تشهد العلاقات المغربية - الجزائرية منذ فترة تصاعداً لافتاً في حدة الخلافات. فبعد رفض الجزائريين "الرد بالمثل" على قرار جيرانهم رفع قرار فرض التأشيرة المفروض على الرعايا الجزائريين منذ 1994، وهو القرار الذي أدى الى إغلاق الحدود البرية بينهما، ارتدت الخلافات منحى أكثر خطورة مع تخلي الوسيط الدولي السابق في نزاع الصحراء جيمس بيكر عن مهمته. وفي حين دعمت الجزائر، على ما يبدو، جهوداً دولية لدعم الاعتراف ب"جبهة بوليساريو" تكلل ذلك باعتراف جنوب افريقيا ب"الجمهورية الصحراوية"، رد المغاربة بعنف ونقلوا القضية الى الأممالمتحدة من خلال تقديم مذكرة رسمية تتهم الجزائريين بالتورط مباشرة في النزاع الصحراوي، وهي تهمة دأبت الجزائر على نفيها. يقدّم محمد الأشهب من الرباط سرداً تاريخياً للعلاقات بين البلدين الجارين وتفاصيل الخلافات بينهما، بينما يشرح محمد مقدّم راجع الإطار من الجزائر طريقة تفكير الجزائريين في نزاعهم مع المغاربة، ثنائياً وصحراوياً. في إحدى زياراته القليلة الى الجزائر بعد تولي العاهل المغربي الملك محمد السادس مقاليد الحكم في 1999، سمع مسؤول مغربي كلاماً من مراجع جزائرية عليا مفاده ان المغرب اخطأ في اختيار حليفه في منطقة شمال افريقيا. وجاء الكلام في صيغة عتاب "تعاونتم مع الضعيف وتركتم القوي" في إشارة الى التنسيق الذي ساد الخطوات الأولى لضم الصحراء بين المغرب وموريتانيا. وقتها رد المسؤول المغربي باستحضار وقائع اجتماع تاريخي ضم كلاً من الملك الراحل الحسن الثاني والرئيس الجزائري الراحل هواري بومدين والرئيس الموريتاني الراحل المختار ولد داداة في المدينة السياحية اكادير على الساحل الأطلسي للمغرب. ونقل فيه القول عن بومدين ان "لا مطامع للجزائر في الصحراء" وانه يدعم أي تنسيق بين الأطراف المعنية في مواجهة قرار اسبانيا وقتذاك منح حكم ذاتي لسكان الساقية الحمراء ووادي الذهب، يبقيها تحت سيطرة مدريد. وزاد المسؤول المغربي ان الجزائر أقرت صراحة في القمة العربية التي استضافتها الرباط عام 1974 ان "لا مشكلة بينها وبين المغرب في قضية الصحراء". ويحتفظ المغاربة بتسجيل صوتي للرئيس بومدين بهذا المعنى يقول فيه باللهجة المصرية "بين المغرب والجزائر مافيش مشكل". لكن الموضوع سيرتدي طابعاً آخر بعد صدور الحكم الاستشاري لمحكمة العدل الدولية حول وجود روابط "بيعة وولاء" بين سكان الإقليم والسلطة المركزية في الرباط. وفي الوقت الذي عمدت فيه اسبانيا الى استمالة شبان يتحدرون من أصول صحراوية لتأسيس جبهة "بوليساريو" الى جانب بعض الاحزاب السياسية الموالية لاسبانيا على طريق اكتمال خطة الحكم الذاتي الذي رهنته بموافقة "الجماعة الصحراوية" - أي البرلمان الصحراوي وقتذاك - كانت الجزائر تعمل بتنسيق مع الإسبان لتأمين هجرة مضادة لسكان الصحراء نحو مراكز تيندوف جنوب غربي الجزائر، اذ تزامنت عمليات الهجرة مع دخول القوات المغربية في شباط فبراير 1976 الى الصحراء على خلفية انسحاب القوات الاسبانية منها. لكن الرد الجزائري كان أكثر عنفاً من خلال الاعلان عن تأسيس "الجمهورية الصحراوية" من طرف واحد، ما حدا بالمغرب الى قطع العلاقات الديبلوماسية مع الجزائر. وإذ يقول الرسميون الجزائريون ان توغل قوات عسكرية جزائرية في منطقة "أمفالا" القريبة شرقاً الى تيندوف كان بهدف تقديم