يبقى العرب محكومين بالمعارك السياسية المفتعلة والمنهكة، وتنزوي في الظل التطورات الايجابية الهادئة التي تمثل في حقيقة الأمر "المعارك" الحقيقية التي يجب ان يخوضوها. كل الأنظار اتجهت الى "المبارزة" الجديدة المفتعلة بين كلينتون وصدام، بينما أهم تطور ديموقراطي عربي في العقود الأخيرة لا يظهر الا في الاجزاء السفلى أو الخلفية من كبريات الصحف العربية، ناهيك بالإذاعات والفضائيات. الجميع يتحدثون عن خطط كلينتون ومؤامراته وعن خطط صدام المضادة وتكتيكاته... طبعاً بالاضافة الى انباء المذابح في الجزائر، والاعدامات الأخيرة في مصر، الى آخر هذا النوع من العنف والعنف المضاد. ... ولكن، هناك في الزاوية القصوى من الوطن العربي... في المغرب الأقصى، في المملكة المغربية، هناك ملك دستوري عربي يكلف زعيم المعارضة، معارضته البرلمانية، تشكيل حكومة ائتلافية قد تُعلم العرب جميعاً - إذا فقهوا - امكان الائتلاف رغم وجود الاختلاف. انها قواعد اللعبة الديموقراطية... لا خفايا الحرب الكيماوية! فهل سيسجل التاريخ في النهاية، تاريخ العرب المعاصر بالذات، مقامرة كلينتون/ صدام... أم الرهان المتحضر بين الحسن الثاني وعبدالرحمن اليوسفي! ذلك هو رهان المستقبل. وتلك هي "أم المعارك"... إن كان العرب جديرين بخوض معارك التقدم الحقيقي في هذا العصر. طبعاً لن يتحول المغرب ببدء هذا الرهان، وبين عشية وضحاها، الى مدينة الفارابي الفاضلة أو الى "جمهورية أفلاطون"، حسب معايير فكرنا الطوباوي العربي. ستبقى مخاضات الولادة الديموقراطية الطويلة، ستبقى معاناة الأوضاع الاقتصادية غير المواتية، ستبقى آثار التعاطي التاريخي المتوارث بين السلطة والمعارضة، وقد لا تحقق المحاولة أهدافها منذ التجربة الأولى. فليس كالديموقراطية وليداً متعثر المخاض، وليس كائناً فائق الحساسية.. لكن رهان الحسن الثاني/ عبدالرحمن اليوسفي يبقى جديراً بكل اهتمام، بكل متابعة، وبكل تعاطف وتقدير. هل هي شمس العرب تسطع من الغرب؟ وبعد ان أدهشنا المغرب بنهضته الفكرية والثقافية الجديدة، يفاجئنا اليوم بهذه الولادة الديموقراطية المنعشة. ولا عجب فالديموقراطية رديفة الفكر. والفكر توأم الديموقراطية. إن تفاصيل هذا الحدث السياسي وجزئياته تم تناولها في بعض التقارير الصحافية، وفي سياقها المغربي المحلي. ما ينبغي ان نستخلصه هنا هو الدروس السياسية/ الفكرية التي يؤشر إليها هذا الحدث المغربي الفريد في تاريخنا السياسي العربي المعاصر، بعامة. لتكن هذه الدروس أمامنا، واضحة، وحاسمة، بلا لبس، ولا تقبل المواربة أو الغمغمة الايديولوجية يميناً أو يساراً... سلطة أم معارضة، على الصعيد العربي كله: أول هذه الدروس: ان هذا الانعطاف الديموقراطي الهام لم يكن حدوثه إلا في ظل حكم مستقر، ودولة قائمة ثابتة منذ مئات السنين. إنها دولة "المخزن" المغربية. الدولة المركزية المستقرة في المجتمع الحضري المديني المغربي... وأكثر من هذا: الدولة الملكية المتصلة الحلقات منذ أمدٍ غير قصير. ان التراكم السياسي المؤدي الى التطور لا يمكن ان يتحقق وينضج الا في ظل الاستقرار المتصل والمستمر... لا تأتي الديموقراطية بعد الانقلاب، ولا بعد الثورة المسلحة، ولا بعد حركات التخريب والعنف والارهاب... لا تأتي عبر انتقاص الدولة وانما عبر انماء الدولة وانضاجها تمهيداً لتطويرها نحو الغد الديموقراطي الأفضل. سارت الديموقراطية في بريطانيا خطوات حثيثة الى أمام في ظل الملكية المستقرة. واحتاجت الديموقراطية في فرنسا الى عقود من الانتظار، بعد الثورة الفرنسية، وهي أم الثورات الديموقراطية، لتتنفس من جديد. إذن، هكذا جدلية التاريخ، وجدلية التطور الديموقراطي، تطمئن الدولة الى شرعيتها، تؤكد سيطرتها كدولة لعموم المجتمع والوطن، ثم ينمو في رحمها القوي المعافى جنين الديموقراطية. تولد الديموقراطية من الاستبداد الواثق من نفسه وقد بلغ مرحلة الاستنارة والحكمة والنضج. نعم، بلا مواربة، ديموقراطية الدولة هي الوجه الثاني لاستبداد الدولة في بداية التطور. والتجربة المغربية ذاتها تثبت هذه الجدلية الدقيقة. ومن يعود الى تاريخ المغرب السياسي المعاصر يمكن ان يرى كيف خرج وليد الديموقراطية الجديد - متدرجاً - من رحم الدولة الحازمة والحاسمة... والواثقة من نفسها. عندما طرح كاتب هذه السطور هذه الفرضية قبل سنوات، قيل له أنه يبرر الاستبداد وينظّر له. كانت الغاية هي التنظير لولادة الديموقراطية حسب قوانينها في التاريخ... بلا طوباويات، أو شعارات، أو ايديولوجيا. وشكراً للمملكة المغربية - ملكاً ومعار ضة وشعباً - على إغناء التاريخ السياسي العربي، بهذا "المختبر" الديموقراطي البرلماني الفريد من نوعه. أما ثاني هذه الدروس: فهو الأهمية البالغة لأن يعي ويستوعب الحكم المستقر أهمية التطور السياسي المتدرج حسب متغيرات الزمن والمجتمع. الحكم المستقر: نعم. لكن الحكم المستقر والمستنير القابل للتطور نحو الأفضل حسب ظروف البيئة المجتمعية المحيطة... في الوقت ذاته. ان الحكم المستقر بلا تطور وبلا استعداد للتغيير اللازم في وقته ينقض نفسه بنفسه ويؤدي الى نهايته، في حركة المجتمع والتاريخ اذا لم تتحرك الى أمام سيسحبك الزمن الى خلف. لا توجد نقطة ثابتة في مسار الحكم والعمل السياسي لا تتحرك. ومن لا يتحرك يسقط بحكم جاذبية التاريخ المندفع الى أمام، أو يظل معلقاً في مكانه الى ان تنقطع به حبال الزمن، مثلما انقطعت بشاه ايران، وهيلاسيلاسي، وماركوس، وإمام اليمن... وقبلهم جميعاً لويس السادس عشر. إذا غاب الاصلاح حضرت الثورة... هذه "كلمة السر" في دنيا السياسية، إذا غاب الاصلاح المتدرج، الذكي، حضرت الثورة العنيفة المخربة... وهي تحضر - بصفة خاصة - اذا تأخر الإصلاح عن زمنه. وفي "المختبر" المغربي نرى ان الاصلاح الدستوري والسياسي قد مهد لهذا التطور الديموقراطي اللافت في المملكة المغربية وذلك بإصلاحات الملك الحسن في السنوات الأخيرة، فضلاً عن التدرج السابق، باستمرار التجربة البرلمانية والحزبية