ما يحدث في مصر الآن يبرهن بجلاء على أن هناك محاولات للالتفاف على الإصلاح السياسي المطلوب، بما قد يفضي في خاتمة المطاف إلى تجميل القبيح، أو تلميع القشرة الخارجية لحال التسلط، في إيهام، للداخل والخارج معا، بأن هناك تغيرا نوعيا ما يجري. ويتم هذا الالتفاف تحت لافتة عريضة مفادها أن الديموقراطية ليست شكلا واحدا، أو مساراً ثابتاً، بل إنها تتخذ أنماطها بحسب ظروف كل مجتمع، وأن من حق كل جماعة أن تبدع النظام السياسي المتلائم مع أحوالها الحياتية. ويتمادى الملتفون في تقديم الذرائع إلى درجة الحديث عن أن الديموقراطية الغربية نفسها لا تخلو من مشاكل أو نقائص، وأن بعض المفكرين الغربيين أنفسهم يعترفون بأن الديموقراطية المطبقة حاليا، ليست نظاما كاملا أو مثاليا، وليست نهاية لتاريخ الممارسة والتجريب السياسي، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام الآخرين ليدفعوا بإبداع سياسي خاص. وبالطبع فإن الإبداع السياسي مطلوب لكل جماعة بشرية، لكن ما يجري على ألسنة فقهاء السلطة وأقلامهم في مصر هو استغلال هذا الحق أو تلك الرخصة في إرجاء الإصلاح، وارتكاب جريمة الاستبداد، بدعوى أن الشعب المصري ليس مؤهلاً بعد للحكم الديمقراطي، لأنه قاصر عن استيعاب قيم الديموقراطية وإجراءاتها، أو أن الأخيرة تؤثر سلبا على مصالح أمنية حيوية، مرتبطة بالتركيبة الاجتماعية، في بعديها الديني والطبقي، أو التهديد الخارجي، أو أن هناك أمثلة لدول عربية اتخذت من الديموقراطية شكلها لا جوهرها، فبدا ما أقدمت عليه من انتخابات رئاسية أضحوكة ولعبة مكشوفة لا تنطلي على الأطفال. ما يبدو للوهلة الأولى أن السلطة السياسية في مصر ترى في "التدرج" الطريقة المثلى للإصلاح السياسي، بينما تنحاز الجماهير الغفيرة إلى النقيض، مطالبة ب"حرق المراحل"، باعتباره الوسيلة الأسرع والأنجع في تحصيل الإصلاح، بعد طول انتظار. والرؤية الأولى يتوهم أصحابها أن الشعوب قاصرة، وتحتاج إلى رعاية وتربية طويلة، حتى تتأهل للحكم الديمقراطي، أما الثانية فيوقن معتنقوها أن الناس وصلوا إلى حال من النضج يكفي تماما لأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. وبالطبع فإن القلة التي تتذرع بالتدرج في تطبيق الديموقراطية لا تروم إلا مصالحها الضيقة، أما الكثرة التي تبتغي حرق المراحل، فتنشد المصلحة العامة، وتبرهن على صدقيتها بالفترة الليبرالية التي عاشتها مصر قبل "الانقلاب الثوري" الذي وقع في تموز يوليو 1952. ومن دون استطراد فإن فقهاء السلطة في مصر يتناسون أن العالم مليء بنماذج لدول دخلت إلى الديموقراطية من أوسع الأبواب، وفي زمن يسير، من دون أن تصعد إليها درجة درجة، فأنجزت نظما سياسية ناجحة في شتى الصعد، رغم أنها قبل ذلك بسنوات قليلة، وربما بشهور، كانت ترزح تحت نير الاستبداد. وتطل هنا برأسها أنظمة عدة في جنوب شرق آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء، إذ قطعت دول المنطقتين أشواطا ملموسة في السنوات الأخيرة على درب الديموقراطية. ومما يدحض التذرع بعدم نضج الجماعة لتقبل الديموقراطية - وهي الذريعة التي يبرر من يطرحونها فكرة التدرج في الإصلاح السياسي - أن الاجتهادات العديدة داخل نمط الحكم الديمقراطي تتيح، بيسر شديد، تطبيق إحداها في أي مجتمع، من دون الارتكان إلى وهم الظروف الخاصة، أو الخصوصية المجتمعية والثقافية، واتخاذها حجر عثرة من دون الدخول إلى فضاء الديموقراطية، التي يجب أن نركض إليها لنعوض ما فاتنا، وما أكثره، ونلحق، ليس بالدول الأوروبية، بل ببعض الدول الأفريقية جنوب الصحراء!. وبالطبع فإن إجراءات الديموقراطية، في الحال المصرية وغيرها، واضحة، ولا يختلف عليها عاقلان، وأولها انتخابات رئاسية، مع تحديد مدة الرئاسة، وانتخابات تشريعية تتوفر لها ضمانات النزاهة وتكافؤ الفرص، ودستور يحترم الجميع، وامتلاك القدرة القانونية والفعلية على مساءلة من بيده مقاليد الحكم، وغياب أي قوانين استثنائية، تقيد الحريات العامة، خصوصاً حرية الرأي والتعبير، وحق تكوين الأحزاب والجمعيات، وحق التظاهر السلمي، ووجود قنوات مفتوحة بين القاع والقمة، والضرب بيد من حديد على الفساد والمفسدين، وإنهاء احتكار القلة في كل المواقع للسلطة والمال ومقدرات الوطن الآنية والآتية. * كاتب مصري.