في العام 1969 كتب سعدالله ونّوس مسرحيّته الشهيرة "حفلة سمر من أجل 5 حزيران" مرسّخاً من خلالها بدايته الحقيقية ومنطلقاً بمشروعه الذي سمّاه "مسرح التسييس". ولكن قبل هذه المسرحية التي حظيت بنجاح كبير كان ونّوس وضع مسرحيات صغيرة بدءاً من مطلع الستينات من القرن الماضي ومنها: "ميدوزا تحدّق في الحياة" و"مأساة بائع الدبس الفقير" وسواهما. إلا أن ونوس أخفى طوال حياته نصّاً غير منشور كان باكورة أعماله وعنوانه "الحياة أبداً" ورفض نشره ولكن من غير أن يمزّقه وينتهي منه. واللافت انه عاد اليه قبيل وفاته في العام 1997 وأضاف الى خاتمته ملاحظة بسيطة ولكنها ذات معنى عميق وكأنّه أوصى أن يصدر النص بعد رحيله. هذه الرغبة الملتبسة في اصدار النص حققتها دار الآداب ونشرت النصّ مع كلمة للناقد الفلسطيني فيصل درّاج. ومَن يقرأ الآن النصّ الذي لم يسع ونّوس الى تأريخه يدرك معنى تلك الرغبة التي اعترت صاحبه في نشره بعد وفاته، فهو يحفل ببعض العلامات التي تجلت لاحقاً في أعماله الرئيسة ويدلّ الى البعد الفكريّ الذي كثيراً ما تميّز به مسرحه حتى في أوج نزعته السياسية. قد يجد القارئ النصّ على قدر من "اليوتوبيا" والبراءة الإنسانية، فهو النصّ الأوّل في ما يعني من ضعف وانشائية ونقصان، وبدا ونّوس عبره خاضعاً للرؤية "المانويّة" التي تقسم العالم الى خير وشر هما دوماً في حال من الصراع. وقد جسد ونّوس الخير في شخصية "الشيخ الأخضر السترة" والشر في شخصية "الشيخ البنيّ السترة". وجعلهما في مواجهة هادئة حيناً ومتوترة حيناً آخر. أما المكان فهو عبارة عن جزيرة استطاعت أن تنجو من الانفجار الهائل الذي قضى على الأرض، ويبدو من خلال الحوار أنّ الشخصية الشريرة كانت وراءه. وهنا يرمز ونّوس الى الخراب الذي قد تصنعه القنابل الذرية القادرة على افناء الحياة على الأرض. وإضافة الى هاتين الشخصيتين - الرمزين يختلق ونّوس شخصيّتين أخريين تمكنتا من النجاة: انهما الشاب والفتاة اللذان سيواصلان الحياة على الجزيرة على رغم الدمار الكبير. فالفتاة ستحمل من الشاب وتضع توأمين أحدهما يُلّف بالسترة الخضراء والآخر بالسترة البنية. والدلالة هنا واضحة تمام الوضوح، فالطفلان اللذان يرثان سترتي الشيخين سيكونان شبيهين لهما ويمثلان صراع الخير والشرّ كصراع أبديّ، فما أن يرتفع صراخ الطفلين حتى يغيب الشيخان. تكمن "بداهة" المسرحية في كونها مرتبطة برؤية الصراع بين الخير والشر. الخير يحتاج الى نقيضه ليستمر والشرّ يحتاج الى نقيضه لكي يبقى. انهما يتفقان ويختلفان والواحد يمثل الوجه الخفيّ للآخر. لعلّها جدلية الخير والشر التي عرفتها الحضارات القديمة وما برحت تعرفها حضارتنا الحديثة وان تخطتها نحو رؤية أعمق وأعنف. لكنّ ونّوس لا ينتصر للخير ولا للشر، وهذا ما أبعد رؤيته عن الطابع التقليدي والأخلاقي الذي يتبناه القائلون بانتصار الخير. أراد سعدالله ونّوس أن يكون المكان جزيرة ناجية من الدمار الذي يشبه الطوفان القديم. فالعالم هنا هو في بدايته بعدما شهد نهاية مأسوية. والجزيرة التي استقبلت الشاب والفتاة هي أشبه بالأرض العذراء المملوءة بالأشجار المثمرة. أما الشاب والفتاة فهما بلا ذاكرة تقريباً وحياتهما ستبدأ من الصفر وكأنهما لم يعيشا في السابق. انهما الانسانان الجديدان اللذان سينطلقان نحو حياة هي "الحياة أبداً" كما يفيد العنوان. شخصيات المسرحية شخصيات - أفكار وليست حقيقية ولا من لحم ودم. شخصيات مجازية لا أفعال لها في المعنى الدرامي. والمسرحية هي مسرحية "فكرية" في المعنى الأليف أو البدهي للفكر. ولغتها لم تنج من الإنشائية والنزعة الضبابية التي أخذها ونّوس ربما عن حواريات جبران. عالم تجريدي لا واقعي حاول الكاتب أن يقول من خلاله فكرة أبدية الصراع بين هذين "القطبين" اللذين تعرفهما البشرية خير معرفة. كان سعدالله ونّوس يدرك ان هذه المسرحية غير قابلة للإخراج والتمثيل، وأنها لا تخلو من بعض الهنات، وأنّها مسرحية غير مكتملة، فأمثولة النهاية يمكن استخلاصها من لحظات البداية. لكنه حافظ عليها - سراً ولم يتخلّص منها نهائياً. لقد تركها كي تنشر بعد رحيله كوصية "أوتوبية" و"مثالية" تكمن فيها بعض الإشارات التي ظهرت لاحقاً في عالمه المسرحي، السياسيّ والفكريّ.