لم يرث المغاربة، على طول الشمال الافريقي، من أجدادهم الأندلسيين غير طباع ملوك الطوائف، الذين أضاعوا أمجاد سابقيهم من الفاتحين بانغماسهم في خلافات تافهة ضعضعت قوتهم وأذهبت ريحهم وجعلت هجمات الاسترداد تطاولهم حتى في العدوة الدنيا من جبل طارق، الماثل شاهداً على ذلك التاريخ العظيم، الذي سجّل لنا بكاء الفارّين وعجزهم عن دحر أعدائهم ولو إلى فراسخ على مرمى حجر من جزيرة البقدونس المغربية. كان النظامان الجزائري والمغربي يربيان الشعوب الخاضعة لهما على الكراهية والعداوة المتبادلة، وكانت الخمسة عشر عاماً التي حكم فيها الرئيس هواري بومدين أكثر السنين تعبئة وضراوة، حتى غدا المغرب، أو "المرّوك" كما يلقبه الجزائريون، بعبعاً مخيفاً يثير في النفس المخاطر والحذر على أمن الجزائر! وكانت الفتنة بين مراكش والصحراء الغربية تشكل في حسّ الناس مظلمة، درّت على الصحراويين تعاطفاً من إخوانهم الليبيين، كما الجزائريين، الذين دعموهم مادياً ومعنوياً، وصوّروا حربهم من أجل الاستقلال "بطولات"، غدت في تلك السنوات ملهاة حقيقية لشعوب المنطقة عن أي تفكير في الأنظمة القائمة والسياسات المنتهجة، إلى درجة التعمية الشاملة. يعتبر الاتحاد المغاربي الذي ولد ليشيخ في مهده، كما هي حال النعجة "دولّي"، التي ظهرت إلى الحياة كالاتحاد بآلية الاستنساخ، غير أن الفارق بينهما ان الشاة ولدت من رحم أمها، والاتحاد المغاربي كان تقليداً، غير أصيل، للسوق الأوروبية المشتركة، التي أرادت المغاربة متجانسين تمهيداً لاقتناصهم فرادى بعد ذلك، وهو ما حدث بالفعل" فالسوق الأوروبية أخذت طريقها إلى الوحدة، والاتحاد المغاربي تفتت وضاع ودخلت كل دولة منه الشراكة منفردة مع أوروبا الموحدة. إن الهدأة التي عرفتها أعمال العنف المدبّرة في الجزائر، كسرت اتصال سكونها أصوات كثيرة طالبت بالعودة إلى الشرعية ورفع حال الطوارئ وتحقيق المصالحة الموعودة، وهي مطالب شعبية تزعج السلطة، التي تقتات على آثار الأزمة، فتُراها لم تجد ما تلهي به الجماهير، المتململة من الأوضاع القائمة، غير لعبة الصحراء الغربية، المجرّبة سابقاً. وهي لعبة مفتعلة كان في الإمكان تلافيها لو أن المغرب تأنى في مسيرته الخضراء التي أحدثت شرخاً نفسياً غذّى الحرب الخاسرة بين الجارين الأخوين، فأدمت خاصرة الأمة على تخوم الثغور الأطلسية ولا تزال. لا يوجد مبرر لإقدام الجزائر على إبرام الصفقات العسكرية لشراء عتاد دفاعي وهجومي غير ما ذكرناه في ما سبق، مضافاً إليه البحبوحة في خزينة الدولة، الفائضة بما جاوز الأربعين بليوناً من الدولارات، صبّتها فيها الأسعار المرتفعة للبترول في الأسواق الدولية، فيما يتشوّف الواعون من أبناء الجزائر إلى إنفاقها بقدر للقضاء على المديونية تحقيقاً للاستقلالية، واستثمار ما تبقى منها في التعليم والصحة" لأنهما مصرفان أساسيان لقيام نهضة عمرانية شاملة بعد ذلك. ويبقى التجاهل أو الجهل والاستبداد السياسي العدوين الرئيسين الحائلين دون تلك الأماني الشعبية" فعليهما تبنى مصالح الأنظمة ومشاريعها الضيّقة، وعليهما أيضاً تتحطم أحلام الأمة وتميع قضاياها. لا أريد أن أحمّل النظام الجزائري وحده مسؤولية هذا التردي في الأداء السياسي بين الأشقاء المغاربة، الموحّدين ديناً وتاريخاً ولغة وأعراقاً وأحاسيس، بل إن المغرب الأقصى نفسه لا يريد حلاً لقضية الصحراء إلاّ في إطار حدوده الموروثة استعمارياً، وقد زاد إصراره على ذلك بعدما رأى تقارباً جزائرياً - أميركياً اعتبره على حساب حلفه التاريخي مع هذا القطب المهيمن في العالم. ثم إن الصحراويين أنفسهم يتحركون بقضيتهم من أجل تحقيق الاستقلال وإن كان في أشكال مختلفة. إن هؤلاء كلهم واهمون في موازين المصالح الكبرى للأمة، في وحدتها وتعاونها على السرّاء والضرّاء، أمام تحديات أوروبا الموحدة، التي تلقي بشباكها في المتوسط لتتلقف صيداً هنا وآخر هناك، وأمام الغول الأميركي الفاغر فاه يتحين فرصة للانقضاض، وبين هذا وذاك شعوب مغلوبة على أمرها، يتخاصم زعماؤها على مصالح كالسراب لا تصبّ نتائجها إلاّ في مصلحة الأجنبي نهاية المطاف، الذي سيربح أمناً على حدوده البحرية، وضعفاً على الضفّة الأخرى من المتوسط في المنافسة الاقتصادية والسياسية، وسوقاً رائجة مفتوحة لا تحكمها قوانين عادلة موحّدة، بل شراكة أوروبية - مغربية مستفردة بكل قطر على حدة، تتيح لأوروبا كبّ بضائعها التجارية المدنية والعسكرية، لتمتصّ سيولة تدرّها محروقات مشتعلة أسعارها، فتحرق منتجاتها المصدّرة في ما لا يعود على شعوب المغرب الكبير بطائل، سوى في المزيد من القابلية للاستهلاك، والكسل في الإنتاج، والزهد في كل ما هو محلّي، ولو كان ذهباً أسود.