يقترن اسم عبداللطيف اللعبي بالشعر، مع أن له محاولات لافتة للنظر في الرواية، فقد نشر سنة 1969 رواية تجريبية بعنوان "العينُ والليل" تميزت بنفَسها الشعري وعُنفها النصي الحامل لأجواء التمرّد والرفض في مغرب السبعينات، ثم نشر في 1989 "تجاعيد الأسد" التي يستوحي فيها تجربة الاعتقال التعسُّفي طوال ثماني سنوات... ومنذ أصدر اللعبي مجلة "أنفاس" بالفرنسية العام 1966، لم يكفّ عن كتابة الشعر والإسهام في بلورة ثقافة مغربية وعربية ذات توجُّه طلائعي. في روايته "قاع الخابية" التي نشرتها دار غاليمار منذ سنتين، وصدرت ترجمتها حسّان بورقية، عن دار الثقافة واتحاد كتاب المغرب، 2004. يتجه اللعبي الى السيرة الذاتية مستوحياً طفولته في فاس منذ ولادته سنة 1942 الى مجيء الاستقلال عام 1956 لكنها سيرة تتدثّر في الشكل الروائي وتُزاوج بين دَفْق الذاكرة وفطانة الوعي لتسترجع الفضاءات والطقوس والنماذج البشرية من طاحونة الزمن وستائر النسيان. يحرص الكاتب/ السارد على أن ينطلق من الحاضر قبل أن يستعيد طفولته الأولى. وهو حاضر يتوافق ويوم سقوط جدار برلين حين كان يزور منزل أبيه المريض في فاس والعائلة مجتمعة والذكريات تتوارد على بعض الألسنة... يقع بصر السارد على صورة أخيه الأكبر السي محمد فيسرح ذهنه مسترجعاً مساره وقصته مع زوجته الأولى التي اكتشف أنها لم تكن بِكراً وما أثاره ذلك من شكوك أَفضت به الى الطلاق والزواج مرة ثانية والانقطاع عن زيارة عائلته... تستغرق قصة الأخ الأربعة فصول الأولى قبل أن يرتاد عوالم الطفولة في "عين الخيل" ثم يعود اليها في الفصل الثامن عشر ليستكمل مشاهد الحياة العائلية المتفاعلة مع أحداث الكفاح الوطني من أجل الاستقلال، وينتهي النص ب"خاتمة" تُعيد السرد الى بدايته أي الى يوم سقوط جدار برلين والأب المريض يُعلّق على ما يبثُّه التلفزيون: "لا يمكن أن يكون إلا هِكْلر هتلر الذي أمر بإسقاط هذا الجدار... يبدو أنه لا يزال على قيد الحياة. ولكن الله أعلم" ص 274. على رغم أن إشارات كثيرة تُثبت التعاقد السّير ذاتي بين الكاتب والقارئ، فإن عناصر مُكوِّنة لبناء النص تؤشر على صوغ روائي واضح يُخرج هذه السيرة الذاتية من دائرة الكتابة السيرية التقليدية التي تحرص على مُطابقة المحكيّ للمعيش بطريقة حرفية مبالغة في الدقة والاستنساخ وتتجلى مظاهر البناء الروائي من خلال عنصرين فنيين: الأول يتمثل في تكسير خطية السرد وجعل الأزمنة متداخلة، متقاطعة، والثاني يتجلّى في تدخل الكاتب - السارد مُخاطباً القارئ ومقترحاً الاستغناء عن بعض المشاهد والطقوس لأنها لن تحمل اليه جديداً: "وصلت ليلة الزفاف". لن يضيف القارئ هنا شيئاً لمعرفته عن أطوار الحفل وتقاليده الثابتة... سيكون ثمة إهمال قصدي لما يلي: مشهد نَتْف الزغب والتطهير الشعائري... ص 38، أي أن الكاتب يمارس حقه في الانتقاء والحذف والتركيب والتخييل مُعرضاً عن مقتضيات السيرة الذاتية