ليس المقصود جردة حساب جافة تدخلنا في عالم الأرقام والجداول والرسوم البيانية، بل هي محاولة للوقوف أمام إنجازات الانتفاضة بعد عام على انطلاقها في المجالين السياسي والكفاحي، على أنها في باب الربح، وما عجزت عن تحقيقه حتى الآن باعتباره - مجازاً - يدخل في باب الخسارة. حساب الربح لقد كشفت الانتفاضة زيف الادعاء بعزلة القوى والأحزاب السياسية التي عارضت مطولاً اتفاق اوسلو وقاطعت استحقاقاته، كانتخابات رئاسة السلطة ومجلسها التشريعي وأعمال المجلس الوطني لإلغاء الميثاق الوطني. كما رفضت المشاركة في مسلسل مفاوضاتها والسير معها في دهاليزها الحلزونية. وأكدت هذه الانتفاضة في المقابل صحة طروحات هذه القوى بأن طريق "أوسلو" وصل بالضرورة الى الحائط المسدود وأنه سيقف عاجزاً عن تلبية الحد الأدنى من الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وأن الحال الفلسطينية مقبلة، لا محالة، على تطور نوعي، هو الانتفاضة نفسها التي تختلف في الكثير من جوانبها عن الانتفاضة الكبرى التي شهدتها المناطق الفلسطينية في نهاية الثمانينات. - أكدت الانتفاضة من جانب آخر مدى جماهيرية هذه القوى واتساع نفوذها وقدرتها على التفاعل مع الشارع والسير على وقع نبض استعداده الكفاحي. فعلى سبيل المثال أدركت هذه القوى - أو معظمها - أن انتفاضة ايلول الألفين تختلف في دوافعها وسياقها وتطلعاتها عن سواها من الهبات الشعبية التي شهدتها تطبيقات "أوسلو". فإذا كانت القوى السياسية قد أطلقت على حوادث ايلول 1996 تسمية هبة وعلى ما جرى في ايلول الألفين انتفاضة الأقصى والاستقلال والحرية على رغم ان الحدثين انطلقا من المكان نفسه ودفاعاً عن قداسة المكان نفسه فلأنها كانت تدرك حدود رد الفعل الشعبي على اقتحام النفق، ومدى حال النضج الشعبي التي قادت الى التصدي لشارون في اقتحامه ساحة الأقصى، مدركة في الوقت نفسه ان هذه الحال الشعبية باتت تمتلك كل مقومات تجديد الثورة الشعبية على الاحتلال. لذا، كانت شعارات ايلول 1996 محصورة في طلب إغلاق باب النفق والتوقف عن استعماله، بينما انفتح الشعار السياسي في ايلول الألفين على مصراعيه حين أطلق على حال التمرد الشعبي اسمها المعروف: انتفاضة الأقصى والاستقلال والحرية. أعادت الانتفاضة الى الشارع الفلسطيني وحدته السياسية بعد ان شهد حال انقسام واضحة حول الموقف من اتفاق اوسلو والعملية التفاوضية، وإن كانت حال الانقسام هذه بقيت محكومة - حتى بسبب من حكمة سياسية لدى الأطراف الفاعلة في تيار المعارضة الفلسطينية - بقواعد وأحكام تحول دون تحولها الى صراعات وحروب أهلية. لقد انساقت شرائح فاعلة في المجتمع الفلسطيني وراء اتفاق اوسلو على أمل ان يشكل طريقاً صالحاً للوصول الى الاستقلال وإلى الازدهار الاقتصادي والخلاص من الاحتلال والمستوطنين. وما لا شك فيه ان بعض شكليات الاتفاق كان لها فعلها في التأثير في الوعي الشعبي بإمكان نجاح طريق "أوسلو". وانقسم الشارع الفلسطيني ليس حول الاتفاق ومدى إمكانه تحقيق الأهداف الوطنية فحسب، بل وكذلك حول تشخيص المرحلة السياسية التي تعيشها الحال الفلسطينية. هل هي مرحلة جديدة لحركة التحرر الوطني الفلسطينية، أم هي الخطوات الأولى على طريق بناء الدولة الفلسطينية. وهو ما انعكس على صيغة التعامل مع الطرف الإسرائيلي. هل ما زال يمثل احتلالاً للأرض أم صار شريكاً في بناء عملية السلام؟ وبالتالي هل بات على الحال الفلسطينية وقف مقاومتها له واللجوء الى المفاوضات باعتبارها السبيل الوحيد لحل الصراع معه. من هنا كانت اعتقالات السلطة كوارد المعارضة - على خلفية عملياتها العسكرية ضد الاحتلال - تقابل من الشارع بلا مبالاة احياناً. لقد استعاد الشارع الفلسطيني وحدته الميدانية من اتفاق اوسلو، وضرورة العودة الى العمل العنفي بأشكاله المختلفة باعتباره اللغة الوحيدة التي يفهمها العدو الإسرائيلي. حتى إن ممارسة العمل المسلح باتت هي مقياس فاعلية اطراف المعارضة ونفوذها السياسي. كذلك اعادت للشارع الفلسطيني وحدته في التمسك بالاستقلال والسيادة هدفاً للانتفاضة من دون المرور بمراحل انتقالية أو حلول وقتية بعدما اكدت التجارب المرة انها الذريعة التي يحاول الاحتلال عبرها ان يخفي أساليبه المبتكرة لإدامة بقائه وتعطيل استحقاقات إعادة الانتشار أو انسحابه. أسقطت الانتفاضة مقولة ان القضية الفلسطينية وجدت طريقها الى الحل وأعادت المشهد السياسي الى ما يشبه مربعه الأول: جيش يمارس في احتلاله الأرض الفلسطينية سياسة البطش المعروفة، وشعب أعزل يقاوم بكل السبل دفاعاً عن حقه في الحرية والاستقلال وأن ما جرى ما كان إلا حلولاً ترقيعية حولتها رياح الانتفاضة الى أسمال بالية، وأكدت مرة اخرى استحالة ان تتمتع المنطقة بالأمن والاستقرار ما لم تجد القضية الفلسطينية طريقها الى الحل العادل، كما جددت التأكيد ان هذه القضية على رغم ما أصاب النظام العربي والعلاقات الإقليمية من متغيرات، ستبقى جوهر الصراع العربي - الإسرائيلي. وقد عكس هذا نفسه على العلاقات الإقليمية وعلى مفكرة المجتمع الدولي من واشنطن الى باريس، ومن برلين الى لندن، ومن بروكسيل الى موسكو ومن بكين الى طوكيو ومن أوسلو الى مدريد. ربطت مجدداً بين مطلب الاستقلال والحرية والسيادة وضمان حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة، كما أعادت التأكيد ان العودة تكون الى الديار والممتلكات التي انتزعت منهم وهجروا عنها في العالم 1948، وأسقطت في المقابل كل التفسيرات التي ساوت بين حق العودة والتعويض والتوطين. وبذلك اعادت توحيد الحال الفلسطينية في أماكن وجودها كافة داخل إسرائيل - في الضفة والقدس والقطاع - في مناطق الشتات على قاعدة إعادة احياء البرنامج الوطني، بعد ان كادت هذه الحال تتشرذم، ويبحث كل منها لنفسه عن حلوله الخاصة تحت وقع الحلول الجزئية التي طرحها اتفاق اوسلو. وأكثر من أي وقت مضى كشفت الحدود البعيدة لسياسة الانحياز الأميركي الى الجانب الإسرائيلي، وكذلك حدود الهيمنة الأميركية ومخاطرها على القضية الفلسطينية وضرورة تحرير هذه القضية من تلك الهيمنة. لقد لعب مطلب الحماية الدولية الموقتة وبإشراف مباشر من الأممالمتحدة دوره في كشف سياسة واشنطن وإصرارها على إبقاء القضية الفلسطينية وحلها تحت سقف تلبية المصالح الإسرائيلية وحدها دون غيرها. وهذا ما أعاد الاعتبار الى حلول الشرعية الدولية وقراراتها باعتبارها البديل الحقيقي لمشاريع واشنطن وسيناريواتها. طرحت على جدول اعمال الحال الفلسطينية ضرورة الوصول الى الوحدة بين السلطة الفلسطينية وبين الفصائل والقوى والأحزاب على اختلاف اتجاهاتها وتنوع سياساتها وعلى قاعدة اعتماد الانتفاضة الخيار الوطني نحو الوصول الى الحرية والاستقلال، الأمر الذي يفترض اعادة احياء البرنامج السياسي لمنظمة التحرير الفلسطينية بمكوناته الثلاثة: العودة وتقرير المصير وقيام الدولة المستقلة وعاصمتها القدس. كما اعادت طرح الحوار الوطني الشامل طريقاً للوصول الى هذه الوحدة في وقت باتت قوى المعارضة تمتلك ورقة ضغط فاعلة لتنشيط هذا الحوار، تتمثل في قدرتها على تطوير الانتفاضة وتصعيد المقاومة وجمهرة مواقفها وشعاراتها السياسية وتحويلها الى مطالب وشعارات وطنية عامة تتبناها الحال الشعبية الفلسطينية بكل مكوناتها. وبذلك تكون هذه القوى انتقلت نقلة نوعية من موقع المتحرك رداً على الحدث الى موقع الصانع للحدث. حساب الخسارة لست من الذين يحبذون اجراء حسابات مالية ورقمية تدخل في باب الخسارة التي يتكبدها الفلسطينيون اقتصادياً في انتفاضتهم الحالية. فالحال الاقتصادية الفلسطينية بما يعتريها من تشوهات وبما تعانيه من تبعية مكلفة للاقتصاد الإسرائيلي شكلت احد الأسباب الرئيسة لاندلاع الانتفاضة وتغذيتها. فضلاً عن ان هذه الحال لم تكن مهيأة على الإطلاق لتشكل اساساً اقتصادياً متيناً يحمل على عاتقه مسؤولية تغذية الانتفاضة وتدعيم قدرتها على الصمود، ولا نبالغ إذا ما قلنا ان الحال الاقتصادية الفلسطينية التي بنيت على أكتاف اتفاق اوسلو وملحقاته إنما كان من اهدافها طي صفحة المقاومة في تاريخ الشعب الفلسطيني مرة واحدة. لذلك لا أعتبر ان التراجع في الدخل القومي للمناطق الفلسطينية أو ارتفاع نسبة العاطلين من العمل، او نسبة العائلات تحت خط الفقر واحدة من علامات الخسارة في معركة الاستقلال والحرية. فمن الطبيعي ان يصيب الاقتصاد الفلسطيني ما أصابه لأنه في الأساس اقتصاد هش وغير مؤهل لتوفير مقومات التصدي للاحتلال، وغيرها من إجراءات القمع والعدوان الإسرائيلي. وفي السياق أميز بين التقارير عن الخسائر الاقتصادية في ظل الانتفاضة إذا كان هدفها إظهار ضرورة توفير الدعم العربي للشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وبين تلك التقارير التي تحاول ان تحمل الانتفاضة - كفعل سياسي - مسؤولية هذه الخسائر، من زاوية التشكيك بجدوى هذه الانتفاضة وبجدوى مقاومة الاحتلال، لمصلحة الدعوة الى طاولة المفاوضات وفقاً للأسس والشروط السابقة. وخارج عالم الأرقام والحسابات والنسب المئوية نستطيع ان نرصد سلسلة من الثغرات في حياة الانتفاضة لا أرى أنها تدخل في باب الخسارة، بقدر ما هي مهمات لم تستطع الانتفاضة حتى الآن أن تحققها لأسباب مختلفة. من هذه المهمات: - إن الانتفاضة لم تنجح حتى الآن في الضغط الشعبي والسياسي على السلطة الفلسطينية في حسم خيارها السياسي وقطع صلتها بمشاريع التسوية الأميركية والإسرائيلية، لذلك ما زالت الحال الفلسطينية تتبنى خطابين سياسيين متناقضين تناقضاً معلناً. ففي الوقت الذي تدعو الانتفاضة الى مقاطعة حكومة شارون ومبعوثيها الى أن تعترف بقرارات الشرعية الدولية اساساً للتفاوض والحل، فإن السلطة الفلسطينية لا تفوت فرصة للالتقاء بوزير خارجية شارون أو أي من مبعوثيه الآخرين بذريعة إظهار حسن النية للجانب الأميركي وتحميل الجانب الإسرائيلي مسؤولية تدهور الوضع في المنطقة. وفي الوقت الذي تدعو الانتفاضة الى رفض توصيات ميتشيل وورقة جورج تينيت، لا تكف السلطة عن مطالبة الولاياتالمتحدة بتطبيق وثيقة ميتشيل وورقة تينيت كمدخل لاستئناف العملية التفاوضية. - ان الانتفاضة لم تنجح حتى الآن في امتلاك إعلام مقتدر يرتقي بإمكاناته الى مستوى التضحيات التي يقدمها الشعب الفلسطيني. ولا نلقي مسؤولية بناء هذا الإعلام على عاتق الانتفاضة وقواها السياسية بل على عاتق السلطة والإعلام العربي من مشرق العالم العربي الى مغربه. ونفترض ان الإعلام الإسرائيلي - للأسف - حقق نجاحات لمصلحة سياسة شارون، حتى أن أوساطاً محايدة في اوروبا والولاياتالمتحدة انحازت الى السياسة الإسرائيلية في النظر الى الانتفاضة على أنها شكل من اشكال الإرهاب. - إن الحال الفلسطينية لم تنجح حتى الآن في تفعيل الدور النشط للشارع الفلسطيني واستثماره بطاقاته وإمكاناته في إسرائيل، والمناطق المحتلة والشتات، في خدمة الانتفاضة سياسياً ومادياً وإعلامياً ومعنوياً... ونفترض ان تفكك اوضاع "م ت ف" وغياب الوحدة السياسية الفلسطينية وغياب الإدارة السياسية التنظيمية الموحدة للحال الفلسطينية، كلها اسباب أفضت الى عدم القدرة على استثمار الفعل الشعبي الفلسطيني بالقدر الكافي. - لم تتمكن الانتفاضة حتى الآن من تنظيم الحال الاجتماعية في المناطق الفلسطينية المحتلة، ونعيد ذلك الى الأوضاع التي تعيشها هذه المناطق. فالمرجعية القانونية والإدارية المعنية بشؤون المجتمع هي السلطة الفلسطينية التي ما زالت حتى اللحظة تتردد في إعادة صوغ اوضاعها الإدارية بما يستجيب خيار الانتفاضة وتحويل هذا الخيار الى حياة يومية تخترق المجتمع الفلسطيني وتستنهض كل قواه في معركة الاستقلال. بعض هذه الثغرات دليل على حال ضعف في اوضاع الانتفاضة وبعضها الآخر رهن بمراكمة القوى والخبرات والعوامل الموضوعية. * كاتب فلسطيني.