«سدايا» تفتح باب التسجيل في معسكر هندسة البيانات    الأسهم الاسيوية تتراجع مع تحول التركيز إلى التحفيز الصيني    انطلاق «ملتقى القلب» في الرياض.. والصحة: جودة خدمات المرضى عالية    تقرير أممي يفضح إسرائيل: ما يحدث في غزة حرب إبادة    خطيب المسجد النبوي: الغيبة ذكُر أخاك بما يَشِينه وتَعِيبه بما فيه    فرع هيئة الهلال الأحمر بعسير في زيارة ل"بر أبها"    الإتحاد يُعلن تفاصيل إصابة عبدالإله العمري    بطلة عام 2023 تودّع نهائيات رابطة محترفات التنس.. وقمة مرتقبة تجمع سابالينكا بكوكو جوف    نيمار: 3 أخبار كاذبة شاهدتها عني    أمانة الطائف تجهز أكثر من 200 حديقة عامة لاستقبال الزوار في الإجازة    رفع الإيقاف عن 50 مليون متر مربع من أراضي شمال الرياض ومشروع تطوير المربع الجديد    جدة تستعد لاستقبال مهرجان "منطقة العجائب" الترفيهي    المودة عضواً مراقباً في موتمر COP16 بالرياض    خطيب المسجد الحرام: من صفات أولي الألباب الحميدة صلة الأرحام والإحسان إليهم    في أول قرار لترمب.. المرأة الحديدية تقود موظفي البيت الأبيض    الفرصة لاتزال مهيأة لهطول الأمطار على معظم مناطق المملكة    دراسة صينية: علاقة بين الارتجاع المريئي وضغط الدم    5 طرق للتخلص من النعاس    «مهاجمون حُراس»    حسم «الصراعات» وعقد «الصفقات»    محافظ محايل يبحث تطوير الخدمات المقدمة للمواطنين    شرعيّة الأرض الفلسطينيّة    مهجورة سهواً.. أم حنين للماضي؟    «التعليم»: تسليم إشعارات إكمال الطلاب الراسبين بالمواد الدراسية قبل إجازة الخريف    لحظات ماتعة    محمد آل صبيح ل«عكاظ»: جمعية الثقافة ذاكرة كبرى للإبداع السعودي    فراشة القص.. وأغاني المواويل الشجية لنبتة مريم    جديّة طرح أم كسب نقاط؟    الموسيقى.. عقيدة الشعر    في شعرية المقدمات الروائية    الهايكو رحلة شعرية في ضيافة كرسي الأدب السعودي    ما سطر في صفحات الكتمان    الهلال يهدي النصر نقطة    رودري يحصد ال«بالون دور» وصدمة بعد خسارة فينيسيوس    متى تدخل الرقابة الذكية إلى مساجدنا؟    حديقة ثلجية    «الدبلوماسية الدولية» تقف عاجزة أمام التصعيد في لبنان    لصوص الثواني !    فصل الشتاء.. هل يؤثّر على الساعة البيولوجية وجودة النوم؟    منجم الفيتامينات    الناس يتحدثون عن الماضي أكثر من المستقبل    الحرّات البركانية في المدينة.. معالم جيولوجية ولوحات طبيعية    الأزرق في حضن نيمار    جودة خدمات ورفاهية    أنماط شراء وعادات تسوق تواكب الرقمنة    من توثيق الذكريات إلى القصص اليومية    قوائم مخصصة في WhatsApp لتنظيم المحادثات    أُمّي لا تُشبه إلا نفسها    كولر: فترة التوقف فرصة لشفاء المصابين    نائب أمير الشرقية يطلع على جهود اللجنة اللوجستية بغرفة الشرقية    مبادرة لتشجير مراكز إسعاف هيئة الهلال الأحمر السعودي بمحافظة حفر الباطن    أمير الباحة يستقبل مساعد مدير الجوازات للموارد البشرية و عدد من القيادات    المريد ماذا يريد؟    أمير تبوك يبحث الموضوعات المشتركة مع السفير الإندونيسي    التعاطي مع الواقع    ليل عروس الشمال    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني وفريق عملية زراعة القلب بالروبوت    ولي العهد يستقبل قائد الجيش الباكستاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"أبوة" التحالف الأميركي - الاسرائيلي بين كنيدي وجونسون ... والبدايات المبكرة ل"المحافظين الجدد"
نشر في الحياة يوم 03 - 08 - 2003

Warren Bass: Support Any Friend: Kennedy's Middle East and the Making of the US-Israeli Allinace