لعقود طويلة رغم محدوديتها... وفضلاً - على صعيد تاريخي أبعد مدى - عن ارتباط الملكية الدستورية المغربية بنبض شعبها، وبنبض التاريخ، منذ وقوف الملك محمد الخامس مع شعبه ضد الاستعمار الفرنسي وقيادته له - وهو في المنفى - نحو الاستقلال. إذن فهو الحكم المستقر والمستمر... نعم، لكن الحكم القابل للتطور والاصلاح والمتفاعل مع تطلعات شعبه. هما وجهان لعملة واحدة... فالحكم المستقر لا يستمر اذا فقد قابلية الاصلاح والتطور... هذا درس ثان لا ينفصل، بأي حال، عن الدرس الأول... واذا تم اغفاله، فلا عبرة بالدرس السابق. وما أكثر الدول التي استقرت لأزمان، بلا تطوير واصلاح، فطوتها يد الزمن المتحرك. وأما ثالث هذه الدروس وأكثرها دقة وحساسية فضرورة وجود معارضة سلمية مرنة متفهمة في اطار الشرعية السياسية والدستورية للدولة. لا يمكن ان تكون ديموقراطية بلا معارضة سلمية مشروعة. ولا تقبل أي دولة وأي سلطة بديموقراطية اذا جاءت من معارضة رعناء، أو شرسة، أو غير حسنة النية تجاه شرعية الدولة. في بريطانيا اسمها "معارضة صاحبة الجلالة". وفي المغرب قبلت المعارضة ان تكون قبل تكليف زعيمها "معارضة صاحب الجلالة" وأن يوصف زعيمها بأنه "الرجل المخلص لعرشه ومليكه"، بعدما اعتصر من تجربته حكمة التحول الى معارض مخلص... أجل، هكذا تتأسس الديموقراطيات في العالم المتحضر، وفي كل بلد يعمل على ان يكون. الديموقراطية اذا كانت وليدة الدولة المستقرة الناضجة، فإن قابلتها الماهرة، ومولدتها البصيرة، هي المعارضة السلمية المرنة المشروعة وطويلة النفس... التي تعرف متى تتقدم ومتى تتراجع... مثلما تراجع أربكان وحزب الرفاه في تكتيك سياسي حاذق رغم لاديموقراطية القوى المضادة. والمحك اليوم أمام المعارضة التي أصبحت مشروع حكومة في المغرب... هو كيف ستحكم. ففي امتحان الحكم تكرم المعارضة أو تهان، كما في كل امتحان. وعلى امتداد عالمنا العربي، يجمل بكل المتحمسين للديموقراطية، والمنتقدين للسلطات "غير الديموقراطية" ان يقدموا أنفسهم للدولة وللشعب وللعالم الخارجي كمعارضة ديموقراطية جديرة بهذا الاسم. فمقتل الديموقراطية ان تبدأ بمعارضة لاديموقراطية. وأما آخر هذه الدروس، وهو أشملها وأسبقها، فضرورة ان يصل المجتمع في نسيجه العام الى مستوى المجتمع المديني المدني الذي انصهرت فيه الولاءات والعصبيات القديمة - من طوائف وعشائر وبواد وأرياف - في بوتقة الحد الأدنى من المجتمع الوطني الحديث. وهذا هو الشرط التاريخي السوسيولوجي لنشوء الدولة الحديثة، ومجتمعها المدني، ثم نظامها الديموقراطي، وهو بحث طويل عالجناه في غير موضع... وعود على بدء، فإن الحدث المغربي هو في حقيقة الأمر حدث الأحداث في هذه الفترة... أما مغامرة كلينتون/ صدام فمن الزبد الذي سيذهب جفاء ولن يمكث في الأرض. يتحدثون عن عملية "رعد الصحراء" لكني أرى "وعد الصحراء" في الأفق المغربي البعيد. وإذا سئلت من المنتصر: كلينتون... أم صدام؟ فجوابي: الحسن الثاني وشعب المغرب!