أقل ما يمكن أن يقال في رواية الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو، الحائز منذ بضعة أشهر فقط على جائزة نوبل للآداب لعام 1998، والمنقولة إلى الفرنسية حديثاً لدى دار "سوي" في عنوان "الأسماء كلها"، بعد صدورها عام 1997 بالبرتغالية، أقل ما يقال فيها هو أنها مذهلة. ويسع القارئ الذي لم يقيض له من قبل قراءة عمل أدبي لساراماغو، كما هي حال كاتب هذه السطور، يسعه المسارعة الى التأكيد بأن صاحب رواية "الأسماء كلها" يستحق جائزة نوبل استحقاقاً لا يرقى إليه الشك ولا يخامره اللبس في زمن لم يعد نجاح "النجوميات" الأدبية ورواجها وصناعتها أمراً يخضع لمعايير الإبداع الأدبي المحض. يمكننا أيضاً أن نوافق الناشر الفرنسي ونصدقه القول الموضوع على ظهر صفحة الغلاف والنازع الى اعتبار هذه الرواية بالذات مرشحة منذ الآن الى ان تكون في عداد الروائع الكلاسيكية القابلة للرسوخ والديمومة. على أننا نتحفظ حيال هذا النوع من "المستقبليات" السخية التي تلابس صور التثمين والتقويم الحداثيين للنصوص فتستعجل "مضمونه" ما هو معاصر، مرجّحة كفة اللذة الإستهلاكية على كفة الشوق الى مكابدة التأمل والتمعن والمساءلة الصبورة وكلها من مستلزمات متعة لا تتنكب التأني والإستضاءة. والحال ان رواية "الأسماء كلها" تدعونا حثيثاً وبحبور سردي ممتع الى مشاركة الراوي في رحلته المحمومة بحثاً عما يسعه ان يفتح ويفك مغاليق شطر بارز من بداهات وعاديات حياتنا الحديثة. والحق ان الراوي، وهو ساراماغو نفسه، يحمل الكثير من الأفكار الذكية والتأملات المضيئة ذات الطابع الفلسفي والحكمي الحديث ويتعهدها بمهارة ورشاقة إذ يصبها في قوالب سردية حاذقة ومكثفة خالية من رطانة الوعاظ الثقيلة. والأفكار والتأملات هذه تدور على الغفلية والشهرة، على الحياة والموت، بالأحرى على علاقة الأحياء بالأموات، على وظيفة الأسماء، مسترشداً بقول وحكمة مأثورين مهّد بها لروايته: "أنت تعرف الإسم الذي أعطيت إياه، ولا تعرف كنه الإسم الذي تحمله". لدينا، في رواية ساراماغو هذه، موظف صغير في الخمسين من عمره، يعمل منذ سنوات طويلة في مركز المحفوظات كونسرفاتوار العامة للأحوال المدنية التي نسميها نحن بالأحوال الشخصية. والموظف هذا، واسمه السيد جوزيه، هو الشخصية الرئيسية في الرواية ووحده يحمل إسماً دون بقية الشخصيات التي تظل تسبح في غفلية إسمية تامة تنضاف إلى غفلية الأمكنة بحيث يمكن للرواية أن تدور في أي بلد أو مدينة. يتحدث الراوي إذاً في صيغة الغائب عن مجرى حياة وعمل وعزلة السيد جوزيه المقيم في بيت ملاصق وملحق بمركز الأحوال الشخصية بعد أن قررت الحكومة إزالة المساكن التي كانت من قبل متصلة ومحيطة بالمبنى الهائل الذي يعج ببطاقات الولادات والوفيات والزواج والطلاق. المرأة المجهولة يصف الراوي بدقة متناهية صورة المبنى ومحتواه، وطريقة تنظيم وترتيب البطاقات وتوزعها على صفوف وفي أروقة بعضها مخصص للأحياء وبعضها للأموات. قواعد العمل في المركز المذكور تخضع لتراتب هرمي صارم يترأسه المسؤول العام