Reviewed by Patrick Seale
Oxford University Press -2003
الكتاب: "سندعم أي صديق: منظور كنيدي للشرق الأوسط وقيام التحالف الأميركي - الاسرائيلي"
المؤلف: وارن باس
الناشر: مطبعة جامعة أكسفورد 2003
يدور كثير من الكلام في أوروبا اليوم - في مكاتب الصحف وحفلات العشاء ووزارات الخارجية - على الطريقة التي تم فيها خدع الولايات المتحدة وبريطانيا وجرهما الى الحرب على العراق، أو ربما كيف تمكن الاثنان من جرّنا الى الاعتقاد بأن لهما ما يكفي من المبررات الحقيقية للقيام بذلك. الرأي الواسع الانتشار الآن هو ان الحرب جاءت نتيجة عملية احتيال - لكن من كان المحتال، وعلى من؟ هل تسلم جورج بوش وتوني بلير معلومات استخباراتية ملفقة، أم قاما بتحريف تلك المعلومات وتلميعها لتضخيم الخطر العراقي تبريراً للغزو؟ الكل يتفق على وحشية صدام حسين، لكن كثيرين، خصوصاً على هذا الجانب من الأطلسي، يرون ان غزو العراق لاطاحته كان خطوة تفتقر بالكامل للمبررات والمشروعية، وشكلت انتهاكاً صارخاً لميثاق الأمم المتحدة وسابقة مؤسفة في العلاقات الدولية. وربما لن نجد من الآن فصاعداً سوى الغابة وقانونها الوحيد: "الحق للقوة".
وبدأ عدد من لجان الاستخبارات والشؤون الخارجية في مجلس العموم البريطاني والكونغرس الأميركي التحقيق في كيفية التوصل الى قرار الحرب، والوقت الذي تم فيه ذلك، والأسس التي قام عليها القرار. لكن قد يكون من المستحيل على أي تحقيق أن يخترق تلك الغابة المتشابكة من الأجهزة البيروقراطية المتنافسة والجواسيس والمنفيين والهاربين وغير هذه من المصادر التي لا تخدم الاّ ذاتها، اضافة الى اللوبيات المؤيدة لاسرائيل ورؤساء تحرير المجلات والخبراء في مراكز الأبحاث وتشكيلة الايديولوجيين بنفوذها القوي، خصوصاً في واشنطن، على صوغ السياسة الخارجية.
ماذا كانت البداية؟ القصة، في جزء مهم منها وليس كلها، هي العلاقة الخاصة بين الولايات المتحدة واسرائيل. ويستعيدها كتاب وارن باس المهم "سندعم أي صديق"، الصريح في أسلوبه والمستند بدقة الى المصادر الأولية، من خلال النظر الى ديبلوماسية الستينات، وما يعتبره بداية التحالف الاستثنائي في حميميته بين الولايات المتحدة واسرائيل كما نراه اليوم. انها في جوهرها قصة تمكن اسرائيل واصدقاءها الأميركيين من ممارسة تأثير بالغ العمق في سياسة اميركا تجاه العالمين العربي والاسلامي. وهو يرى انها بدأت مع جون كنيدي. انها مقولة مثيرة للاهتمام، ويقدم باس دفاعاً قوياً عنها، على رغم أنني، من منظوري على الأقل، أرى أن التحالف الأميركي - الاسرائيلي بدأ فعلياً مع ليندن جونسون، بعد اغتيال كنيدي.
عقد المحافظون الجدد - تلك المجموعة القوية في قلب ادارة جورج بوش - العزم على شن الحرب على العراق واندفعوا في هذا الاتجاه بأقصى ما يمكن من التصميم، ونجحوا في تخويف وإخراس كل المشككين والداعين الى التروي والقائلين بالحاجة الى الحلفاء والشرعية الدولية والمنادين بالتزام الوسيلتين اللتين برهنتا على الفاعلية أثناء الحرب الباردة والردع. الحرب ولا غير الحرب، كما أكد المحافظون الجدد، هي الوسيلة الوحيدة للتعامل مع الخطر المحدق من أسلحة صدام حسين المخيفة، المعدة للاطلاق خلال 45 دقيقة من اصدار الأمر، كما في الادعاء المتهور من توني بلير خلال قيامه بدوره المضحك المبكي ك"الكلب المدلل" لبوش. وها هي تلك المبالغة الفارغة تعود الآن لتهدد بلير، لتدفع حتى مجلة معروفة برصانتها مثل "ايكونوميست" الى تحريف اسمه في عنوان بارز ليصبح "توني بلاير"، أي ما يشابه "توني الكذاب".
