لا شك في أن المتغيرات تتسارع في عالم اليوم، إذ تجتاح العولمة مختلف الميادين الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لذلك تحتاج قراءتها إلى أكثر من وقفة متروية ومتحرية، وانفتاح الفكر والذهن، ولا يجدي الوقوف موقف الرافض أو المفسر وفق منطق المؤامرة وذهنيتها اللذين يحيلان، في سهولة، كل شيء إلى مكائد قوى الخارج. ويستدعي فهم العالم اليوم، وفهم الخطاب العالمي السائد، البحث في مكونات المتغيرات وفي مرتكزات الخطاب ومرجعياته المختلفة، وطرح الأسئلة عليه، بل وإقحامه في التاريخ، وكشف تراتبية القوة بين ثناياه وأوجهه المختلفة. وبالترادف مع ما يحصل، نشهد منذ مدة تعاظم الاهتمام بحقوق الإنسان الكونية والديموقراطية، وصعوداً في نبرة القانون الدولي. ويترافق ذلك مع تبلور اتجاه مهمّ في النظرية السياسية، يشير إليه "فريد هاليداي"، بانتباه لافت في كتابه "الأمة والدين في الشرق الأوسط" دار الساقي 2000. هذا الاتجاه "يضع إمكانية أي مفهوم كوني للحقوق، أو مرغوبيته، موضع تساؤل". بنت الفلسفة الغربية، عبر تاريخها الطويل، هرم تمركزها على الذات، ووضعت تراتبية معينة له، أفضت إلى تمركزات عدة تدعم تمركزها الذاتي الإحالة والمرجع، ونظرت إلى الآخر - المختلف، نظرة ريبة وشكّ، وحاولت إقصاءه وتهميشه، بل وإلحاقه بنمطها عبر حركة الأوربة، ونشأت الفلسفة السياسية على خلفية هذا التمركز وأقطابه المهيمنة. ومع تنامي الرأسمالية وصعودها، أضحت حقوق الإنسان خاضعة لمعايير اصطلاحية تتماشى أو تتعايش مع أخلاقيات السوق ومتطلباتها، بل ونهضت مفاهيم الحقوق في الخطاب السياسي العربي على حقيقية التمركز الذاتي في اقصى احواله، إذ جُعل منها مفاهيم تخص مجتمع الغرب المنشود، وباتت كل محاولة لكوننة هذه الحقوق تصطدم بالعراقيل وبالحواجز التي تضعها قوى الهيمنة والسيطرة. ويلاحظ "هاليداي" تنامي ادعاء، داخل الغرب، يزعم بوجود حدود لما يمكن وصفه للمجتمعات الأخرى، وان في مصلحة الجميع وخيرهم الامتناع عن ذلك، ويسميه "امتناعية الهيمنة". إذ أن هذا الاتجاه ينزع إلى الهيمنة، بصفة كونه صادراً عن بعض الأوساط النافذة داخل الدول الديموقراطية الليبرالية المهيمنة، ويعكس خياراً لأشكال استخدام القوة المتاحة لها. وترجع جذور هذا الادعاء في التفكير السياسي الغربي إلى أبعد من سبينوزا وروسو وهيغل وماركس وهيدغر، إضافة إلى أنه يغطي أغلب مساحات التفكير الأنثروبولوجي والسوسيولوجي، إذ خص هذا التفكير كل جماعة من البشر بقيم معينة بحسب المناطق الجغرافية. وانبثق التفكير الكولونيالي من هذه المساحات، مختلطاً بالداروينية الاجتماعية، ليزعم أن حقوق الإنسان ومجمل القيم السياسية ليست قابلة للتطبيق إلا على نخبة من الدول الغربية. وفي ظل العولمة تبرز من جديد أصوات توظف النقاش في شأن حقوق الإنسان والديموقراطية توظيفاً أداتياً في دعاوى متعارضة. فمن جهة تبرز "امتناعية الهيمنة"، ومن جهة أخرى يتعاظم اتجاه في الدول التي تحدث فيها اختراقات وتجاوزات لحقوق الإنسان، خصوصاً في الشرق الأوسط ومجمل دول آسيا وأفريقيا. ويتخذ هذا الاتجاه شكل نقد للهيمنة الغربية ولمفاهيمها المركزية الاثنية. لكن هذا النقد، ويا للأسف، يصدر عن أولئك الذين يمارسون الانتهاكات ويصادرون الحقوق. ويسوق هذا النقد