المألوفة. وهذا "البناء الروائي" أتاح تحقيق شيئين على الأقل: أ - انطلاق الكاتب من وعيه الحاضر، ووضع مسافة بينه وبين مرحلة الطفولة تسمح له بأن يتدخل ويَدُسّ ملاحظاته وتعليقاته. ب - تمثيل مظاهر الحياة اليومية والطقوسية والاجتماعية في مشاهد ومواقف تشخيصية تضطلع فيها ذاكرة الطفولة بتخصيص الزمن وتمييزه وذلك من خلال توظيف لغة الكلام والأمثال والعبارات المسكوكة لاستحضار أجواء فاس القديمة ورومانيسكها... على هذا النحو، تأتي سيرة "قاع الخابية" "مفردة بصيغة الجمع" لأن صوت "ناموس"، الطفل الذي كانه الكاتب، لا يتوضح ويكتسب خصوصيته إلا من خلال جوقة الأصوات الأخرى: الأم، الأب، الأخت، العم طويسة، الأخ السي محمد... وأيضاً من خلال تجليات الحياة في مدينة فاس لتلك الحقبة: العلائق داخل الأسرة، تعليم اللغة الفرنسية في المدرسة واكتشاف السينما، أيام النزاهة في ضواحي المدينة، شخوص المهمشين ميكو، الشيكي لقرع، عسالة صاحبة القطط...، حضور الاستعمار الفرنسي ومقاومته... إن تجاور الحكايات والأحداث والمشاهد الحيوية مع صوت الكاتب يوحي بقراءتين تتلامس زواياهما عند التأويل: 1 الطفولة بصفتها سابقة ل"تاريخ" الفرد ومحددة لبعض مساراته وهو ما يطالعنا في الصفحات التي تتحدث عن اكتشاف الطفل لعائلته وللعلاقة القائمة بين أفرادها، انطلاقاً من تلقيبه ب"ناموس" لخفّة حركاته، ووصولاً الى مرافقة أمه غيثه الى حفلة غناوة للرقص المحموم. ويأتي الالتحاق بالمدرسة ليفتح باب المعرفة واسعاً أمام ناموس الشغوف باللغة الفرنسية ودرس الأشياء والجغرافيا، بل ان المدرسة هي التي تشرعه بفرديته وبحريته المحفوفة بالقيود: "تتقدم السنة ويستقر ناموس في حياته الثانية التي ولَّدت فيه ما لم يعهده من قبل: إحساسه بالاختلاف. أفعمه ذلك سروراً مشوباً بالقلق، فمنذ أن نطق السيد فورنييه عالياً باسمه، الى يوم الزهو الذي سلّمه فيه السيد بنعيسى كتابه الأول في مقابل عشر نُقط حسنة، يمكن القول ان الطريق التي قطعت هي التي تفصل بين العدم والوجود". إن تبرعم الذات هو نقطة الانطلاق للشعور بأن "تاريخ" الفرد المشدود الى الحرية والرغبة والحلم، يوجد في تعارض مع المواضعات الاجتماعية ومقتضيات التاريخ العام: "يعرف ناموس انه موجود بذاته، ويبدأ في تحسس كل القوانين التي تحكم حياته في البيت، في الشارع وحتى في المدرسة" ص 69. ولعل هذا الادراك المبكر هو ما جعل ناموس يتعلق بالشخوص الغريبة المخالفة لما هو مقبول وسائد. من ثم هو مفتون بعمه عبدالقادر الملقب ب"الطويسة" لأنه يشرب الخمر ويعيش حياة بوهيمية عازفاً عن الزواج، ومتابع في الأزقة لكل من ميكو الذي هجر عائلته الثرية وآثر التسكع والتشرد، و"الشيكي لقرع" المرأة المهبولة ذات الكلام الجريء، وبوتسابيحات المكسو بالسّبحات، وعسّالة صاحبة القطط... ويضاف الى فضاء الأسرة وفضاء الأزقة والأسواق والمهمشين، فضاء فاس في تعبيراته الجماعية بعد نفي