المواد الغذائية والأدوية للاجئين الصحراويين، تشير وقائع مواجهتين عسكريتين في المنطقة ذاتها الى معطيات أخرى، هي نفسها التي ستتكرر في منطقة الداخلة جنوب المحافظات الصحراوية عندما توجهت قوات من مقاتلي "بوليساريو" تحت قيادة جزائرية الى هناك بهدف فرض السيطرة على الإقليم إثر انسحاب موريتانيا عام 1979، حين قتل زعيم الجبهة الوالي مصطفى. ويقول رسميون مغاربة ان قادة بعض الدول العربية تدخلوا عام 1976، وفي مقدمهم الرئيس المصري حسني مبارك، وكان وقتذاك نائب الرئيس أنور السادات، لاطلاق الأسرى الجزائريين المعتقلين في مواجهتي "أمفالا" في مقابل حدوث انفراج بين المغرب والجزائر. بيد ان قمة يتيمة على الأقل جرى البحث في تنظيمها لتجمع الحسن الثاني وبومدين في بروكسيل عام 1979 لم يكتب لها الالتئام على رغم تحديد موعد أولي كان تصادف واحتفالات المغرب بعيد الشباب. وتعرض بومدين بعد ذلك الى أزمة صحية نُقل اثرها الى موسكو ليعود منها في غيبوبة كاملة. احتاج الأمر، في غضون ذلك، الى حوالي أربع سنوات لعقد القمة الأولى بين الملك الحسن الثاني والرئيس الشاذلي بن جديد الذي قال عنه الملك الراحل يوماً "لقد أجبر على تولي رئاسة الجزائر"، غير انه وجد فيه محاوراً أعاد ملف العلاقات المغربية - الجزائرية الى الواجهة من خلال حدثين، أولهما تجديد العمل باتفاق ترسيم الحدود ضمن معاهدة حسن الجوار المبرمة بين البلدين عندما اجتماع الى الملك الحسن الثاني في المنتجع الشتوي في ايفران عام 1988، والثاني اجتماع العاهل المغربي الى قياديين في جبهة "بوليساريو" للمرة الأولى في مراكش في حضور الرجل الثاني في الجبهة بشير مصطفى السيد، ما مهد الطريق أمام انعقاد القمة التأسيسية للاتحاد المغاربي في مراكش في شباط فبراير 1989. لكن الاختراق على صعيد تحسين العلاقات الثنائية وبدء التعاون المغاربي انطلق قبل ذلك بمعاودة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، لم يعمر طويلاً نتيجة استقالة الرئيس بن جديد تحت ضغط الأزمة الداخلية في بلاده الناتجة أصلا عن ظهور جبهة الانقاذ الجزائرية التي اكتسحت انتخابات البلديات وتعطيل المسار الانتخابي عام 1992. وقتها أسرّ زعيم "الانقاذ" عباسي مدني الى "الحياة" انه يدعم التقارب بين المغرب والجزائر ولا يرى حلاً لقضية الصحراء خارج السيادة المغربية. وحرص الملك الحسن الثاني لدى زيارته الجزائر وقتذاك على الاجتماع الى زعماء الأحزاب السياسية الجزائرية. لكن الموقف الذي التزمه عباسي مدني سيجد امتداده في التصريحات الصادرة عن مراجع مغربية حول إمكان الافادة من دور جبهة الانقاذ الجزائرية في دعم الخيار الديموقراطي، وبالقدر نفسه سيتحول الخلاف حول التعاطي مع الظاهرة الاسلامية الى سبب آخر يعطل الانفراج في علاقات البلدين. وفي الوقت الذي بدأ فيه حوار مغربي جزائري من نوع آخر على خلفية المسألة الاسلامية متمثلاً في طلبات جزائرية لتسليم معارضين اسلاميين في مقدمهم الناشط عبدالحق العيادة أمير الجماعة الإسلامية المسلحة، دار على واجهة أخرى حوار بين المؤسسة العسكرية الجزائرية والمعارض الجزائري محمد بوضياف الذي كان يقيم في مدينة القنيطرة المغربية ويدير مصنعاً للبناء، وقد حرص لدى مغادرته المغرب ليصبح رئيساً للجزائر يتمتع بالشرعية التاريخية، على تأكيد التزامه ايجاد حل