ويليه نائبان للمسؤول ومن ثم ضباط إداريون ومن ثم الكتّاب أو الكتبة الذين يقومون بتسجيل الأحوال الشخصية على البطاقات، وتلك هي مهنة السيد جوزيه. يعيش هذا الآخر بمفرده ولكي يشغل نفسه في سهراته الطويلة الموحشة يتسلى بجمع قصاصات صحفية عن مشاهير البلد ونجومه. أثناء اختلاسه الليلي لخمس بطاقات تتعلق بالمشاهير يقع عن طريق الخطأ على بطاقة لامرأة غير معروفة في السادسة والثلاثين من العمر. هذا الإلتقاء الناجم عن محض المصادفة مع بطاقة المرأة المجهولة سوف يقلب حياة السيد جوزيه رأساً على عقب. يقرر هذا الأخير ان يعرف شيئاً عن مصير هذه المرأة المجهولة التي تشير البطاقة الى تاريخ ومكان ولادتها، وإلى تاريخ زواجها ومن ثم طلاقها. وتبدأ عملية استقصاء يرويها ساراماغو على إيقاع حبكة بوليسية قائمة على التشويق والإثارة. فالموظف ذو الحياة الرتيبة يقوم بتزوير إفادة تخوله التحري والإستقصاء عن المرأة المذكورة، يذهب إلى البيت الذي ولدت فيه، قبل 36 سنة، إلا أن السكان الجدد لا يعرفون شيئاً عن المرأة، ثم يلتقي بالمرأة "المقيمة في الطابق الأرضي الى اليمين"، وهكذا يتردد تعريفها في الفصول اللاحقة للرواية، فتعلمه بأنها عرّابة الطفلة وبأن أخبارها انقطعت منذ زمن وتعلمه بأنها ارتبطت بعلاقة غرامية محرّمة مع والد الطفلة. وتنصحه المرأة بالذهاب الى المدرسة التي كانت الطفلة ترتادها، فيذهب متسللاً في الليل ويدخل خلسة مثل اللص، ويسقط عن جدار ويجرح ركبته، ثم ينجح في الحصول على بعض المعلومات المسجلة في أرشيفات المدرسة عن الطفلة. ويخرج قبل طلوع الفجر تحت مطر شديد، فيصاب بالزكام وينقطع عن العمل لبضعة أيام. ثم يعاود البحث والتنقيب ويكتشف بأن المرأة انتحرت لأسباب مجهولة، ويلتقي بذويها ليكتشف انهما لا يعرفان ادنى سبب لانتحارها، إذ لم يكن زواجها فاشلاً وكان طلاقها بمحض إرادتها ومن دون مشكلات كبيرة، إلا أنها كانت منذ صغرها تصاب من حين لآخر، بشيء من الكآبة والحزن، على ما يقول اهلها. لهفة السيد جوزيه تقوده الى "المقبرة، "مكتبة الأموات الكبيرة"، وبين الأضرحة يلتقي بأحد الرعاة الذين يجلبون أغنامهم كي ترعى الأعشاب في هذه البقعة، ويكتشف السيد جوزيه بأن هذا الأخير يتسلى بتبديل الأرقام الموضوعة فوق مثاوي الموتى قبل وضع الشاهدة الرخام، ومعنى هذا ان الأحياء القادمين للتحسر والبكاء والإستذكار قد يفعلون ذلك فوق قبور لا تعود إلى موتاهم الحقيقيين. البناء المحكم ذاك هو باختصار البناء الحكائي لرواية "الأسماء كلها"، إلا أن قيمتها وبهاءها الفعليين يكمنان في نسغ السرد الحاذق والشديد الإيحاء، وفي إحكام البناء الروائي، بما في ذلك بناء شخصية السيد جوزيه الذي يمكن أن يتحول إلى موضوع لبحث ودراسة أدبيين مستقلين في ذاتهما، وبناء او نسج حبكة مشوقة تدور على تناوب إيقاعين، داخلي وخارجي. ونجد كذلك تقنيات سردية عالية، خصوصاً عندما نلحظ طريقة عقد الحوارات التي تحافظ على وحدة السرد، كأن يكتفي الراوي بتكبير الحرف الأول من الكلمة كي نعلم أن الكلام انتقل من