كتب بعض المفكرين الليبراليين في الآونة الأخيرة مقالات تحذّر من دعوتي "الاخوان المسلمين" في مصر للاشتراك في حوار قومي، بحيث لا تحجب الشرعية عن أي تيار في الساحة المصرية طالما التزم بقواعد اللعبة السياسية الديموقراطية، التي ترتكز في المقام الأول على نتائج صندوق الانتخابات. وأطلق المحذرون على دعوتي هذه "ديموقراطية الهلاك"، استناداً إلى مواقف معلنة في الماضي من جانب بعض رموز "الاخوان". وفسر البعض دعوتي على أنها مؤشر لتحالف بيني وبين الاخوان المسلمين، استناداً إلى مقابلة عابرة مع بعض رجال الاخوان. أما عن القول بوجود تحالف، فلا هم قالوا أو ادعوا ذلك، ولا أنا قلت أو ادعيت ذلك. فإذا كان لقاء واحد تمّ بيني وبينهم، بعد براءتي والإفراج عني، وإذا كان شارك في هذا اللقاء بعض الديبلوماسيين الغربيين، فإنني التقيت رموزاً لتيارات مختلفة، العديد من المرات في منزلي، وفي أماكن عامة، وبمشاركة آخرين. ولا أظن أن أحداً اعتبر تلك اللقاءات مؤشرات لتحالفات. هذا على رغم أن ما كان يدور في بعض هذه اللقاءات من حوارات في مواضيع شتى، كان أغنى وأعمق من أي شيء دار في ذلك اللقاء الوحيد بيني وبين "الاخوان" والديبلوماسيين الأوروبيين والكنديين. إن "التحالف"، كما أفهمه في لغة السياسة، هو بين شركاء نشيطين في مجال عام، ولكل أهدافه، لكنهم يجدون مساحة مشتركة للتعاون من أجل أن يعظم كل منهم فرصته في تحقيق أهدافه، شريطة ألا يكون ذلك على حساب أي منهم، أي ألا ينطوي التحالف على "عمليات صفرية"، أي فيكون مكسب أي طرف مساوياً لخسارة الطرف الآخر. وبما أن هدفي وهدف المؤسسة التي أمثلها - وهي "مركز ابن خلدون"، هو هدف معلن منذ منتصف ثمانينات القرن الفائت - ألا وهو تطبيق "الديموقراطية"، وإعلاء قيم "المجتمع المدني"، فكل من يتعامل أو يتعاون معنا، إما انه مؤمن بما نؤمن به، أو لديه استعداد للمعرفة والاستكشاف. وفي كل الأحوال ألاَّ يضير هذا التعامل دعوتنا وتطلعاتنا. وبالمنطق نفسه فإن مبادئ ومواقف وسلوكيات الاخوان المسلمين التقليدية معروفة لي وللكافة. كما كان معروفاً لي ما طرأ عليها وعليهم من تغيير وتطوير في العقود الثلاثة الأخيرة، ومما سيأتي الحديث عنه تفصيلاً في فقرة أخرى. المهم أن هذه المعرفة المتبادلة بيني وبينهم لم تترك مجالاً كبيراً لنية "تحالف ضمني" أو الإقدام على تحالف فعلي - مثل ذلك الذي وقع بينهم وبين حزب الوفد قبيل، وأثناء عام 1984، ولأغراض انتخابية نيابية عام 1984، أو التحالف بينهم وبين حزب العمل في الانتخابات التالية. كداعية لقيم المجتمع المدني، فإنني ومركز ابن خلدون، نقبل الحوار مع "الآخر"، ونرحب ونشجع عليه. والحوار لا يكون إلا مع "آخر" مختلف في آرائه ومصالحه - للبحث عن أرضية مشتركة، أو لإدارة الاختلاف في الآراء والمصالح إدارة سلمية "متمدنة". ومصطلح "المدني" ينطوي على ذلك تحديداً. فالمجتمع "المدني" يضم أطرافاً وجماعات وتنظيمات مختلفة المشارب والمصالح والملل والنحل، ولكنها متعايشة سلمياً، ومتعاملة في ما ينفع بعضها بعضاً. وكانت "صحيفة المدينة" غداة الهجرة النبوية إلى يثرب، هي أنموذج مبكر لذلك، حيث أرست قواعد التعايش بين المسلمين واليهود والقبائل المختلفة عقائدهم. وبعد خمسة قرون تقريباً، وقّع ملك إنكلترا عهداً مماثلاً مع رجال الدين والأمراء واللوردات في إنكلترا لتنظيم الحقوق والممارسات المدنية، وعرف باسم "العهد الأعظم" الماغنا كارتا 1215 إن هذه الممارسة المستقرة لمركز ابن خلدون تجعله لا يرد زائراً أو محاوراً - مهما