وماذا كان مصدر ذلك التصريح الغرائبي؟ وما هي كانت صدقية المعلومات الاستخباراتية المرفوعة الى بوش وبلير قبل الحرب؟ أصابع الاتهام تشير في شكل متزايد الى خلية استخباراتية خاصة في البنتاغون تعرف باسم "مكتب الخطط الخاصة" برئاسة أبرام شولسكي. وشكل الخلية بعد هجمات 11 أيلول سبتمبر اثنان من أشد المحافظين الجدد تحمساً وتصميماً، هما نائب وزير الدفاع بول وولفوفيتز ووكيل وزير الدفاع للتخطيط السياسي دوغلاس فايث. وكان الهدف تقصي برامج صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل وعلاقاته مع تنظيم "القاعدة"، وذلك لعدم الثقة، كما جاء في المزاعم، بقدرة أجهزة الاستخبارات الأميركية الأخرى على القيام بالمهمتين. وهناك من يشير الى أن "الخلية" المذكورة اعتمدت بكثافة على شبكة جمع المعلومات التي شكلها أحمد الجلبي من مخبرين عراقيين في المنفى. واذا كان هناك اختلاق للأدلة فقد يكون هذا هو المكان الذي تم فيه ذلك.
يمكن النظر الى عملية صنع القرار في واشنطن بأنها ملتقى تيارين أو توجهين رئيسيين. الأول هو بوضوح وليد الهجمات الارهابية في أيلول، التي صدمت أميركا وأشعلت غضبها الجامح، اذ وجهت ضربة قاسية لتصورها لمنعتها على الاعداء وأيقظت فيها روح "الحرب الشاملة" عليهم، مثلما في أفلام هوليوود. ولما كان للأوروبيين عموماً تجربة أوسع بالحروب والارهاب فانهم لم يفهموا بسرعة عمق الجرح النفسي الذي أصاب أميركا وحوّلها بين عشية وضحايا من دولة مرهوبة الجانب الى بلد مرعوب تؤرقه احتمالات الهجمات الارهابية الكبرى وانتشار أسلحة الدمار الشامل واحتمال قيام "الدول المارقة" بتوفيرها لجماعات متطرفة غائمة التكوين لا تعترف بحدود مثل "القاعدة"، ممكّنة اياها من شن هجمات أشد ايلاماً من الماضي.
وكانت وثيقة "استراتيجية الأمن القومي" في أيلول 2002 وليدة هذه المخاوف. وأعلنت انتهاء عصر الاحتواء والردع، وأن على الولايات المتحدة التمسك بالتفوق العسكري الساحق على كل مصادر التحدي الممكنة، والتعامل من دون رحمة مع أي "دولة مارقة" تحاول امتلاك أسلحة الدمار الشامل بشن الحرب الوقائية أو الاستباقية عليها. وخولت الولايات المتحدة نفسها، بحسب "عقيدة بوش" هذه، استعمال قوتها متى وحيث أرادت لغزو الدول المرفوضة من قبلها وتغيير انظمتها وتحويل "ديكتاتوريات" معادية الى "ديموقراطيات" صديقة، أي بالطبع موالية لأميركا. هكذا فإن الاستراتيجية كانت برنامجاً للهيمنة على العالم، دافعه ما تعتبره اميركا الخطر المحدق بها من جهة، ومن الثانية طموحاتها الامبريالية الجديدة.
الاتجاه الثاني في عملية صنع القرار الأميركي - الذي يضم أيضاً بعض الأشخاص الذين ينتمون الى الاتجاه الأول - له اهتمامات أضيق تركز على اسرائيل في صراعها مع الفلسطينيين والجيران العرب. والمحافظون الجدد اليهود اليمينيون - وغالبية المحافظين الجدد من اليهود اليمينيين - هم من المتطرفين في دعم اسرائيل والمؤمنين بالتطابق والتلازم التامين بين المصالح الأميركية والاسرائيلية وهو ما يقلق اليهود الليبراليين في أميركا وأوروبا المؤيدين للسلام. انهم أصدقاء آرييل شارون الذين لا يكنون للعرب والمسلمين سوى الحقد والاحتقار. ولا يرون لما يسمى عملية "تحرير العراق" علاقة تذكر بمصلحة العراقيين، مثلما لا علاقة تذكر بين مصلحة الايرانيين و"تحرير" ايران وانهاء برنامجها النووي - مثلما طالب شيمون بيريز اخيراً في مقالة في "وول ستريت جورنال". بل اقتصر همهم على تحسين وضع اسرائيل عسكرياً واستراتيجياً.