شخصية إلى أخرى، ومن دون أن ينقطع حبل السرد ويتوزع على سطور مستقلة. والحق أن هذه الطريقة شقت طريقها منذ زمن في الرواية الجديدة والحديثة. على اننا نحسب ان صوغ الحوار بهذه الطريقة يأتي للتخفف من النزوع المسرحي المشهدي، بحيث يظل إيقاع السرد مشدوداً إلى مناخ من القلق الداخلي والتأمل المهموس. إلى ذلك، يلجأ ساراماغو إلى التدخل والتعليق ليدلنا على انه يصنع شخصيته، يتماهى معها أحياناً، ثم يقيم على مسافة منها كي يراها، ونحن معه، في صورة أوضح. في ثنايا هذه الحبكة التي في غضونها يبحث رجل غير مرئي وشبه غفل، أي السيد جوزيه، عن امرأة غير مرئية لأنها غير معروفة نظراً للمجرى العادي لحياتها، ولانتحارها ربما. يبث جوزيه ساراماغو سلسلة من الأفكار والتلميحات الفلسفية الذكية والمثيرة. فهو ينسب الى بطله التأمل في واقعة الإهتمام بالمشاهير وملاحقة أخبارهم. "اما الناس العاديون، فلا أحد يهتم بهم، لا أحد يتشوق إلى معرفة ما يصنعونه، وما يفكرون به، وما يستشعرون، حتى عندما يراد لنا ان نحسب العكس، فان هذا يبدو مهزلة". وفي سياق أخر، يدور حوار بين السيد جوزيه وبين المرأة المقيمة في الطابق الأرضي الى اليمين، حول الزواج، فتسأله إذا كان يعرف عدد الأشخاص المعنيين بالزواج؟ فيجيبها بأنهما اثنان، الرجل والمرأة، فتقول له بأن الزواج يقوم على ثلاثة اشخاص: الرجل والمرأة وما تجوز تسميته بشخص ثالث، وهو الأهم، وهو ما يتشكل ويتألف من وجود الرجل والمرأة معاً. بين السرد والشعر والحال ان رواية ساراماغو الممتدة على 272 صفحة من القطع الكبير، تحفل بتلميحات من النوع المشار إليه، وثمة لقطات سردية تقع على ضفاف الشعر، ولا يقتصر ذلك على الحوار بين السيد جوزيه والسقف، سقف البيت، بل يشمل لحظات من اكتشاف كثافات وجودية. من ذلك مثلاً، ما يحصل للسيد جوزيه لدى لقائه الثاني مع المرأة المقيمة في الطابق الأرضي، إذ اثر حوار ودّي معها، وعندما همّ بالخروج لثم يدها، فما كان من المرأة إلاّ أن أخذت يده ولثمتها: "لم يحصل لي في حياتي أبداً، أن امرأة قبّلت يدي، شعرت بنوع من الصدمة تعصف بروحي، ...، وما زلت الى الآن، وبعد انقضاء ساعات عدة ...، أنظر الى يدي اليمنى فأجدها مختلفة عما كانت عليه، وإن كنت عاجزاً عن إدراك علامَ يقوم هذا الإختلاف، لا بد أن الأمر يحصل في الداخل، لا في الخارج". يستعين ساراماغو بتقنيات التشويق السردي البوليسي ليلامس عن كثب، من خلال لقاء متعذر ومستحيل بين موظف عادي وامرأة غائبة وعادية هي الأخرى، ليلامس ويقارب أمثولة فلسفية وإناسية عن لغز العلاقة بين الأحياء والأموات. وفي القسم الأخير من الرواية، نرى الراوي ينسب إلى المسؤول عن مركز المحفوظات العامة للأحوال الشخصية، تعليقاً مطولاً عن عبثية الفصل الإداري بين الموتى والأحياء، مقترحاً دمجهم مع بعضهم البعض بحيث يصبح المركز المذكور مركزاً للأرشيفات التاريخية. وهذا المقطع الأخّاذ يذكرنا بفصل من كتاب "الفكر البري" لعالِم الإناسة المعروف كلود ليفي ستروس وفيه يتحدث هذا الأخير عن طقوس