ادعاءاته بناء على خصوصية قيم آسيوية أو إسلاموية: قومية أو أصولية أو ثقافية. إلا أن كلا الاتجاهين السابقين يهدف إلى إنكار وجود معايير كونية يشترك فيها الجميع بغض النظر عن الجنس أو الاثنية، وإلى تمييع حقوق الإنسان، بخاصة، وتمييع قضايا الديموقراطية والعدالة والحرية الفردية والجماعية، بعامة. إذاً، تواجه حقوق الإنسان تحديات مختلفة من الخارج ومن الداخل، خصوصاً بعد صعود النزعات القومية والنزاعات الاثنية، وبروز الاستخدام المتحزب لحقوق الإنسان. اذ يقوم منطق الخطاب المتحزب على تقسيم الدول والمجتمعات، وفق نظام تراتبي، أنواعاً عدة بحسب تقسيم "جون راولز". ويمكن حصر ثلاثة منها وهي: الدول الليبرالية الحسنة التنظيم، والدول "الخارجة عن القانون الدولي"، ودول "تبدي ظروفاً غير ملائمة"، وهي "تفتقر إلى التقاليد السياسية والثقافية والرصيد الإنساني والموارد البشرية اللازمة للمجتمع حسن التنظيم". وتحتل هذه التراتبية مكانة مهمة في النظام السياسي للعولمة، وعليه يجب أن تواجه الدول الخارجة عن القانون عقوبات شتى ويُرفض قبولها كأعضاء في المجتمع الدولي كالعراق وليبيا وكوبا وغيرها. أما الدول التي لا تتوافر فيها الشروط لأن تكون مجتمعات حسنة التنظيم، فيقع على عاتق المجتمعات الليبرالية مساعدتها في تصحيح الأمور وتدعيم حقوق الإنسان فيها وأمثلتها عدة. فمعايير هذا المنطق ملتبسة، ويزداد التباسها عند تطبيقها على الدول، إذ أن كثيراً من الانتهاكات الخطيرة لحقوق الإنسان تجد ما يبررها وفق منطق التحزب العولمي. وأسطع مثال الانتهاكات الخطيرة للحقوق الجماعية للشعب الفلسطيني التي مارستها وتمارسها إسرائيل إضافة إلى احتلالها الاراضي العربية. وتجد هذه الانتهاكات دوماً ما يبررها وفق منطق الاستخدام المتحزب للحقوق و"امتناعية الهيمنة". وتلتقي إسرائيل بذلك مع تركيا في انتهاكها المستمر لحقوق الأكراد واحتلالها شمال قبرص، اضافة إلى الانتهاكات الخطيرة للحقوق الفردية في غالبية الدول التي تربطها مصالح اقتصادية قوية مع اقطاب الهيمنة والتي تجد ما ومن يبررها في الخطاب المعولم. انبثقت الأمم والجماعات القائمة في أيامنا هذه حين انهيار كيانات أكبر منها، كالإمبراطوريات الكبرى. وأدى ذلك الانهيار إلى انفصام الأواصر فوق القومية، علماً ان الأمم والجماعات تتشكل من سياق مكونات قومية في إطار عالمي من أفكار وثقافة وسكان وتقنية وغيرها. إذاً تستمد الدولة في أيامنا هذه مكوناتها ليس من خاص محلي بمقدار ما تستمدها من مصادر وسياقات متنوعة ومتفاعلة، لذلك فإن حقوق الإنسان ليست معايير تصلح لهذا البلد ولا تصلح لسواه. فهذه الحقوق ارتبطت منذ القدم بالحق الطبيعي للإنسان، وأضحت كونية أو فوق قومية، ولا ترتبط بالتقليد أو بالخاص لهذا البلد أو لذاك، فليس هناك مجتمع ديموقراطي مغلق أو قائم بذاته ولذاته، ولا نظام قمعي كذلك، فالأنظمة الديكتاتورية والقمعية تشكلت، وأضحت جزءاً من نظام الدولة الحديث، اضافة إلى تشكل الديماغوجية القومية والدينية. وتبرز اليوم أهمية القيام بمسعى فكري كوني مشترك للحقوق، لأننا كما يقول "هاليداي" نتاج إنسانية مشتركة، ويجمعنا انتماء مشترك إلى نظام اقتصادي وسياسي عالمي واحد أنجبته الحداثة والتراكمات المعرفية والثقافية التي سبقتها. * كاتب سوري