وجعلت الأزمة العراقية أسماء هؤلاء والمؤسسات التي يعملون فيها معروفة لدى كل قراء الصحف والمجلات: وولفوفيتز وفايث، المسؤولان الثاني والثالث في البنتاغون، وريتشارد بيرل الرئيس السابق لمجلس سياسة الدفاع، تلك المؤسسة النافذة على رغم صفتها الاستشارية وهو لا يزال عضواً فيها، الذي كان يعرف ب"العرّاب السياسي" للمحافظين الجدد وحامت حوله أخيراً شبهات مالية، ثم اليوت ابرامز، مسؤول ملف الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي الأميركي، بتورطاته السابقة في أميركا اللاتينية وفضيحة ايران غيت، اضافة الى اصدقاء وزملاء كثيرين لهؤلاء في وسائل الاعلام مثل وليام كرستول وروبرت كاغان في "ويكلي ستاندارد"، وخبراء في دور الأبحاث الكثيرة الموالية لاسرائيل مثل فرانك غافني في "مركز دراسات الأمن"، وأمثاله في "معهد اميركان انتربرايز" و"المؤسسة اليهودية لشؤون الأمن القومي الأميركي" و"مشروع القرن الأميركي الجديد" و"مركز دراسات الشرق الأوسط" في "معهد هدسون" و"معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى" الذي أنشأته "ايباك" - اللجنة الأميركية - الاسرائيلية للشؤون العامة وكثير غيرها. وكما لاحظ عدد من المراقبين فإن 11 أيلول قدم للمحافظين الجدد فرصة فريدة لتوظيف سياسة أميركا الخارجية وقوتها العسكرية أو "خطف" الاثنتين كما يقول البعض لخدمة اسرائيل من خلال دفع أميركا الى تطبيق مبدأ الحرب الاستباقية ضد اعداء الدولة العبرية.
ويقوم هذا التوجه على تحليل خاطئ - بل مغرض تماماً - للهجمات التي تعرضت لها أميركا - وليست الضربة الكبرى في 11 أيلول فحسب، بل هجمات شكلت تحذيرات مهمة قبلها، مثل الهجوم الانتحاري على سفارتين أميركيتين في أفريقيا والهجوم على البارجة "كول" في ميناء عدن. ويتلخص جوهر موقف المحافظين الجدد في الرفض القاطع لاعتبار أي هجوم ارهابي رداً من أفراد يشعرون بالغضب واليأس تجاه ما تقوم به أميركا واسرائيل ضد العالمين العربي والاسلامي، وخصوصاً ضد الفلسطينيين. بل ان دوافع الهجوم كانت، بحسب هؤلاء، حسد الارهابيين للحياة الأميركية، في وقت تمثل أميركا جانب الخير والصلاح. أي أن المشكلة، بحسب المحافظين الجدد، ليست سياسات أميركا بل المجتمعات المسلمة "المريضة" و"الفاشلة" التي ينتمي اليها الارهابيون، بأنظمتها التعليمية التي يحركها الحقد ودينها الميال بطبيعته الى العنف والتعصب. ولذا فانهم بدل تغيير السياسات الأميركية الخاطئة أو تصحيحها يحضون أميركا على "اصلاح" المجتمعات العربية والمسلمة و"تحويلها الى الديموقراطية"، حتى لو كان ذلك بالقوة، ضماناً لأمن أميركا وحلفائها.
انهم في حرصهم على ادامة تفوق اسرائيل على الصعيد الاقليمي وتصديهم لتوجهات يعتبرونها معادية مثل التشدد الاسلامي والقومية العربية والراديكالية الفلسطينية، يؤكدون أن هدف السياسة الأميركية في الشرق الأوسط يجب ان يكون "اعادة تركيب" كاملة له على صعيد السياسة والايديولوجيا. وان تصدير "الديموقراطية" سيصب في مصلحة الدفاع عن الولايات المتحدة واسرائيل، لأن نتيجة هذا "الاصلاح" ستكون شرق أوسط مسانداً لأميركا واسرائيل. ويبدو كل هذا برنامجاً طموحاً - بل مسرفاً في الطموح - للسيطرة الاسرائيلية على المنطقة يسيّره اليمين الاسرائيلي المتطرف ومساندوه الأميركيون الذين لا يقلون تطرفاً.