كان دينه أو مذهبه أو جنسه أو جنسيته. ولعل الكثيرين يعلمون أن هذه الممارسة المستقرة هي التي تثير الخلاف وتغضب البعض منا، حينما ندعو أبناء الأقليات للحديث عن همومهم، أو حينما نستقبل أجانب، بما في ذلك إسرائيليين، للحوار حول قضايا خلافية. لذلك لم يكن لي أو لمركزي أن يرفض حواراً يطلبه الاخوان المسلمون - وهم أبناء وطني وديني - بينما أتحاور مع أبناء أوطان وأديان أخرى. وقد شهد الكثيرون جولات الحوار الساخنة في "مركز ابن خلدون" أخيراً 30/6/2004. وسمعوا كما سمعت أنا، كلاماً وأفكاراً لا أوافق عليها البتة. ولكننا لا نصادر عليها. بل إننا نحرص دائماً على أن نحمي حق كل متكلم في الرد على منتقديه، بالروح والقوة نفسيهما اللتين سمحنا بهما للمعارضين له ولي أن يعبروا عن آرائهم. والآن إلى المنهج الذي اتبعه المتخوّفون، ونختلف معهم فيه، ونبدأ بأنموذج لفقرة مبكرة في معظم المقالات المشار إليها، ومنها مقال للدكتور سيد القمني روز اليوسف 17/7/2004. وهي في الواقع أساس ومفتاح لكثير من الانتقادات لي ولمركز ابن خلدون. مضمون هذه الفقرة هو أن "مركز ابن خلدون يذهب - في ما يبدو - إلى ما هو أبعد من الاستماع والحوار والمناقشة. فهو يطلب مشاركة هذه الجماعات الإسلامية في العملية الديموقراطية المطلوبة في شكل فوري ومن دون أي اعتراض أو مناقشة لما يطرحونه ومن دون الحصول منهم على أي ضمانات واضحة لما أعلنوه من إيمان بديموقراطية زماننا...". استخدام كلمة "في ما يبدو - التي عادة ما يحرص المعترضون على ذكرها من باب درء تهمة سوء الظن - هي وحدها كاشفة لمحاذير وأعطاب "سوء الظن". ثم على رغم ذلك التحفظ يندفع هؤلاء في بناء حجتهم على ما اعترفوا بأنهم لا يملكون دليلاً عليه بل فقط على تكهنات مؤسسة على "في ما يبدو"، على رغم أن لديهم الكثير من الذي كتبته ونشرته في كتب ومقالات علمية وصحافية حول الموضوعات نفسها بالعربية والإنكليزية، كان في إمكانهم الاقتباس منها والتدليل على ما يدّعونه بالنسبة إلى مواقفي. في مناقشة أيّ ظواهر اجتماعية - سياسية - سلوكية، ينصب الرصد والتحليل أساساً على الماضي والحاضر، وليس على المستقبل، كما ينصب على الوقائع وليس على "النيات". ولدراسة المستقبل أصول ومناهج - مثل الاستشراف، والتنبؤ، وبناء السيناريوات. أما تحليل "النيات"، أو الحكم عليها مقدماً فهي تنزلق بنا - سواء قصدنا أو لم نقصد إلى "التفتيش" في الضمائر وما تُخفي الصدور. ولكن هذا ما انغمس فيه الكثيرون. ومن ذلك استخدامهم لصيغة المستقبل في مواضع عدة ، في معرض تحذيراتهم من "البعبع الاخواني"، وكيف سيستغل الاخوان خصوصاً و"المتأسلمون" عموماً "ديموقراطية صندوق الانتخابات" للانقلاب على الديموقراطية، يقولون مثلاً: - "إنهم سينقلبون على الديموقراطية وفق شريعة سماوية معلنة سلفاً، ترفض الديموقراطية وأيضاً من دون أن تستطيع الاحتجاج..." - إن الأخذ بديموقراطية صندوق الانتخابات ستكون نتائجه مطابقة لوعينا العنصري الطائفي الذي نعيشه منذ زمن الخلافة وحتى اليوم. وسيكون هو الضياع إلى الأبد. هذه النماذج المقتبسة حرفياً من مقال للدكتور سيد القمني الذي أعتز بصداقته وأحييّ مواقفه الشجاعة دائماً - كلها تنطوي على الجزم بنيات الآخر الإسلامي أو المتأسلم وعلى الجزم بأن هذه النيات ستتحول حتماً إلى سلوك، وليس أي سلوك، ولكن سلوك انقلابي يؤدي إلى "الوأد" و"الضياع" و"الهلاك". إن حديث النيات هو حديث يأخذنا إلى ممارسات محاكم التفتيش في العصور الوسطى، والذي كنا نظن أنه ولّى إلى غير رجعة. أما حديث التخويف من المستقبل الديموقراطي فهو حديث كل مستبد في عالمنا العربي والإسلامي. إنه حديث "حالات الطوارئ"، المعلنة والمستمرة لعشرات السنين. وهو حديث "استعلائي" يشارك فيه بعض المثقفين ربما بحسن نية، يعتبر الشعوب "ناقصة عقلاً وديناً ووعياً"، ولم تشب عن الطوق، وتحتاج إلى وصاية أبدية منهم. فهل هذا مقصد القمني؟ لا نظن، فنحن نربأ به من هذه الممارسة البغيضة، وخصوصًا أن العديد من خصومه حاولوا استخدامها ضده، كما استخدموها مع المرحوم فرج فودة ومع كاتبنا الكبير نجيب محفوظ. لم يرد في أي من المقالات التي تعارض إشراك "الاخوان" في العملية الديموقراطية ذكر لأي دليل أو استشهاد بتجربة معاصرة على أن الاخوان أو الإسلاميين أو المتأسلمين، في مصر أو أي بلد إسلامي آخر، قد شاركوا في ما يسميه ديموقراطية صندوق الانتخابات، و"انقلبوا" أو "أذوا" أو "اهلكوا" الديموقراطية والشعوب التي أخذت بها. بل العكس هو الصحيح. لدينا اندونيسيا، وبنغلاديش، وماليزيا، وتركيا، والمغرب، والأردن، والبحرين، والكويت، والسنغال ونيجيريا، والبوسنة والهرسك... وهي بلدان ذات غالبية مسلمة، وارتضت الديموقراطية شكلاً للحكم، بعد أن جرت وعانت من أشكال حكم غير ديموقراطية. وقد شاركت في هذه الانتخابات، أحزاب إسلامية ومتأسلمة. ولم يحدث لا "الوأد" ولا "الضياع" ولا "الهلاك"، ولا الويل والثبور ولا عظائم الأمور التي يحذرنا منها د. القمني. حقيقة الأمر أن في العالم اليوم نحو 1.4 بليون مسلم، يعيش ثلثاهم - اي نحو تسعمئة مليون مسلم في ظل أنظمة حكم منتخبة ديموقراطياً. لم تفز الأحزاب "الإسلامية" أو "المتأسلمة" بغالبية الأصوات أو المقاعد البرلمانية في معظم البلدان المذكورة أعلاه فقرة 7. ولكن حتى في البلدان القليلة التي فازوا فيها، وأهمها بالنسبة إلينا تركيا، فإنهم لم "ينقلبوا" ولم "يئدوا" ولم "يضيعوا" ولم "يهلكوا". بل إن تركيا التي أخذت بالديموقراطية تاريخياً بعد مصر بعقود عدة، كان أداء حزب العدالة والتنمية الإسلامي مسؤولاً، وبراغماتياً. بل ونجح فيما لم تنجح فيه بعض الأحزاب العلمانية التركية طوال ربع قرن - وأقصد مشكلتي قبرص والمسألة الكردية، والوفاء بالشروط والمعايير العالمية والأوروبية في احترام حقوق الإنسان والمرأة والأقليات. وأذكر أنني وبعض رجال الأعمال والإعلام المصريين زرنا تركيا، بعد عام من تولي هذا الحزب مقاليد السلطة. وكان ضمن هذا الوفد المصري، المهندس يوسف سيدهم، رئيس تحرير صحيفة "وطني" الليبرالية والمدافعة الأولى عن حقوق الأقباط. وكان ضمن تعليقاته أثناء الزيارة، هو أنه ليت الاخوان المسلمين في مصر يتعلمون من التجربة التركية، ويحاكون حزب العدالة والتنمية، وفي هذه الحالة لن يتوجس الأقباط المصريون من مشاركتهم في الحياة السياسية. الاستشهاد الوحيد الذي عادة ما يستعان به للتدليل على انقلاب "اللاديموقراطيين" على ما أطلقوا عليها "ديموقراطية صندوق الانتخابات" كان في ألمانيا النازية عام 1933، وهو مجتمع غير إسلامي، والحزب النازي ليس حزباً إسلامياً أو متأسلماً. أما إذا كان يقصد أفغانستان طالبان، أو إيران، أو السودان، فإن من ادعوا الحكم باسم الإسلام أو طبقوا الشريعة فيها، فهم، أولاً، لم يأتوا إلى السلطة من خلال ديموقراطية صندوق الانتخابات، وهم ثانياً، لم يعلنوا أبداً أو مسبقاً إيمانهم أو التزامهم بالديموقراطية. إذاً القياس على حالة واحدة، في ألمانيا ثلاثينات القرن المنصرم، بينما هناك أكثر من مئة وعشرين حالة شهدت تحولات ديموقراطية