مشرع "الكتاب للجميع" الذي أطلقته دار المدى للثقافة والنشر قبل عامين تقريباً يوفر للقارئ العربي مادة ثقافية غنية ومتنوعة من حيث عمقها وموضوعاتها ومقارباتها الأدبية والفكرية. واذا ما أخذنا الظروف الاقتصادية الصعبة للقارئ العربي في الاعتبار فإن توزيع الكتاب الشهري بالمجان من طريق الكثير من الصحف العربية يحفز هذا القارئ على المطالعة واستكشاف الكثير من الأعمال الأدبية الطليعية، الأصيلة منها والمترجمة. الكتب التي صدرت حتى الآن لا تدخل في سياق واحد أو حقل معرفي محدد، بل هي تتوزع بين الروايات والسير والتراجم وأدب الرحلات والاجتماع ووصف المدن اضافة الى بعض الكتب المفصلية التي غيرت الحساسيات السائدة في الغرب أو لعبت دوراً بارزاً في عصر النهضة العربي. وإذا كان مشروع اليونسكو الذي أشرف عليه الشاعر العراقي شوقي عبد الأمير قد سبق مشروع دار المدى بسنوات عدة ولعب هو الآخر دوراً ريادياً في توفير القراءة للكثيرين فإن الانعطافة البارزة التي حققها مشروع دار المدى تتمثل في اخراج الكتاب من صيغته "الهلامية" الأولى وتحويله الى كتاب عادي ذي غلاف سميك وحجم طبيعي مشابه لسائر الكتب. فالقارئ الذي كان يجد صعوبة بالغة في قراءة عمل فكري أو أدبي طويل له شكل الجريدة وحجمها تقريباً بات الآن قادراً بيسر أكبر على قراءة الكتب المميزة التي يستطيع بعد الفراغ منها أن يضيفها الى مكتبته. قد تكون رواية الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو "كل الأسماء" هي من أفضل ما صدر عن المشروع الجيد من أعمال. فنحن هنا أمام نص روائي فريد وخاص ومفعم بالأسئلة والدلالات. نص شبيه بالمتاهة أو الأحجية التي يكاد القارئ يحل بعض ألغازها حتى تتلقفه الغاز جديدة أخرى مسلمة اياه الى المزيد من الحيرة والضياع. ولعل تلك الغاية بالذات هي ما أراده ساراماغو لقارئه كما لبطله أيضاً. على أن اللافت في هذا السياق ليس الحدث الروائي، على غرابته وانغلاقه السوداوي، فحسب بل تلك القدرة المدهشة على السرد والتقصي وملاحقة أدق التفاصيل بما يجعل القارئ مضطراً الى حبس أنفاسه على امتداد صفحات الرواية التي تناهز المئتين والخمسين من دون أن يجد فسحة لالتقاطها على الاطلاق. في الرواية التي تحمل اسم "كل الأسماء" ليس ثمة من اسم علم واحد سوى دون جوزيه الذي اراده المؤلف مماثلاً لاسمه بالذات في دلالة غير خفية على وجود نقاط كثيرة للتشابه ليس بين البطل والمؤلف فحسب بل بينه وبين سائر أفراد الجنس البشري الذين يجدون أنفسهم منساقين من دون قصد الى مصائرهم التي تشبه الكمائن أو الأفخاخ. يعمل دون جوزيه في دائرة المحفوظات العامة للسجل المدني المنوطة بتسجيل أسماء المولودين والمتوفين في المدينة التي لا اسم لها ولكنها ترمز الى العالم بأسره. يأتي الملايين من الناس الى الحياة ويذهبون مثل فقاعات عابرة من دون أن يتغير شيء يذكر باستثناء تلك البطاقة الصغيرة الموجودة في دائرة المحفوظات والتي تنقلهم من خانة الى خانة. المشاهير من الزعماء والقادة والعلماء والمبدعيون وحدهم هم الذين يحفرون أسماءهم في أماكن أخرى أكثر اتساعاً ويدخلون في الوجدان الجمعي للجنس البشري. كل هذه الفروق بالطبع لم تكن من شأن دون جوزيه، بل كان عليه فقط أن يهتم بالبطاقات التي تساوي بين جميع الشرائح والفذات. غير ان دون جوزيه تجاوز صلاحياته ليجمع خمساً من البطاقات المتعلقة ببعض المشاهير ثم ليكتشف لاحقاً أن ثمة بطاقة سادسة لامرأة مجهولة قد التصقت عرضاً بإحدى البطاقات. لم تكن هذه المصادفة لتعني أي شيء بالنسبة الى موظف آخر لكنها قلبت حياة الموظف بالكامل ودفعته الى البحث عن صاحبة البطاقة المولودة قبل ستة وثلاثين عاماً من الحادثة. يتمرغ بطل ساراماغو في متاهات فضوله المفرط ويذهب لزيارة المنزل الذي ولدت فيه المرأة المجهولة فيكتشف من أمها بالعمادة أنها رحلت الى مكان لا تستطيع تحديده. يدخل المدرسة التي تتلمذت فيها صغيرة مثل لص محترف ويبحت بين أكوام البطاقات المعفرة بالغبار عن أثر لتلك الطفلة التي ما يلبث أن يدرك من اختفاء البطاقة الخاصة بها في سجل المحفوظات انها قضت منتحرة خلال فترة بحثه عنها. يذهب الى مقبرة المدينة الشاسعة لكي يعثر على قبرها فيلتقي بأحد رعاة الأغنام الذي يخبره بدوره بأن لا جدوى من البحث لأنه يعمل شخصياً على التلاعب بأرقام القبول في لفتة هازئة منه الى علاقة الأحياء بالأموات. وحين يعود الى بيته مرهقاً يكتشف ان رئيسه في العمل قد سبقه الى البيت وقرأ كل ما دوَّنه عن مغامرته الغريبة من مذكرات لينصحه بعد ذلك باتلاف الوثائق التي تتعلق بموت المرأة وإحراق بطاقة وفاتها. فغياب البطاقة يعني انتفاء الموت كما انه يخلط الأموات بالأحياء ما دام الفارق الوحيد بينهم لا يتعدى سجل الأسماء المدون في المحفوظات العامة للسجل المدني. فالبطاقات وفق ساراماغو هي التي تمنح وجوداً شرعياً لواقع الوجود والموت لا يكون حقيقياً بدوره إلا عند سقوط اسم صاحبه من القائمة! ثمة مناخ كافكاوي قاتم في عالم ساراماغو المثخن بالعبث والسخرية والمصادفات العمياء. فالرواية كلها لم تكن لتقع لو أن دون جوزيه بحث عن اسم المرأة المجهولة في دليل الهاتف وعثر مباشرة على ضالته. لكن ما يعطي المعنى العميق للحياة وفق المؤلف هو البحث نفسه. "لذلك لا بد من السير كثيراً من أجل بلوغ ما هو قريب" لأن صياداً يعثر عند سلم بيته على سرب من الحجل لن يجد أية سعادة في اصطياد العدد الأوفر من ذلك السرب. أما لغة ساراماغو فهي تتدفق بلا انقطاع سوى بعض النقاط والفواصل. كما انها تشتغل بدأب نادر على تتبع المشاعر والحركات وتفاصيل الموجودات موفرة للرواية حبكة شبه بوليسية على رغم اسئلتها الوجودية والماورائية. كذلك لا يضع المؤلف أية اشارات دالة على الحوار بين شخصياته، بل يدمجها جميعاً في جملة طويلة تمتد على مساحة الرواية ولا تترك وراءها سوى علامة استفهام بحجم الحياة نفسها.