العراق كان أول مرشح لهذا العلاج "الديموقراطي". لكن من السهل تبرير دواء مشكوك فيه كهذا للهجوم على ايران أو سورية أو مصر أو المملكة العربية السعودية، أو حيثما تكتشف أميركا مصدراً للتهديد وحيثما تقودها حماستها الى "الاصلاح". ودعا بول وولفوفيتز الى تدمير عراق صدام حسين مباشرة بعد أحداث أيلول. وكان هذا مطلب سعى اليه علناً من دون جدوى خلال أكثر التسعينات، غير أن تضافر عوامل مثل وصول المحافظين الجدد الى مناصب رئيسة في الادارة، والخوف من المزيد من الهجمات الارهابية، وما يعرف عن غرائز جورج بوش الهجومية، حوّل ذلك المطلب الذي كان يبدو مضحكاً في تطرفه الى واقع ممكن. لكن لم يعثر أحد على أي برهان مهما كان ضئيلاً، على علاقة بين صدام حسين وأسامة بن لادن. ولم يشكل العراق خطراً على أي طرف، ناهيك عن الولايات المتحدة وبريطانيا، بعدما انهكته حربا الخليج وخضع منذ 1990 لعقوبات كانت الأقسى في التاريخ الحديث. واتيح لفريق المفتشين الدوليين بقيادة هانس بليكس التجول في انحاء العراق وحصلوا على معلومات كافية عن قدراته الصناعية، من دون العثور على أي دليل على احياء صدام حسين لبرامج أسلحة الدمار الشامل. وكانوا بالتأكيد يريدون مهلة للمزيد من التحقيق للتأكد من ذلك، ووافقهم على الموقف أكثر الخبراء الأوروبيين. وخلال ذلك توصل قادة العرب في قمة بيروت في آذار مارس 2002 الى التصالح مع العراق، ورغبت كل دول الجوار بالعودة الى المتاجرة معه وليس شن الحرب عليه. ولم تر حتى الكويت، ضمن أجواء التصالح، أن من اللائق الاقرار بأنها لا تزال تطمح الى الانتقام لغزو صدام حسين لها في 1990.
لكن كانت هناك اسباب كثيرة وراء رغبة اسرائيل واصدقائها في واشنطن في "اعادة هيكلة" العراق. اذ تجرأ صدام على اطلاق صواريخ "سكاد" على اسرائيل خلال حرب 1991، وبلغت به الجرأة في الفترة الاخيرة حد ارسال اموال الى عائلات منفذي التفجيرات الانتحارية الفلسطينيين التي هُدمت منازلها في عمليات انتقامية اسرائيلية. وكانت هذه "الجرائم" مرت من دون عقاب. اضافة الى ذلك، وعلى رغم الضعف الواضح لعراق صدام، فإنه كان البلد العربي الوحيد الذي يمكن ان يشكل على المدى البعيد تحدياً استراتيجياً لاسرائيل. اذ حُيّدت الحكومة المصرية واُفسدت بتأثير المساعدات الاميركية ومعاهدة السلام التي ابرمتها مع اسرائيل، فيما اُضعفت سورية بسبب صراعات امنية داخلية واقتصاد متداعٍ ونظام سياسي متحجر. كان يجب اسقاط الزعيم العراقي. وكان سقوطه، كما خطط المحافظون الجدد، سيغيّر الديناميات السياسية للمنطقة كلها. فمن شأن ذلك ان يُخيف طهران ودمشق، وحتى الرياض والقاهرة، ويغيّر ميزان القوى في شكل حاسم لمصلحة اسرائيل، ما يسمح لها ان تفرض على الفلسطينيين السيئي الحظ ما تشاء من الشروط القاسية. وكان بعض المحافظين الجدد يتطلع بالفعل الى معاهدة سلام اسرائيلية - عراقية كنتاج عرضي اضافي للحرب.
هذه الاهتمامات، اضافة الى السيطرة على موارد العراق النفطية، وليس اسلحة الدمار الشامل المزعومة لدى صدام، كانت الاهداف الحقيقية للحرب ضد العراق. وقد تبنتها الولايات المتحدة كي تهدئ مخاوفها بالذات وتستعيد احساسها بالقوة المطلقة. لكن ما جعل الهجوم ممكناً - وكان القوة المحركة له - هو احدى الحقائق الطاغية للحياة السياسية في اميركا: التحالف الاميركي - الاسرائيلي، الذي يمثل اوثق علاقة بين دولتين في العالم في الوقت الحاضر. وكانت الحرب على العراق في الواقع المؤشر الاعلى الى مستوى هذا التحالف.
يسعى وارن باس الى اثبات ان أسس التحالف الاميركي - الاسرائيلي اُرسيت من جانب ادارة كنيدي. بل انه يعطي تاريخاً محدداً - 19 آب اغسطس 1962 - لبدء العلاقة العسكرية كما نعرفها. في ذلك اليوم في تل ابيب، اجتمع مايك فيلدمان، نائب محامي البيت الابيض ورجل الاتصال الذي لا يكل بين كنيدي واسرائيل واليهود الاميركيين، سراً مع بن غوريون وغولدا مائير وأبلغهما ان "الرئيس قرر ان يتيح لاسرائيل الحصول على صاروخ هوك". انتاب الاسرائيليين فرح غامر. اذ دمّر قرار كنيدي الحظر الذي فرضه ايزنهاور على بيع انظمة تسلح كبيرة لاسرائيل. ويقول باس ان "ما بدأ بصاروخ هوك في 1962 اصبح واحداً من اكثر العلاقات العسكرية كلفة وشمولاً في عهد ما بعد الحرب العالمية الثانية، بسعر يقدر ببلايين الدولارات ونتائج ديبلوماسية لا تقل كلفة".