سريع لنزاع الصحراء. غير ان الرصاص الذي صوب نحوه في قاعة اجتماع في عنابة في حزيران يونيو 1992، طالت شظاياه العلاقات بين البلدين. ولم تكد تمر شهور حتى اندلعت أزمة حادة بين الجارين، إذ تورط رعايا من أصول جزائرية ومغربية في هجمات اطلس أسني في مراكش التي انعكست تداعياتها سلباً على علاقات البلدين عام 1994. فقد فرض المغاربة نظام التأشيرة على الرعايا الجزائريين وردت الجزائر بالمثل، وزادت عليها قرار اغلاق الحدود البرية في صيف 1994. وبعد حوالي شهر على اعتلاء الملك محمد السادس العرش صيف 1999، اندلعت أزمة جديدة بين البلدين. اذ اتهمت الجزائر المغرب بإيواء متسللين متطرفين نفذوا مذبحة في منطقة "بني ونيف" قرب الحدود الشرقية بين المغرب والجزائر. وألقى الحادث بظلال قاتمة على مبادرة أقدم عليها الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لدى زيارته المغرب للمشاركة في تشييع الملك الحسن الثاني. وكان يُنظر وقتذاك الى مسار العلاقات بين البلدين انها يمكن ان تتعرض الى "اختراق ايجابي"، نتيجة تولي بوتفليقة مقاليد الحكم في بلاده. والحال ان الملك محمد السادس بدأ بدوره في ادارة شؤون المغرب، مما كان يمكن ان يؤدي الى فتح صفحة جديدة بين البلدين في ظل قائدين جديدين. إلا ان ذلك الحادث أثّر في ترتيبات عدة ثنائية واقليمية لمعاودة التطبيع الكامل للعلاقات، ولم تنجح جهود تحريك قاطرة الاتحاد المغاربي الذي طلب المغرب تعليق مؤسساته عام 1994 احتجاجاً على ما وصفه بعدم احترام الجزائر التزاماتها المغاربية على خلفية حدوث مواجهة ديبلوماسية بين البلدين في الأممالمتحدة حول قضية الصحراء. واحتاج الموضوع الى مزيد من المساعي تمثلت جزائرياً في تأكيد الفصل بين العلاقات الثنائية مع المغرب وقضية الصحراء، على أساس انها مطروحة أمام الأممالمتحدة. وحين تبادل وزيرا الداخلية المغربي احمد الميداوي والجزائري يزيد زرهوني الزيارات طرحت الإشكالية بقوة بحثاً عن مقاربة جديدة تمسّك المغاربة ضمنها بالمفهوم الشامل لطرح كل الملفات، فيما ردت الجزائر بوضع الصحراء "بين قوسين". ومن المفارقات انه بعد حوالى أربع سنوات على تباين تلك الطروحات، غيّر البلدان مواقفهما في شكل لافت. فالمغرب الذي كان يرهن التطبيع الكامل مع الجزائر ببحث قضية الصحراء اختار في الفترة الأخيرة الفصل بين المقاربتين، فيما عادت الجزائر لطرح الإشكالية من منطلق المقاربة الشاملة. "الحل السياسي" ما حدث ان قضية الصحراء نمت في اتجاه آخر، وعندما تسلم الوسيط الدولي السابق جيمس بيكر الملف عام 1997 أقر بالصعوبات التي تكتنف التعاطي معه، مؤكداً ضرورة البحث عن حل بديل لاستفتاء تقرير المصير. وقادته جولات استكشافية مع الأطراف المعنية الى وضع صيغة "الاتفاق - الاطار" ضمن ما يعرف ب"الحل السياسي" بعدما كان جرب محاولات سابقة لتفعيل خطة الاستفتاء في سياق اتفاقات "هيوستن" التي جاءت عقب محادثات عقدت في برلين وبرشلونة. لكن رفض الجزائر وجبهة "بوليساريو" صيغة الاتفاق - الاطار الذي يمنح اقليم الصحراء حكماً ذاتياً موسعاً في اطار السيادة المغربية، جعله يطرح أربعة خيارات جديدة هي: العودة الى الاستفتاء أو تكريس الحكم الذاتي أو تقسيم الاقليم أو انسحاب الأممالمتحدة من ادارة الملف. لكن اللافت ان فكرة التقسيم التي جاءت باقتراح من الرئيس