لكارل ماركس عبارة شهيرة يكثر اقتباسها، عادة كطرفة، وعن غير فهم، مثلها في ذلك مثل أكثر الاقتباسات الشائعة عن ماركس. ففي "الثامن عشر من برومير للويس بونابرت" يذكّر بقول هيغل بأن الأحداث والشخوص الكبرى في التاريخ عادة ما تتكرر مرتين. ويضيف ان هيغل قد نسي ان يقول: في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كملهاة. ويبدو انه كُتب للتاريخ العربي المعاصر لا ان يبرهن فحسب على فراسة تلك الملاحظة العابرة لماركس، ولكن أن يضفي عليها بعض التعديلات المهمة أيضاً. حضرتني تلك الملاحظة في تحققها العربي الخاص لأول مرة في عامي 1990-91، وذلك حين شرع صدام حسين في مغامرته الكبرى، الملتبسة جغرافياً، فذهب يحرر فلسطين غربا بغزو الكويت جنوباً. وحينها لم تخفَ على بعض المحللين العرب أوجه الشبه الكاريكاتورية بين واقعة صدام والايقاع بعبد الناصر في ربيع 1967. الحلقات الأساسية للروايتين تكاد ان تكون هي نفسها، مع فارق بارز هو ان الرواية الأولى تلعب على مسرح شكسبيري كبير والثانية علي مسرح فكاهي ساخر من نوع ال"فود فيل": استفزاز ثم استدراج ثم مقامرة كبرى مدفوعة بدواعي توكيد الزعامة القومية وتوطيد دعائم الهيمنة المحلية ثم ايقاع في الفخ المنصوب، ثم مواجهة لم تُنوَ ولم يُعد لها، وصولاً الى النهاية المحتومة الماثلة في هزيمة ساحقة ومدمرة. المسرح معد سلفاً. فقد سعى صدام بوعي كامل الى تقلد عباءة عبد الناصر، وبخاصة بعد ان نصب نفسه، ونصبه العرب الرسميون، حاميا لحمى الجبهة الشرقية للأمة في وجه "الغزوة الفارسية-المغولية". عبد الناصر، بطل الرواية الأولى، بطل تراجيدي بكل معنى الكلمة، جاء في طبعته الصدامية معكوسا، مقبّحاً الى أقصى حد، كما لو كنا نشهده من خلال مرآة من تلك المرايا المحدبة أو المقعرة التي يضحك الأطفال لرؤية أنفسهم من خلالها في دور الملاهي. وهكذا تجري كافة حلقات الروايتين، دراما كبرى في الأولى تلعب كملهاة ساخرة في الثانية: سير لورانس اوليفيه يلعب دوره محمد هنيدي، همام في أمستردام يتم تسويقه كهاملت أمير الدانمرك، وقس على ذلك: الحرب ضد ايران دفاعا عن المصالح البترولية الغربية و"الرجعية" العربية مقابل حرب اليمن تهديدا لتلك المصالح بالذات، اغلاق مضائق تيران وطرد قوات الأممالمتحدة من سيناء تحت دعوى تأكيد سيادة مصر علي أرضها ومياهها الإقليمية وفقاً للقانون الدولي مقابل غزو واحتلال ونهب دولة ذات سيادة بدعوى تحقيق الوحدة العربية وخرقا لكل قانون غير قانون الغاب. وفي الحالتين تبدأ الرواية بضغوط واستفزازات استعمارية، وفي الحالتين يلجأ المستفزون الى تحقيق أقصى استخدام ممكن للدعاية الديماغوجية الجوفاء للطرف العربي المستهدف من قبيل الالقاء باليهود في البحر واحراق اسرائيل بالكيماوي المزدوج، لتصويره كخطر داهم ومنفلت العقال. ومن خلال التصريحات وتسريب المعلومات وغيرها من وسائل توظيف أجهزة الاعلام، تُضخم قوة الخصم العربي المستهدف تضخيما هائلا ويُدعى تصديق اساطيره عن نفسه، تجهيزا للضحية للذبح. في الحالتين يلعب تضخيم قوة الطرف العربي المستهدف دورا "مزدوجاً" بالغ الأثر. فهو يوفر أولا مبرراً للعدوان درءأ لخطر داهم، ويمكّن من استثارة النزعة الحربية والتعبئة والحشد للعدوان محليا وعالميا. لكن هنالك دورا آخر أكثر التواءً وهو الماثل في تكريس الخداع الاستراتيجي للخصم المقامر، والمزيد من استدراجه للمواجهة المعروفة نتيجتها