حقيقية خلال القرن الماضي وأوائل هذا القرن، بينها عشرون بلداً إسلامياً على الأقل، فهو قياس باطل، بكل قواعد المنطقين الصوري والتجريبي. في عام 1838 أصدر البابا غريغوري الثامن، رأس الكنيسة الكاثوليكية، فتوى يحرم فيها الديموقراطية، معتبراً إياها "هرطقة لعينة". كان ذلك حفاظاً على سلطته وسيطرته على أتباع كنيسته، التي كانت الأكبر في العالم في ذلك الوقت. كما كانت الفتوى رداً على غلواء علمانية الثورة الفرنسية، التي ناهضت الكنيسة الكاثوليكية وعادت رجال الدين، وفصلت الدين فصلاً تعسفياً، لا فقط عن الدولة، ولكن عن المجتمع والحياة العامة. ولكن البابوات الذين توالوا على العرش البابوي خلال القرن التالي لغريغوري الثامن، رأوا وعانوا هم وأبناء المسيحية، بل وكل الأديان، ما هو أسوأ وأشد غلواً من الثورة الفرنسية - وهي الثورة البلشفية، بكل ماديتها وإلحادها، والتي حاولت اقتلاع الدين من جذوره، حيث اعتبرته "أفيون الشعوب". وما إن جاء البابا بيوس السادس، حتى أصدر فتوى مضادة تماماً، بعيد الحرب العالمية الثانية، معتبراً "الديموقراطية حلالاً". وحض المؤمنين على الاحتماء فيها، والتمسك بها. وكانت هذه فاتحة خير على الكاثوليك والديموقراطية. وسرعان ما نشأت الأحزاب "الديموقراطية المسيحية". فهل ذلك حلال لهم وحرام علينا؟ وهل المسلمون أو حتى "المتأسلمون" غير قابلين للتغير والتطور؟ أليسوا بشراً لا حجراً؟ بعد نشر بعض هذه المقالات التي تشجب دعوتي لإشراك "الاخوان"، اتصل بي كثيرون يطلبون الإيضاح حول ما أسند إليّ، ويعبرون عن انزعاجهم لو صح ما نسب إليّ، وفي مقدم أولئك وهؤلاء كل من المفكر الليبرالي المبدع ورجل الأعمال الناجح، الدكتور طارق حجي، والكاتب النابه مجدي خليل، رئيس تحرير جريدة "وطني" الأسبوعية الدولية، والتي هي ضمن أشياء أخرى، تعتبر لسان حال أقباطنا المصريين في المهجر. واستغربا تأخري في الرد، إلى أن عرفا أنني كنت خارج البلاد. وسأل من اتصل بي عما إذا كانت لديّ هواجس ومخاوف حيال مشاركة الإسلاميين والمتأسلمين في العملية الديموقراطية مستقبلاً. وكان ردي هو بالإيجاب. فنعم، لدي هواجس ومخاوف. ولكن هذه الهواجس والمخاوف أدعى للحوار، لا الانزواء أو الجمود أو المقاطعة. نعم، نطلب منهم ضمانات لفظية ومكتوبة. نعم، نطلب منهم الإقرار الكامل بحقوق المواطنة الكاملة، بما في ذلك تقلد كل المناصب العامة، حتى رئاسة الجمهورية، لغير المسلمين، وللنساء. نعم، نطلب منهم ألا يفرضوا وصاية روحية أو يدعوا احتكار الحقيقة الإيمانية، أو يحاولوا فرضها في أمور المجتمع والدولة والتشريع إلا بموافقة الغالبية المنتخبة. نعم، نطلب لا فقط من الإسلاميين و"المتأسلمين"، ولكن أيضاً من الماركسيين و "المتمركسين"، ومن كل القوى السياسية الأخرى في مجتمعنا، أن تتوافق على عقد اجتماعي يحمي الديموقراطية من "الوأد" أو "الانقضاض"، أو "المباغتة" أو "الانقلاب". وليكن هذا هو الدور المشترك لكل من المحكمة الدستورية العليا والقوات المسلحة، في حماية الدستور والعقد الاجتماعي المقترح، والذي يكون مكملاً للدستور. وقد اقترح طارق حجي تكوين مجموعة عمل فوراً، تضم كل التيارات بما فيها المتخوّفون من الاخوان، لكي تعد مسودتي دستور جديد، والعقد الاجتماعي المقترح، قبل نهاية عام 2004، على أمل أن يتم حوار قومي حولهما، ويقدما إلى مجلسي الشعب والشورى، وإلى رئيس الجمهورية، قبل الانتخابات المقبلة، سواء للرئاسة أو مجلس الشعب في خريف 2005 فلعل وعسى، ولا هلاك ولا يحزنون. * كاتب مصري.