اعتمد محمد عز الدين التازي التجريب طريقة لكتاباته السردية دائماً. وفي رواياته بالخصوص حيث كان يعمل على اختبار العلاقة بين فسحة الخيال وحقيقة الواقع، وينصت إلى ممكنات السرد وإيهامه أمام قوة التاريخ اشتغل على تحديث تقنيات الكتابة التي يحاولها بالتجريب في مساراتها النصية، سواء بالإفادة من اختلاف طرق السرد أو تنويع الرؤى والمحافل، أو بإظهار الرواية خطاباً تتباين فيه السجلات والخطابات التي تحدد طبيعة الحوار واللغة في الرواية ذاتها. فمنذ روايته الأولى "رحيل البحر" 1983 إلى "زهرة الآس" الصادرة أخيراً في ثلاثة أجزاء منشورات سليكي إخون، 2003 مرت الكتابة بمحطات كان اختبار الأشكال وتنويع المادة الحكائية وفضاءات السرد وطرق الاشتغال عليها وسيلة الكاتب في تطلعه إلى بناء رواية جديرة بقيم التجريب والتحديث. تكشف ثلاثية "زهرة الآس" عوالم مختلفة صاغها عز الدين التازي انطلاقاً من فضاء مدينة فاس ومعرفته المكينة بمجريات تاريخها وببعض الأحداث التي عاشتها إبان مرحلة الاستعمار. فقد عرض على مدى أقسام الرواية لهذا التاريخ بتوليد نصي للأحداث التي تبدو بسيطة ذات سيرورة خطية تتماهى مع التاريخ المتداول في ذكر النوازل التي ظلت خالدة الأثر في مختلف أحياء وأبواب ومظاهر عيش سكان مدينة فاس التي كانت إلى بداية القرن العشرين عاصمة الدولة المغربية. تؤطر "زهرة الآس" مجموعة من العتبات الموجِّهة نحو فضاء الحكي وتجربة الكتابة برمتها. فالعنوان الرئيس" يحيل بتناص على عناوين كتب ألفت عن تاريخ مدينة فاس يشير المؤلف عند نهاية نص الرواية إلى استفادته من كتاب "جني زهرة الآس" للجزنائي، ومن كتاب "روضة الآس" للمقري، فيما تقسم العتبة الثانية العنوان الفرعي للقسم الرواية إلى ثلاثة أجزاء يحمل كل منها إشارة إلى حي أو معلمةٍ تاريخية في فاس: "واد رشاشة" و"جنان السبيل" و"دار الدبيبغ". فكل هذه العناوين إلى جانب عناوين فرعية أخرى أخذها الكاتب من أسماء الأبواب والأحياء مثل درب الروم، وعين الخيل، والبطحاء، والرصيف.. تتقدم كعتبات نصية تؤطر حضورَ الراوي في فضاء فاس وتعين أمام القارئ عناصر بناء متخيلها الروائي. تبدأ الحكاية بسيطة وتنتهي كذلك. فهي لا تخرج عن حلمٍ مفاده اختطافُ عبد الفتاح على مدى ثلاثة أيام على يد مجموعة من الفقهاء الذين حولوا بتعاويذهم وخطوطهم راحة يده إلى مرآة تعكس ناراً ومشاهد عدة كان يفترض أن تدلهم على مكان الكنز. ومن هنا لا يمثل شخص المخطوف عبد الفتاح الذي تتوسم جماعة الخاطفين بأن على يديه ستهتدي إلى كنز مرصود منذ تاريخ سحيق كما دلت الكتب والطلاسم على ذلك شخصيةً محورية للحدث وحسب، بل لكل الرواية. فهو الذي يعيش تجربة الخطف - في الزمان والمكان - وهو الذي يرى ويَرْوي ما يراه من حال مدينة فاس ومعيش الناس في حاضرهم وماضيهم. ينقل إلى الرواية مظاهر الحياة المجتمعية والتاريخية لمدينته، كما يستعيد مجموعة من الأحداث التي تحدد العلاقة بين أهاليها، أو بينهم وبين السلطة الحاكمة، أو بينهم وبين المستعمرين. وعلى رغم أن طريقة بناء الحدث وتوليده تبدو كلاسيكية حيث يكون خطف الراوي عنصرُ عرض المحكي وربطِ أشكال الخطاب الذي تداخلت عناصره وتعبيراته التي استدعاها الكاتب من الذاكرة الجمعية ومن كتابات التاريخ ومن الحلم الفردي لتشكلَ متخيلَ الرواية ونسيجها، فقد نجح الكاتب في تحويل شخصية عبد الفتاح إلى محفلٍ روائي يتشكل باستمرار كمكان قوة للخطاب الروائي في تنوع العناصر السردية التي اعتمدها، والموقع الذي خوله له الكاتب عبر ضمير المتكلم كما في السيرة الذاتية، وتوجيه كل الخطابات الأخرى في نص الرواية من خلال رؤيته وصوته. لقد كان قدر عبد الفتاح دائماً أن يروي المشاهد التي يراها وان يستمع إلى الحكايات والخرافات التي تنقلها إليه جدته العمياء ""لَلاَّ رَقّو" منذ أن بدأت تصطحبه ليكون دليلها في دروب وأزقة فاس، ورفيقها وهي تسيح على أطراف المدينة طلباً للبَرَكة بزيارة الأضرحة، هذا فضلاً عن معرفته بتاريخ الأماكن وقدرته على استبطان المواقف وقراءة مصيرها. إنه كامل الأوصاف بالنسبة للمهمة التي انتدب لها: البحث عن الكنز بالنسبة لأحداث الحكاية وعرض الرؤية الفنية على خلفية السارد العارف بكل شيء بالنسبة لبناء الرواية. في هذا المعنى يتماهى تاريخ المكان مع الوقائع المجتمعية والأحداث اليومية أو مع المصير الذي آلت إليه فاس. جسَّدَ الكاتب هذا التداخل بنقله محفل الحكاية من حاضر الكتابة - الحلم إلى زمن يُحْكى فيه الماضي الذي ما يزال مستمراً عند الراوي الأول، سواء في مقام الحكي ذاته أو في مقام الحلم والخطف. ففي كليهما بدت الرواية تاريخاً استدعى الكاتب أحداثَه قناعاً يحجب به قولَ الراهن، أو استعاده ليركب صورة عن الحاضر الذي لم يكن استمراراً للماضي وحسب بقدر ما كان مسخاً عنه في ضوء تشابه الظواهر وتحجر الرؤية إليها. فالرواية إذ تستعرض مجموعة من الوقائع التاريخية كنشأة مدينة فاس قريبة من نهر سبو على يد السلطان مولاي إدريس ق. 2 للهجرة ، وتذكر بعض الأبواب التاريخية العديدة ك"باب الشريعة" الذي أصبح يعرف "بباب المحروق" لكثرة أولئك الذين أحرقوا وعلقت جثثهم على أسواره كالثائر الشيعي محمد بن عبد الله العاضد، والكاتب الوزير الأندلسي لسان الدين ابن الخطيب أو تستعيد ذكر الوطنيين الذين قتلتهم أو غيبتهم سجون المستعمر" وتعمل على استعراض مظاهر الحياة المجتمعية في تحولات معيشها اليومي وتقاليدها وقيمها، تسعى إلى إقامة معادل فني لمظاهر الحياة والتاريخ في النص التخييلي. إيهاماً بحقيقة حدث الرواية وواقعة البحث عن الكنز وبحث الراوي عن فاس المتنائية. بهذا تعرض الرواية لفضاء واقعي ومتخيل في آن. واقعي لما يتضمنه من إشارات وأسماء وأحداث ارتبطت بها مدينة فاس، ومتخيل لما يسدله على المكان من وهم بحث الرواية - أو الراوي عن حقيقة بعض الأحداث التاريخية لتمريرها ضمن خطاب الذات الكاتبة المتأرجحة بين المعيش والذكريات وبين مقامات الحلم ومواجد الصوفية التي أَثْرَتْ لغتَها. أقصد لغة الرواية وهي تهتدي بدعوة ابن ضربان الشرياقي صوفي من اختلاق المؤلف ذاته لكل رواياته الأخيرة إلى الإنصات إلى كل أبواب وصوامع وأمكنة فاس باعتبارها نبضاً ورفيفاً لجسد المدينة: "فإذا سرت في فاس