الجزائري بوتفليقة عرّضت من جديد علاقات المغرب والجزائر الى المزيد من التأزم. فقد اتهم المغرب الجزائر بأن لها اطماعاً في الصحراء تغلفها بمبدأ تقرير المصير وتؤكد انها من خلال طرح فكرة التقسيم تحاول ان تنوب عن سكان الصحراء في تقرير مصيرهم. ورد الرئيس بوتفليقة بزيارة تيندوف مع زيارتين قام بهما العاهل المغربي الى المحافظات الصحراوية، فيما عمد بيكر الى الجمع بين صيغتي الاستفتاء والحكم الذاتي في اقتراحاته الأخيرة التي قبلتها الجزائر و"بوليساريو" وأبدى المغرب تحفظات عنها. وبقي ملف الصحراء يراوح مكانه ما دفع بيكر الى الاستقالة بعدما وصلت مساعيه الى طريق مسدود. وعرفت المنطقة المغاربية تطورات اقليمية، أبرزها ان فرنسا التي كانت صيغة "الاتفاق - الاطار" وضعتها الى جانب الولايات المتحدة بمثابة راعيين لتنفيذه، اهتمت بالتأكيد ان ملف الصحراء لا يجب حله بعيداً عن الحوار المباشر بين المغرب والجزائر. وانتقلت اسبانيا بعد مجيء الحزب الاشتراكي الى الحكم في آذار مارس الماضي، الى داعم لهذا التوجه بعدما كانت حكومة رئيس الوزراء السابق خوسيه ماريا أثنار تدفع في اتجاه الضغط على المغرب على خلفية ازمات من قبيل صراع السيادة على جزيرة "ليلى" وملفات ترسيم الحدود المائية والموقف من اتفاق الصيد الساحلي ومستقبل المدينتين المحتلتين سبتة ومليلية. في ضوء هذه المعطيات اهتم المغرب بالانفتاح اكثر على الجزائر وأعلن إلغاء فرض التأشيرة على الرعايا الجزائريين من طرف واحد. لكنه في الوقت ذاته اكد مجدداً ان لا بديل عن الحل السياسي لنزاع الصحراء في اطار حكم ذاتي موسع في نطاق السيادة المغربية. بيد ان الجزائر ابدت في الفترة ذاتها شكوكاً حول خلفيات منح الولايات المتحدة صفة حليف الى المغرب من خارج بلدان حلف شمال الاطلسي، كونها تزامنت ومناورات عسكرية ضخمة مع الحلف والقوات المغربية في الساحل الاطلسي قبالة المحافظات الصحراوية. اضافة الى ذلك وجهت مذكرة الى الأمين العام للأمم المتحدة وصف المغرب بأنه "بلد يحتل الصحراء" وانها "لا يمكن ان تكون وصية على الصحراويين في تقرير مصيرهم". وزاد في تصعيد التوتر بين البلدين الجارين لجوء جنوب افريقيا التي ترتبط بعلاقات تجارية واقتصادية مع الجزائر، الى الاعتراف ب"الجمهورية الصحراوية" ما اعتبرته الرباط تصعيداً جديداً يضرب كافة جهود الوفاق والتقارب، خصوصاً ان رسالة كان وجهها الرئيس ثابو مبيكي الى العاهل المغربي يعرض فيها اسباب اعتراف بلاده تضمنت تأكيدات بالمعنى نفسه. ورأى المغرب في موقف الجزائر لجهة رفض فتح الحدود وارجاء اقرار توجهات اتفق عليها قائدا البلدين خريف العام الماضي لدى اجتماعهما في الأممالمتحدة وكذلك وصفه انه "سلطة احتلال" في الصحراء، اضافة الى رفض الجزائر أي صيغة للحوار حول القضية، تصعيداً لدرجات المواجهة حتمت الرد على المواقف الجزائرية عبر مذكرة شديدة اللهجة الى الأممالمتحدة اعادت نزاع الصحراء الى نقطة الصفر. ويقول ديبلوماسي غربي ان ما أقلق المغاربة ودفعهم الى تحميل الجزائر مسؤولية إذكاء نزاع الصحراء للمرة الأولى في عهد محمد السادس ان الأخير شدد على القول انه ملتزم حل نزاع الصحراء كأسبقية خلال فترة السنوات الخمس المقبلة، ما يتزامن والفترة الجديدة لولاية الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة.