستفد التنظيم على الصعيد المحلي من تجربة الثورة الإسلامية في إيران. ففي الرسالة المنسوبة الى أيمن الظواهري، بعد تفجيرات الرياض والدار البيضاء، التي طاولت بعض المدنيين، يبشر الظواهري المسلمين بالمزيد من هذه العمليات ل"شفاء قلوبهم"، محوِّلاً مشروع التحرر والتحرير عن إسلاميته الى جاهليته، منفِّساً الاحتقان الشعبي، بعكس الثورة الإسلامية في إيران التي لم تنجح بالإرهاب، ولا بانقلاب، بل بتعبئة شعبية عرف المسؤولون عنها كيف يعملون، بصبر عظيم وتضحيات كبيرة، على استحثاث تضامن شعبي كان كفيلاً باسقاط أشرس نظام بوليسي في المنطقة. ومنذ البداية وضعت الثورة استراتيجية سياسية واضحة بترتيب سليم للأولويات: المشروع الصهيوني المدعوم أميركياً فلم يناصرها تنظيم "القاعدة" لأنه كان مشغولاً بمساندة أميركا في حربها ضد الكفر. وعندما اكتشف الخطأ متأخراً لم يستفد من تجربتها. إن الجماعات "الأصولية" في الجزائر، لم تكن تقدم وجه الإسلام عندما كانت، ولا تزال، تذبح الأطفال والنساء من أبناء بلدها، باسم الإسلام، نكاية بالنظام. وكذلك احدى الجماعات الإسلامية في السودان التي ذبحت المصلّين، من جماعة أخرى، في قلب المسجد، أسوة بما كان فعله أحد الصهاينة بالمصلين في المسجد الأقصى. أو تلك الجماعة في مصر التي خططت لقتل وفد إسرائيلي في القاهرة، فقتلت بداعي "الخطأ" وفداً من اليونان، الدولة التي حافظت على انحيازها للقضية الفلسطينية، فأصبحت ضحية "الإرهاب الإسلامي". ولا يخطئ من يظن أن هذا الوجه المشوه للإسلام ليس تعبيراً بريئاً عن التخلف، وان بعضه مصنوع في مطابخ أعداء الإسلام، للإساءة الى الإسلام المقاوم للاحتلال الإسرائيلي. كنت، بين قلة من العاملين في المنابر الليبرالية، تنبهت باكراً الى زيف بعض العمليات الإرهابية المنسوبة الى الإسلاميين، حيث يهب الليبراليون كجوقة واحدة، في العالم بعامة وفي عالمنا بخاصة، لإدانة "الظلامية"، بما بدا لي انه تعميم إعلامي للمساهمة بقصد، أو من دون قصد، في تكبير "الخطر الإسلامي"، تمهيداً لاستغلاله. ولم يلبث الاختصاصي بالنظام الأميركي وكواليسه، نعوم تشومسكي، أن كشف لاحقاً في كتابه "الثقافة السياسية الأميركية" هذه الحقيقة: "ان محور السياسة الخارجية الأميركية يقوم على توفير نظام دعاية يعمل ببراعة لاستحثاث الشعور بالخوف في أوساط السكان المحليين، واستغلاله لتعبئة السكان ضد وحوش، علينا أن نحميهم منها... لضمان الاستقرار في ممتلكاتنا الكونية". كان واضحاً، لي في الأقل، ان هذه السياسة الإعلامية ستجعل الأولوية في المواجهة "للخطر الإسلامي" وليس الخطر الصهيوني، أو في الأقل ستمزق الاجماع حول الأولوية، في اطار عنوان مزور: "التنور في مواجهة الظلامية"، و"التقدم في مواجهة التخلف" انزلق الى تبنيه بعض اليسار أيضاً، علماً أن أهم مبادئ الصراع، في التنظير الماركسي، أن تكون الأولوية في المواجهة للتناقض الرئيسي وليس الثانوي. فالتخلف أمر قابل للعلاج مع الزمن، بعكس العنصرية الصهيونية العاصية على الزمن. عدا ما سيترتب من نتائج سلبية، في حال انتصارها، على شعوب المنطقة بما في ذلك الشعب اليهودي، إذا الغاية هي الاستقرار وليس الاستنفار. وإن أبلغ مثال على تزوير عنوان هذا الصراع، ان "التقدم الحضاري"، المنسوب الى اسرائيل كطليعة الديموقراطية الغربية في المنطقة، سمح بذبح اطفال ونساء مخيمات صبرا وشاتيلا بعد رحيل المقاومين عنها، حين "التخلّف الحضاري" المنسوب الى المقاومة الإسلامية، منع قتل المجرمين من عملاء إسرائيل في جنوبلبنان بعد هزيمتهم. ومع ذلك، فإن الديموقراطيين العرب يصرون على الانخداع بالديموقراطية الإسرائيلية، كما بالأميركية، في حين يقتصر التنافس الحر على السلطة في "هاتين الديموقراطيتين"، حول الأسلوب الأفضل لاضطهاد حريات الآخرين. الذين كانوا يتابعونني في الماضي قد يستغربون موقفي الحالي من الديموقراطية، لأنني كنت، في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية، كتبت: "إن حدود وطني هي حدود الضمير الديموقراطي للمواطن". وكان يمكن للإستغراب أن يكون في محله لو أن الديموقراطية ظلت في محلها، وفي مفهومنا عنها. لكن منذ أن أعلن الرئيس الأميركي، بعد نهاية الحرب الباردة، انه سيفرض الديموقراطية على العالم، قطع الطريق عليها، لأن "الديموقراطية تتناقض ومصالح الامبراطورية"، كما كان أكد ذلك بركليس، مؤسس الديموقراطية في العالم. ولعلنا لم ننس ان الامبراطورية الأميركية، زعيمة "العالم الحر" في زمن الحرب الباردة، كانت منحازة غالباً الى الديكتاتوريات ضد الديموقراطيات التي لا تناسبها، وأبرز مثال ما حدث في التشيلي، عام 1973. وما التخلي عن المجازفة بدعم الديكتاتوريين، غير المضمونين بين ولاء وعداء ضياء الحق، نورييغا، صدام حسين إلا لأن الديموقراطيين، في ظل الهيمنة الأحادية للامبراطورية الكونية، أكثر ضماناً، طالما ان الديموقراطية هي السلعة الرابحة التي تحتكر اميركا تصديرها، بكفالة مستمرة باستمرار الهيمنة. لذلك عندما اشترط بنيامين نتنياهو، الرئيس الأسبق لحزب الليكود، للصلح مع العرب تبنّيهم الديموقراطية، لم يكن يجهل ان الرأي العام العربي، في غالبيته الساحقة، هو اكثر تشدداً من سلطاته الاستبدادية إزاء الشروط الإسرائيلية للسلام، لكنه كان يعرف ان الديموقراطية المطلوبة هي "الديموقراطية الأميركية"، الخبيرة باختيار ودعم وتسويق ممثليها المحليّين الأكثر ذكاء في تبليع جماهيرهم الخيارات المطلوبة، والأكثر ولاء، تحت ضغط الملفات الشخصية، وتهديد الأسواق المالية، ما يجعل قراراتهم مضبوطة، خصوصاً التي تتعلق بالأمن وتحديداً بأمن إسرائيل الذي هو "مفتاح أمن العالم"، كما صرحت بذلك كوندوليزا رايس، مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي. الأمن الذي لم يعد يهدده، بعد سقوط "امبراطورية الشر"، سوى الإسلام. لدى قيام الدولة العبرية في فلسطين قالت الفيلسوفة الألمانية اليهودية حنة أرندت ان الذين يراهنون على ان الاسلام يستسلم، مع الوقت، للقوة، يخطئون. وفي اعتقادي انها كانت على حق، لأن استفزاز المشاعر الدينية يعيد المسلمين الى إسلامهم بقوة أكبر وبتشدد أكثر، كما حال أتباع كل دين، وبخاصة الدين الإسلامي، الذي هو دين ودنيا. والذي هو آخر ايديولوجية قادرة على استحثاث تضامن جماعي، في زمن يسعى سادته الى تدمير كل قدرة تضامنية تقف في طريق مشاريعهم التي استباحت الحد الأدنى من العدالة الدولية والقيم الإنسانية. لكن هذه القدرة على التضامن لدى المسلمين، في مطالبتهم بحقوقهم، لا تصبح قوة احتجاج فاعلة إلا اذا تضامنت مع ما تبقى من قوى الاحتجاج، خارج الإسلام. فالصراع في الزمن الراهن يختلف عن أي صراع في الزمن السابق، لأن قوى الهيمنة لم تعد موزعة في العالم، بل هي موحدة في ظل الامبراطورية الكونية المعاصرة، وتصعب مواجهة هيمنة موحدة بقوى احتجاج متفرقة، خصوصاً اذا كانت كل قوة احتجاج منقسمة على نفسها، كما في الإسلام المنقسم على نفسه بين مقاومة وإرهاب، فيعطل الإرهاب ما تسعى اليه المقاومة. وحتى لو استطاعت قيادة حكيمة تسوية الانقسام لمصلحة المقاومة، تظل قوة الاحتجاج الإسلامية أضعف من أن تواجه منفردة قوة هيمنة كونية. ثمة مصطلح إسلامي قد يكون الإطار الجامع لكل قوى الاحتجاج في العالم: "الاستضعاف في مواجهة الاستكبار". وهو أوسع من المصطلح "الكفر في مواجهة الإيمان". لأن الإيمان علاقة الإنسان بربه، وأما العدالة فهي علاقة الانسان بالانسان. وفي صيحة عمر بن الخطاب: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً"، لم يكن يميز في الناس بين مسلم وغير مسلم. والاستضعاف اليوم لا يخص المسلمين دون غيرهم، وليس التركيز على ذلك إلا لأن بلدان المسلمين تعوم على بحر من النفط الذي يعتقد الاستكبار العالمي انهم لا يستحقونه. وسبق للمستكبرين أن مارسوا الاستبداد نفسه على "حركة لاهوت التحرير" المسيحية في القارة اللاتينية عندما تضامن المؤمنون مع الرافضين الاستكبار العالمي الذي يستغل ثرواتهم. المستضعفون في الأرض هم اليوم الغالبية الساحقة من البشر المسحوقين بالجشع المادي، والاستبداد الحضاري، واللؤم العنصري. ولا خيار أمامهم سوى التضامن حول الحدّ الأدنى من حقوقهم في العدالة والحرية والسلام، بلغة مشتركة ومعاصرة، هي الأمل الوحيد في تصحيح مسيرة البشرية التي يقودها سادة العالم الجدد، باسم التقدم، الى "شرعة الغاب"، التي منذ فجر الحضارة والانسان يسعى لتجاوزها. ان أخطر ما في هذه المسيرة ليس أطماع السادة، بل تنظيرات النخبة التي تعتاش على موائدهم وتسهّل لهم الطريق، باسم الحرية، التي ستكون، في إطار السياسة الدولية الراهنة، محاصرة من الطرفين: إرهاب الأفراد وإرهاب الدولة، وهما الوجهان للعملة الواحدة الرائجة في السوق. * كاتب لبناني. والنص مقدمة كتاب جديد له في عنوان "الإرهاب بين السلام والإسلام"، يصدر هذا الشهر عن "دار الفارابي" في بيروت، وعن "المؤسسة الوطنية للنشر والإشهار" في الجزائر، ويضم مجموعة مقالات في الموضوع صدرت للكاتب خلال السنتين الأخيرتين.