فتسمَّع ذلك النبض وذلك الرفيف، واعلم انك في فاس، وأنها تجيء إليك". وتعكس الروايةُ تعدد هذه الفضاءات - في الزمان والمكان - وتنوع محافل الشخصيات التي اعتمدها الكاتب لبناء عالمه بعدد من التقنيات التي أظهرت تعدد أمكنة السرد واختلاف مواقع الرؤية إلى الأحداث ضمن ما ينقله الراوي الرئيس "عبد الفتاح" أو جدته "لالة رقو". فعلى رغم أنه قليلاً ما تدخل غيرهما كمؤلف الرواية أو ضمِّنت بعض الكتابات التاريخية والأشعار المنقولة في مسار الحكي، فقد حمل خطابهما هذا الاختلاف والتعدد في زوايا النظر وتفسير الأحداث في شكل واضح عبر تنوع السجلات اللغوية التي اعتمداها للحكي. فقد استعاد الكاتب من خلال صوتيهما لغات مختلفة مستقاة من الواقع ذاته محكي الرواية الفصيح، محكي من كتب التاريخ، محكي دارج من الحياة المجتمعية، محكي من رؤى الحلم وتهيؤاته، محكي من سيرة الكاتب ذاته. كما استعاد عناصر من الذاكرة الثقافية تتجاوز مرويات التاريخ إلى استحضار مقاطع شعرية قديمة وموشحات وأبيات من نوبات الموسيقى الأندلسية ومن شعر الملحون الذي اشتهرت به فاس. التقت هذه التنويعات جميعها مع نَفسِ الكتابة وهو يتعالى في إيقاع صوفي الغرض منه تهيئ مقامات المعرفة وتسهيل أمكنة الإشراق للراوي حتى يترقرق السرد وتندفع فصول الحكاية. فالاستعانة بالسجل الصوفي يسمح للراوي بالانتقال بين مقامات الرؤية وبين محافل سرد الحكاية. كما يساعده على التحول من زمن الغائب إلى الحاضر، ومن مهمة البحث عن الكنز أو عن مدينة فاس في حالاتها العديدة إلى قراءة الماضي ورصد أثره المسوخ في أحوال الناس وفي حياة فاس المفقودة بين الأحداث والشخوص في شتى تطلعاتهم ومآربهم. من الممكن اعتبار "زهرة الآس" روايةً لكتابة فاس برؤية فنية تقول تشعب مظاهر الحياة وقوة التاريخ فيها. فهي نقد للمصير الذي آلت إليه المدينة منذ احتلالها سنة 1912 بتوقيع اتفاقية الحماية، وإعادة لتشكيل تاريخها الحديث بالاعتماد المتزامن على الذاكرة الفردية وعلى الكتابات التأريخية. وقد سمح هذا لتاريخ الذوات الفردية والمجموعات والفئات الاجتماعية العديدة المنسية في التواريخ الرسمية من الظهور في مسرح الحدث كما كانوا فاعلين تاريخيين، ضمن وظيفتهم كفاعلين محتملين في متخيل الرواية. غير أن استغلال التازي للتاريخ يقف عند جعل الأحداث خلفية لبناء تخييلٍ روائي. فالشخصيات تتحرك ضمن نسيج مُعدٍّ بكثافة بدلالاته الاجتماعية والرمزية وهو يتخطى فعل الاستعادة والتسجيل إلى بناء كون روائي تلتقي فيه مصائر الناس والملوك، الأمكنة والأحداث، الثورات والاضطرابات، الأمان الذي تحمله كل مدينة للمقيمين فيها والمعاناة الملمة بين الحين والآخر.. ولعل "زهرة الآس" لمحمد عز الدين التازي لا تبتعد في ذلك عن كل الرواية العربية المتصلة بالواقع، بل تقترب منها حينما تجعل من استعادتها للتاريخ المخطوف وللقيم التي مسخها تبدل الوعي وانكسار الأحلام كما يشهد على ذلك مصير مدينة فاس معلقة بين زخم تاريخها المنسي وبذخها الرمزي وبين مشاهد المسخ وامتداد الموت، طريقة لمعرفة الواقع وللشهادة على لحظة ارتجاج الوعي به.