الإستذكار والتكريم ووظيفتها في نقل الحاضر إلى الماضي، والماضي إلى الحاضر، ويشير إلى عودة الموتى إذ الأحياء يموتون بالفعل وبعضهم يدخل في عداد السلف كي تستردهم من جديد طقوس الإستذكار، وتستحضرهم من غفلة ماضٍ وغياب ينسلان ويتخللان في الحقيقة، في صورة ملغزة وملتبسة وخفية، حياة البشر التائقة إلى التجلّي والسطوع تحت شمس إنسانية أخرى، وهي شمس ترفعها الكتابة لتضيء مجاهيل وعتمات لا حصر لها، حتى في التفاصيل التي تبدو لنا بديهية جداً ومكتفية جداً بذاتها. في روايته الجديدة "الأسماء كلها" بضيف جوزيه ساراماغو الى عالمه الروائي عملاً جديداً، يجمع الى متانته السردية رؤية عميقة. وقد وظف الروائي البرتغالي ثقافته ومراسه خير توظيف ليخلص الى نص سردي مشرع على كل احتمالات الكتابة والتأمل. وعبر هذا النص يحضر ساراماغو مرة اخرى كروائي عالمي طليعي. المرأة المجهولة بعد أن تناول وجبة عشاء بسيطة، على جاري عادته وبداعي الضرورة، رأى السيد جوزيه أن أمامه سهرة طويلة وأن لا شيء يشغله. بيد أنه توصل إلى تسلية نفسه مدة نصف ساعة راح يتصفح فيها بعض حيوات كبار المشاهير في مجموعته، وأضاف إليها بضع قصاصات حديثة العهد، غير أن تفكيره كان في مكان آخر، آخذاً في التجوال على غير هدى في عتمة مركز المحفوظات الكونسرفاتوار، مثل كلب أسود تسنى له أن يشتم رائحة أثر السر الأخير. أخذ يفكر في أنه لن يكون ثمة أدنى مخاطرة في استخدام البطاقات التي كانت في عداد محجوزاته، على الأقل استخدام ثلاث أو أربع منها، فقط كي يشغل نفسه بعض الشيء في سهرته وينام بعد ذلك قرير العين. كان الحذر يجهد لردعه عن ذلك، للإمساك به من كُمّ ثوبه، على أن الحذر كما يعلم كل إنسان أو كما ينبغي عليه أن يعلم، الحذر لا يجدي إلا عندما يتعلق الأمر بالمحافظة على شيء لم يعد ثمة طائل منه، وما الضرر من القيام بفتح الباب، والذهاب بسرعة لجلب ثلاث أو أربع بطاقات، فلنقل خمس، بحيث يكون الحساب بالرقم الصحيح، ويترك أغطية الملفات لجولة أخرى، وبهذه الطريقة يتفادى اضطراره إلى استخدام السلم. هذه الفكرة على وجه التخصيص هي التي جعلته يعزم أمره. وإذ أضاء طريق سيره بواسطة مصباح جيب حمله بيده المرتجفة، دخل إلى المغارة الهائلة لمركز المحفوظات ودنا من علبة البطاقات، مضطرباً أكثر مما كان يحسب في البداية، راح يدير رأسه إلى هذه الجهة وتلك كما لو أنه كان يخشى أن تراه آلاف العيون المختبئة في ظلمة الممرات الواقعة بين الصفوف. لم يكن قد تعافى بعد من صدمة الصباح. وبمقدار ما أتاحت له أصابعه الخائفة من السرعة، فتح وإغلاق الأدراج، بحث بين مختلف حروف الأبجدية عن البطاقات التي كان يحتاج إليها. الآن، وقد أصيب حقاً بالهلع، رجع إلى بيته راكضاً، وقلبه يخفق بسرعة، مثل طفل يذهب لاختلاس قطعة حلوى موضوعة في خزانة الطعام ثم يعود من هناك وفي اعقابه كل وحوش الظلام. صفق الباب في وجهها وأدار المفتاح دورتين، رافضاً التفكير بأنه قد يتوجب عليه العودة ثانية إلى مركز المحفوظات كي يعيد البطاقات الملعونة إلى مواضعها. كي