تمثل صفقة صاروخ "هوك" الدعامة الاولى لإسناد قول باس بأن كنيدي كان "أبو التحالف" الاميركي - الاسرائيلي. الدعامة الثانية هي ما يصفه ب"مراوغة" كنيدي في شأن عمليات التفتيش الاميركية لمنشأة الاسلحة النووية السرية الاسرائيلية في ديمونة في النقب. وعلى رغم ان باس يطرح هذه الفرضية ببراعة وعلى نحو ممتع مع وفرة في التفاصيل، فإنها لا تُثبت في شكل حاسم. وفي الحقيقة، لم يكن فريق كنيدي، باستثناء فيلدمان وأصدقائه، يريد علاقة عسكرية خاصة مع اسرائيل، خشية ان تطلق سباق تسلح اقليمياً. ولم يُضلّل كنيدي بالوصف المفرط في الاثارة الذي قدمه بن غوريون للزعيم المصري جمال عبدالناصر ك"معتدٍ وحشي" مصمم على ارتكاب حملة ابادة هتلرية. كان يدرك بأن اسرائيل قوية بما يكفي للتعامل مع اي تهديد عربي. ولم يصدق انها تحتاج الى الاسلحة المتطورة والضمانة الامنية الاميركية الرسمية التي طلبها بن غوريون. وابلغ كنيدي بن غوريون بحزم انه لا يريد ان يكون الرئيس الاميركي الذي ادخل الشرق الاوسط في عصر الصواريخ. وكان في الواقع يحاول ان يتحرك في اتجاه عبدالناصر الذي أقر بأنه وطني وليس شيوعياً. وكان يخشى ان يؤدي منح اسرائيل معاملة تفضيلية الى دفع العرب الى احضان السوفيات. في المقابل، لم يجد خبراء الشرق الاوسط في وزارة الخارجية الاميركية اي سبب وجيه يدعو الولايات المتحدة الى ان تغيّر سياستها في مجال التسليح تجاه اسرائيل. وكما جاء في مذكرة داخلية فإن "اقامة تحالف عسكري مع اسرائيل سيعني، عملياً، تدمير التوازن الدقيق الذي نسعى الى الاحتفاظ به في علاقاتنا مع الشرق الادنى".
ومع ذلك، وافق كنيدي في النهاية على صفقة ال"هوك" التي كان ايزنهاور رفضها قبل ذلك بسنتين. لكنه فعل ذلك كما يبدو بالضد مما كان يعتبره خياراً افضل. واُضعف موقفه في نهاية المطاف نتيجة تضخيم اسرائيل المتواصل والمنظم للخطر المصري، وبالاخص قدرة شيمون بيريز، المستندة الى معرفة تفصيلية مذهلة بالنقاشات الداخلية للادارة الاميركية، على استخدام البنتاغون ومجلس الامن القومي ضد الخارجية الاميركية.
كما ان رأي باس في ما يتعلق بمفاعل ديمونة قابل للمناقشة. لم يغض كنيدي النظر عما كان يجري هناك، بل انه بالعكس عارض كلياً حصول اسرائيل على القنبلة الذرية وكان مستعداً لأن يتجاهل وجهات نظر اليهود الاميركيين بهذا الشأن. وفي ربيع 1963، وجّّه الى بن غوريون تحذيراً بأشد نبرة من ان بحسب تعبير باس "رفض اسرائيل السماح باجراء عمليات تفتيش حقيقية لديمونة ستترتب عليه اخطر النتائج بالنسبة الى الصداقة الاميركية - الاسرائيلية الناشئة". وبعث الى بن غوريون برسالتين لاذعتين، في 18 ايار مايو و15 حزيران يونيو، يهدد فيهما بأن "التزام هذه الحكومة ودعمها لاسرائيل سيتعرضان الى الخطر في شكل جدي" اذا لم تسمح اسرائيل بعمليات تفتيش دقيقة لكل ارجاء موقع ديمونة. وكذب بن غوريون وخليفته ليفي اشكول بملء الفم على كنيدي في شأن ديمونة، لكن كنيدي، بحسب باس، كان مستعداً لفرض مواجهة حاسمة. ولو لم يجر اغتياله في 22 تشرين الثاني نوفمبر 1963، لكان في طريقه الى مواجهة مع اسرائيل.
المراوغة جاءت في وقت لاحق مع ليندن جونسون الذي كان اقل قلقاً بكثير من كنيدي في شأن انتشار الاسلحة النووية. اذ صادق جونسون، متفادياً الطموحات النووية لاسرائيل، على بيع اسرائيل اعداداً كبيرة من الدبابات والطائرات الاميركية حتى قبل الحرب الخاطفة في 1967 التي دفعت الدولة العبرية الى مرتبة النجومية وشحنت قطاعاً كبيراً من اليهود الاميركيين بالثقة والطموح وحتى الغطرسة. كان جونسون الأب الحقيقي للتحالف الاميركي - الاسرائيلي. فهو، وليس كنيدي، الذي "أرسى السابقة التي اوجدت في النهاية العلاقة الاستراتيجية بين الولايات المتحدة واسرائيل: تجارة سنوية قيمتها ملايين عدة من الدولارات في احدث الاسلحة، تكملها حوارات مستفيضة بين جيشي البلدين، ومشاورات امنية، ومناورات تدريب مشتركة واسعة، ومشاريع ابحاث وتطوير تعاونية".
ويثير باس الاحتمال بأن الغرض الحقيقي لصواريخ "هوك" لم يكن اطلاقاً، كما ادعى بن غوريون، حماية القواعد الجوية لاسرائيل من ضربة ساحقة تنفذها طائرات "ميغ" التابعة لعبدالناصر، بل ان تُستخدم بالأحرى كحزام دفاعي لحماية مفاعل الاسلحة النووية في ديمونة. وبرزت في وقت لاحق ادلة اضافية غير مباشرة تؤكد هذه الفرضية. فعندما وجهت اسرائيل ضربتها الساحقة الى سلاح الجو المصري في اليوم الاول من حرب 1967، خسرت ثماني طائرت في الموجة الاولى من الهجوم. وعادت احدى الطائرات المصابة وهي تلزم صمتاً لاسلكياً، وضلّت طريقها فتوغلت في المجال الجوي لديمونة، واُسقطت فوراً بصاروخ "هوك" اسرائيلي.
ومن 1967 فصاعداً تواصل من دون توقف الازدهار المنفلت للعلاقة الاميركية - الاسرائيلية، وتواصلت في موازاة ذلك عملية انشاء وتمويل ما اطلق عليه نورمان جي. فينكلستاين على نحو مثير للجدل "صناعة المحرقة". واذا كان جونسون هو أبو التحالف فإن هنري كيسنجر اصبح راعيه. وفي 1970، دعا كيسنجر اسرائيل الى التدخل في الاردن عندما طلب الملك حسين المحاصر حماية اميركية. وكانت القوات السورية دخلت البلاد لدعم فلسطينيين متطرفين كانوا يخوضون آنذاك اختبار قوة مع الملك الصغير. وكانت اسرائيل متحمسة جداً للامتثال لهذا الطلب الشاذ تماماً. واجرت بعض التحركات التي حظيت بتغطية اعلامية واسعة لاعادة نشر قوات في اتجاه الاردن. واشتبكت قوات الملك حسين، التي شجّعها هذا الدعم، مع السوريين الذين انسحبوا بسرعة. هكذا، اصبح جيش الملك طليق اليدين في التعامل مع الفلسطينيين.
وبدلاً من التعامل مع "ايلول الاسود" كنزاع محلي كما كان بالفعل، لجأ كيسنجر الى تضخيمه الى صراع "بين الشرق والغرب" لا تتصدى فيه اسرائيل بنجاح للسوريين فحسب بل للروس ايضاً. وكان هذا هو الاطلاق الحقيقي ل"العلاقة الاستراتيجية" الاميركية - الاسرائيلية التي اوكلت فيها لاسرائيل مهمة "حفظ السلام" في الشرق الاوسط نيابة عن اميركا، وكوفئت بسخاء بالاسلحة والمساعدات وبخزانة مملوءة بالتزامات سرية موجهة ضد مصالح العرب.