سلفا. والقصد هنا هو ايهام الطرف العربي المستهدف بأن الخصوم مقتنعون فعلا بقوة أوراقه، يحسبون لها ألف حساب، فيكفي ان يستمر في اللعبة بعض الوقت حتى ينسحبوا جارّين أذيال الخيبة والعار. ولأن الأمر من وجهة نظر الطرف العربي قمار في قمار، فهو لا ينوي المواجهة فعلا ولا هو مستعد لها، فيندفع مشاركا بحماس منقطع النظير في تضخيم قوته والمبالغة في ما يشكله من خطر، تكريساً وتوطيدا للهيمنة القطرية والقومية وتوهّماً بإخافة الخصوم وردعهم. وهكذا يتكرر السيناريو ذاته: مساومات ومفاوضات ينطلق الطرف العربي المستهدف فيها من تصديق لا يصدَق لدعايته الديماغوجية الجوفاء نفسها، أو على الأقل من تصديق لتصديق الخصوم لها ولمبالغاتهم المقصودة لما يمثله من خطر مخيف. مفاوضات ومساومات يستخدمها الخصوم للحشد للعدوان العسكري والدعائي المرتقب، في الوقت نفسه الذي يسدون فيه على الطرف العربي المستهدف كافة سبل التراجع دونما اراقة قاتلة لماء الوجه. وأخيرا تأتي الضربة الساحقة، حيث لا قاهر ولا ظافر ولا كيماوي مزدوج. جيوش جرارة طالما شكلت عماد الأمة ومصدر زهوها وفخارها وأداة سحق ارادة مواطنيها، تُدمَّر في لحظات. في أثناء حرب أفغانستان وبينما القنابل والصواريخ تنهال على واحد من أفقر بلدان العالم وأكثرها تخلفا، بدأت بعض أجهزة الأعلام الأميركية تتحدث عن مخاوف من امتلاك بن لادن وقاعدته أسلحة نووية صغيرة يمكن استخدامها في مواجهة قوات الولاياتالمتحدة وحلفائها ممن لم يكونوا قد شرعوا بعد في حربهم البرية. واستكمالا للسيناريو الهزلي، سرعان ما صرح مسؤول في الادارة الأميركية بأن مثل ذلك الاحتمال غير مستبعد، ليبلغ الهزر منتهاه فيصرح المليونير المجاهد بأنه بالفعل يمتلك مثل ذلك السلاح الفتاك ويدرس استخدامه في اللحظة المناسبة. ولم يمض اسبوع حتى كانت كابول قد سقطت، والمجاهدون يفرون الى الكهوف. مأساة حزيران يونيو 1967 تكررت على أيدي صدام حسين كملهاة مزرية في 1990-91. لكن الملهاة تعود لتتكرر كملهاة أشد سخفا وابتذالا المرة تلو المرة- على أيدي بن لادن وعصابته في 2001 وعلى أيدي صدام وطغمته للمرة الثانية في 2003، وفي تنويعة علي اللحن في سودان البشير هذه الأيام. وهذا ما يفوق خيال أمثال هيغل وماركس. وفي كل مرة نصدق ان الهزل جد، وأن الملهاة مأساة، وأن محمد هنيدي يمكنه ان يلعب دور لورانس اوليفييه. يذكرني ما سبق برواية فولكلورية مصرية قصّها علي صديق قبل عدد من السنوات. فيحكي انه في زمن كانت للحارات بوابات تقفل عليها ليلاً، و"فتوات" يحمونها من غارات "العربان" ومن فتوات الحارات المجاورة، يُروى عن حارة استشعر سكانها الأمان لفترة من الزمن فكفوا عن دفع الأتاوة للفتوة المقيم. وفي ليلة من الليالي استيقظوا على أصوات زعيق وشجار وخبط عنيف استمر لبضعة ساعات آتيا من "الخرابة" الواقعة في الحارة. ومع طلوع الفجر اذا ب"الفتوة" يأتي من "الخرابة" ممزق الثياب، ليروي لسكان الحارة انه كان ينازل، طوال الليل، عفريتاً في تلك "الخرابة". ومن ليلتها و"الفتوة" ينازل العفريت كل ليلة والسكان يدفعون الأتاوة راضين صاغرين، والعبرة للسامعين. ولسنا بحاجة الى كثير من الخيال لكي نتعرف على المنازلات الليلية ل"الفتو" مع العفريت في الحرب الأميركية المتواصلة على الإرهاب في حارتنا العالمية المعولمة في مطلع القرن الواحد والعشرين. ويبقى السؤال: لماذا يا ترى نصر نحن على مواصلة لعب دور العفريت؟