يهدّئ من روعه، ذهب يشرب جرعة من ماء الحياة المسكرة من القنينة التي كان يحتفظ بها للمناسبات الكبيرة، الطيبة منها والخبيثة. بسبب إسراعه وعدم اعتياده على ذلك، إذ في حياته التافهة حتى الطيب والخبيث كانا أمرين نادرين، فإنه ضيّق الخناق على نفسه، وأخذ يسعل ويسعل، وبات تقريباً على شفير الإختناق، أيها الكاتب المأمور المسكين الحامل خمس بطاقات في يده، وكان يظن أنه يحمل خمساً منها، إلا أنه بسبب نوبة سعاله أوقعها من يده ولم يكن عددها خمسة بل ستة، مبعثرة على الأرض، ويسع أي كان أن يأتي ليراها ويعدّها، واحد، إثنان، ثلاثة، أربعة، خمسة، ستة، لم يحصل أبداً أن فعلَتْ جرعة من ماء الحياة مثل هذا المفعول. عندما استعاد في النهاية أنفاسه، انحنى كي يلملم البطاقات، واحدة، اثنتان، ثلاث، اربع، خمس، ست، لم يكن هناك ادنى شك في العدد، وفيما كان آخذاً في جمعها راح يقرأ الأسماء المسجلة عليها، وكلها تعود الى مشاهير باستثناء اسم واحد، بسبب استعجاله واضطراب أعصابه، لصقت البطاقة الدخيل بالتي قبلها، وكانت البطاقات نحيفة جداً الى حد يجعل المرء بالكاد يلاحظ فارق السماكة .... إنها بطاقة لامرأة في السادسة والثلاثين من العمر، مولودة هنا في هذه المدينة، وفيها ملحوظتان، تاريخ الزواج وتاريخ الطلاق. يوجد بالتأكيد في علبة البطاقات مئات البطاقات مثل هذه، إن لم يكن الآلاف، ولا نفهم إذاً لماذا ينظر السيد جوزيه إليها وعلى وجهه إمارات استغراب شديد يبدو للوهلة الأولى تعبيراً عن الإهتمام إلا أنه فوق ذلك ينم عن الخشية. إنها ربما طريقة النظر لدى إنسان لا يرغب ولا يتخلى فيروح يتخلص تدريجياً من شيء ما، من دون ان يعرف حقاً بماذا سوف يتشبث وينهمك من جديد. سيكون هناك بالتأكيد أناس سوف يلحظون التناقضات المفترضة وغير المقبولة بين حال الخشية، والإهتمام، إنهم أشخاص يقنعون بالعيش بحلوه ومرّه إلا أنهم لم يجدوا أنفسهم أبداً وجهاً لوجه مع مصيرهم. السيد جوزيه ينظر ويعاود النظر في ما هو مكتوب على البطاقة، ولا داعي للقول بأن الخط ليس خطّه، فهو خط بالٍ، ثمة كاتب آخر وضع منذ ستة وثلاثين سنة الكلمات التي يمكن قراءتها، اسم الطفلة، أسماء ذويها وعرّابيها، تاريخ وساعة الولادة، الشارع، الرقم والطابق الذي رأت فيه النور للمرة الأولى وشعرت بالمعاناة الأولى، وهي بداية مثلها مثل بداية كل الناس، الإختلافات الكبيرة والصغيرة تأتي بعد ذلك، فبعض الذين يولدون ترتسم صورهم في الموسوعات، في كتب التاريخ، في التراجم، في الكاتالوغات، في الكراريس، في مجموعات القصاصات الصحافية، أما الآخرون، إذا جازت المقارنة، فإنهم مثل السحابة التي تمر من دون ان تترك اثراً لمرورها، وإذا أمطرت لا تتبلل الأرض. مثلي أنا، راح يفكر السيد جوزيه، خزانته كانت ملأى بالرجال والنساء الذين يُكتب عنهم كل يوم تقريباً في الصحف، وعلى طاولته يوجد إخراج قيد ولادة لشخص مجهول، وكان هذا كما لو أنه يضعها على كفتي ميزان، مئة شخص على كفّة وواحد على الكفة الأخرى، كي يكتشف بعد ذلك في صورة فجائية بأن كفة