وتبنى كيسنجر الاطروحات الرئيسية للسياسة الاسرائيلية باعتبارها اطروحات اميركا بالذات: انه يتعيّن على اسرائيل ان تكون اقوى من اي تكتل محتمل للدول العربية، وان طموح العرب الى استعادة الاراضي التي خسروها في 1967 شيء "غير واقعي"، وانه لا ينبغي ابداً اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية محاوراً في عملية السلام. وكانت سياسة التدرج، خطوة فخطوة، التي اعتمدها بعد حرب اكتوبر تشرين الاول 1973 تستهدف ازالة مصر من الصف العربي، ما ترك الفلسطينيين وبقية العرب معرّضين الى الوطأة الكاملة لقوة اسرائيل العسكرية. وكان غزو آرييل شارون للبنان في 1982 - الذي ادى الى قتل حوالى 17 الف فلسطيني ولبناني - نتيجة مباشرة لمكائد كيسنجر. حصلت اسرائيل في 1970 على مساعدات اميركية قيمتها 30 مليون دولار. وفي 1971، بعد ازمة الاردن، ارتفعت المساعدات الى 545 مليون دولار. وخلال حرب اكتوبر 1973، دعا كينسجر الى مشروع قانون يقضي بتقديم مساعدات قيمتها ثلاثة بلايين دولار. ومنذ ذلك الحين تبلغ قيمة المساعدات لاسرائيل بلايين عدة من الدولارات.
وفي وقت لاحق، وقع الكونغرس في قبضة "أيباك" - "آلة اللوبي ذات النفوذ القوي في الثمانينات والتسعينات التي تطلق اصواتاً تعبر عن الرضا"، بحسب تعبير باس - فيما شرع "معهد واشنطن لسياسة الشرق الادنى"، الذي أسسه في 1985 مارتن إنديك، الناشط في اللوبي المؤيد لاسرائيل والمولود في استراليا، يصوغ الآراء بعناية ويضع رجاله داخل الادارة. واصبح دينيس روس، زميل إنديك في المعهد وأحد كبار المفاوضين في عهد جورج بوش الأب، منسق عملية السلام العربية - الاسرائيلية لوقت طويل في ادارة كلينتون. ونادراً ما اخفق روس في الاستجابة لمصالح اسرائيل، وهو احد الاسباب وراء مراوحة عملية السلام في مكانها. وقد عاد الآن الى معهد واشنطن كمدير وداعية مثابر له.
لكن لا شيء في تاريخ التحالف الاميركي - الاسرائيلي يعادل صعود "اصدقاء اسرائيل" الى مناصب رئيسية في ادارة بوش الحالية، وكفاحهم العزوم والناجح لصوغ السياسة الخارجية لاميركا، خصوصاً في الشرق الاوسط، بما في ذلك تدمير العراق.
ويبقى السؤال الذي يلح دوماً هو ماذا حققت العلاقة الخاصة. هل خدمت الحروب والمكائد الامنية والمواجهات السياسية خلال العقود الماضية حقاً مصلحة اسرائيل؟ لا يمكن للباحث في شؤون المنطقة الاّ ان يفكر ملياً في هذه الاسئلة: ماذا لو ان المعتدل موشي شاريت تغلب على المتشدد بن غوريون في الخمسينات؟ فقد سعى شاريت الى التعايش مع العرب فيما كانت سياسة بن غوريون فرض الهيمنة عليهم بواسطة القوة العسكرية السافرة، بمساعدة قوة عظمى راعية، وهي افكار صاغت التفكير الاسرائيلي منذ ذلك الحين. وماذا لو جرت مبادلة الاراضي المحتلة فعلاً بالسلام بعد 1967 كما نصح بذلك بن غوريون ذاته، ببصيرة نادرة، او بعد 1973، او بعد مؤتمر مدريد في 1991، او حتى بعد اتفاق اوسلو في 1993؟ الم يكن ذلك سيجنّب الاسرائيليين والفلسطينيين آلام الانتفاضة، بتركتها البائسة من كره وحياة محطمة؟ هل انتهى حلم "اسرائيل الكبرى" ذو النزعة الانتصارية الذي كان جيمس بيكر احد الذين حذروا اسرائيل منه الى شيء سوى كابوس شنيع يصيب المجتمع الاسرائيلي بجرعة سامة من الفاشية؟ يُحتفى بالتحالف الاميركي - الاسرائيلي في شكل رسمي وروتيني في كلا البلدين، لكن تَركته مثيرة للقلق. فمن دونه ربما كانت اسرائيل لن تنساق لحماقة غزو لبنان والبقاء هناك 22 سنة، او للوحشية العبثية التي عاملت بها الفلسطينيين، او للحماقة القصيرة النظر بتوطين 400 الف يهودي في القدس والضفة الغربية، الذين اصبحوا الآن قادرين على ابتزاز حكومات اسرائيلية متعاقبة.
احد الاستنتاجات التي لا مفر منها هو ان التحالف الحميم، والسياسات التي نبعت منه، جعل اميركا واسرائيل موضع شتم وكره في جزء كبير من العالم، وعرّضهما على نحو لا سابق له اطلاقاً الى اعتداءات ارهابية.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.