الملك محمد الخامس الى كورسيكا وتصاعد حركة المقاومة واكتشاف صورة الملك مرسومة على سطح القمر! يكتشف ناموس سحر السطوح وفضاءها المحرر الذي يغدو مجالاً للالتقاء والتحدي وتبادل التعليقات، بل وتعلُّم الانتماء الى الوطن من خلال الترميز وتوظيف الاستيهامات. ذلك ان السياق التاريخي المرافق لطفولة ناموس، هو بمثابة المشتَل الذي احتوى بذور الأفق الوطني المملوء - آنذاك - بالتطلعات والمُثل العليا... 2 البُعد الثاني للتأويل يتصل بوعي الذات المتحولة المعبَّر عنه، على مستوى بناء نص "قاع الخابية"، من خلال إسماع صوت الكاتب وايحاءاته لنا بأفق الدلالة، بعبارة ثانية، فإن اللعبي لم يكتب سيرة الطفولة استجابة فقط لذلك الحنين الى عوالم ساحرة مُتلألئة وجاذبة، وإنما أيضاً لاستكناه الأسئلة الغامضة التي رافقت حياته منذ مرحلة "ما قبل تاريخه الواعي" وصولاً الى زمن النضج وانجلاء الأوهام. ماذا تقول لنا، إذاً، هذه القراءة "الموجهة"؟ تُذكّرنا، في أكثر من سياق، بأن الطفل ناموس كان دوماً ميالاً الى التسكع واكتشاف المناطق المجهولة، مشدوداً الى الحلم والتحليق في سماوات بعيدة عن فضاءاته المألوفة: "يُراود ناموس إحساس بأن قوة مجهولة ترفع جسمه. لكن عوض أن تشده الى أعلى النخلة، وما وراءها، الى عين الشمس، تُلقي به في بُعد آخر. تنفتح نافذة المستقبل: في ما بعد، يقول في نفسه، سأذهب بعيداً، أبعد مما يمكن لقدماي أن تحملاني... وعندئذ سأصبح شخصاً آخر، سأتكلم بلغات أخرى بما فيها لغة الحيوانات... لن أخاف بعد ذلك أبداً لا من الليل المظلم ولا من الرعد. وربما سيكون بوسعي أن أُحل لأعود الى فاس من حين الى آخر، فالأمس قمة جبل "زلاغ" وأذهب للتحويم فوق سطح بيتنا وأقول لغيثة وإدريس: اعجبا من جنحيّ، ثم أولي وجهي صوب آفاق أخرى. بالفعل، سيُحلّق ناموس في سماوات عالية وستضم رحلته حيوات عدة تستظل بالجسد والذاكرة نفسهما. وعندما يتساءل الآن: "... مَن هو ناموس؟ الجواب الذي يفرض نفسه، غير متوقع لحسن الحظ، هو التالي: ناموس هو جدي الأول وابني" ص 269. بعبارة أخرى، يحس صاحب السيرة أن سمات ومظاهر من ميراث الأجداد قد تشخّص في حياته واصلاً الماضي بالحاضر، وفي الآن نفسه يفتح نافذة على المستقبل ليستشعر الصيرورة الآتية مع ابنه والتي لا تكتفي بالانتماء الى الطفولة الجميلة. هكذا تغدو عبارة قاع الخابية المستمدة من مَثَل مغربي مُقترنة بتلك الدلالة التي تحيل على ما هو مُنتقى ومصفّى أي ما يتبلور على نار هادئة ويمتزج بالأعماق متفاعلاً مع الطبقات السرية من الجسد والذاكرة ليُشكّل ذلك الذي لا تُطاوله الكلمات: الوجدان. إن رواية "قاع الخابية" تتألق بالطفولة وأحلامها وفاس وأجوائها المتفرِّدة وبشخصيتي الأم والأب المتميزتين، وتجسّد تلك العتبة الشائكة الفاصلة بين طفولة الممكنات اللامحدودة وفترة المعيش الواقعي الرازحة تحت وطأة القبول بالأمر القائم وبسطوة الزمن الغلاّب.