المئة كلهم معاً لم تكن تزن أكثر من وزن شخص واحد، بأن مئة تساوي واحداً، بأن واحداً يضاهي المئة. في حال ما دخل أحد ما في هذه اللحظة إلى بيته وسأله على حين غرّة، هل تعتقد حقاً بأن الواحد الذي هو أنت يساوي مئة، وبأن المئة شخص في خزانتك، كي لا نذهب أبعد من ذلك، يساوونك، فإنه سيجيب من دون تردد، يا سيدي العزيز، أنا كاتب بسيط، مجرد كاتب بسيط بلغ الخمسين من العمر ولم يحصل على ترقية إلى رتبة ضابط إدارة، ولو أنني كنت أعتقد بأن قيمتي تضاهي قيمة واحد فقط من الأشخاص الذين رتبت صورهم هنا في الداخل في الخزانة او قيمة اي واحد من هذه الشخصيات الخمس الأقل شهرة، لما شرعت في إعداد مجموعتي، لماذا إذاً لا تتوقف عن النظر الى بطاقة هذه المرأة المجهولة، كما لو أنها أخذت بغتة تنال أهمية تفوق سائر الآخرين، لهذا السبب بالضبط، يا سيدي العزيز، أي لأنها مجهولة، دعك من هذا الكلام، فعلبة البطاقات في المركز العام تعجّ بالمجهولين، لكنهم في علبة البطاقات، وليس هنا أمامي، ماذا تقصد بذلك، لا أعرف بالضبط، في هذه الحال، أترك هذه الأفكار الميتافيزيقية التي لا يصلح لها عقلك كما يبدو لي، واذهب إلى هناك المركز لإعادة البطاقة إلى موضعها، ثم نم بسلام، هذا ما آمل أن أفعله، كما هي الحال في كل الليالي. نبرة الجواب كانت متساهلة، إلا أن السيد جوزيه كان ما زال لديه شيء يضيفه، أما بالنسبة إلى الأفكار الميتافيزيقية، يا سيدي العزيز، فاسمح لي أن ألفت انتباهك إلى أن أي رأسٍ كان قادراً على إنتاجها، وما تخفق الرأس في صنعه في معظم الأحيان إنما هو العثور على الكلمات المناسبة للتعبير عنها. خلافاً لما كان يتمنى، لم يتوصل السيد جوزيه إلى النوم بسلام نسبي معتاد. كان يواصل البحث، داخل المتاهة المربكة لرأسه المفرغ من الميتافيزيقا، عن خيط الأسباب التي دفعته إلى نسخ بطاقة المرأة المجهولة ولم يعثر على أي سبب واحد من شأنه المقدرة على التحديد الواعي لفعلته المفاجئة. كان قد نجح بالكاد في تذكّر حركة يده اليسرى وهي تأخذ الإستمارة الفارغة، ومن ثم شروع يده اليمنى بالكتابة، فيما عيناه تنتقلان من بطاقة إلى أخرى كما لو كانتا هما في الواقع من يقوما بنقل الكلمات من بطاقة إلى بطاقة. كان يتذكر كذلك الطريقة التي دخل بها في هدوء إلى مركز المحفوظات العامة، مستهجناً فعلته، وهو يحمل مصباح الجيب بيد ثابتة، من دون توتر، من دون خشية، والطريقة التي قام بها لإعادة البطاقات الست الى موضعها، وفي آخرها بطاقة المرأة المجهولة، المضاءة حتى اللحظة الأخيرة بشعاع المصباح، ومن ثم انزلاقها نحو الأسفل، تعرّضها للإبتلاع، إذ توارت بين بطاقة الحرف السابق وبطاقة الحرف التالي، انه اسم على قطعة من الورق المقوى، ليس هناك اكثر من ذلك. في قلب الليل، إذ أعياه الأرق، أشعل الضوء. ثم نهض، وضع ثوب الغبردين الفضفاض فوق ثيابه الداخلية وذهب ليجلس أمام طاولته. نام في وقت متأخر جداً، واضعاً رأسه على مرفق يده اليمنى ويده اليسرى على نسخة البطاقة. * مقطع من رواية "آلأسماء كلها"، ترجمة حسن الشامي