كلّهم جاؤوا... "انّهم جميعاً هنا". كلّهم أو لنقل معظمهم : ويني Winnie وصوتها الآتي من حفرة خارج الزمن مسرحية "آه الأيام الجميلة"، هام Hamm وهيم هو Him ونل Nell وكلوف Clove، من "نهاية اللعبة"، وحتّى بوزو Pozzo العبد - الفيلسوف "في انتظار غودو"... كلّ تلك الشخصيات الهاربة من نصوص صموئيل بيكيت، استدعتها المخرجة اللبنانية سهام ناصر الى الخشبة، سلّمتها لممثلي وممثلات "المختبر المسرحي" الذي تديره ضمن اطار "معهد الفنون" في الجامعة اللبنانية، ليصنعوا بها مسرحيّة تخصّهم وتشبههم. مسرحيّة "كلّن هون" التي فازت أخيراً بالجائزة الكبرى في "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي"، قائمة إذاً على اعادة امتلاك بيكيت، من قبل مجموعة من الممثلين اللبنانيين الشباب، تحت اشراف مخرجة تبدو آخر ورثة مسرح التجريب والاختبار كما انتجته بيروت في سبعينات القرن الماضي. مشروع سهام ناصر في مسرحيّة "كلن هون" إنّهم جميعاً هنا التي عرضت قبل أيّام في بيروت ضمن تظاهرة "زيكو هاوس" الهادفة الى احياء صالة "إسترال" في شارع الحمراء مصطفى يمّوت، رولا قبيسي، هو اعادة امتلاك بيكيت، انطلاقاً من زمان ومكان محددين... والايغال في عالم الكاتب الايرلندي البارز الذي يجمع السخرية السوداء والمرارة اللذيذة واليأس المطلق، من قبل فنانين جدد يختبرون أدواتهم ولغتهم، ويبحثون عن مكانهم ودورهم، في بيروت، مدينة العبث بامتياز، مدينة كل الاخفاقات والآفاق المسدودة... وعاصمة العالم البيكيتي. تفكيك الحركات واللغات سهام ناصر معروفة بعملها في "المحترف". من هذا المكان تغرف طاقة اعمالها، تعدّ الممثلين، وفيه تطوّع طلاباً وفنانين شباناً، تستدرجهم الى المسرح، الى تلك اللعبة الهاذية التي تميّز أسلوبها منذ اكتشفها الجمهور العريض، مطلع التسعينات، في "الجيب السرّي" كوريغرافيا كانتوريّة - نسبة الى المسرحي البولوني الشهير - مستوحاة من "الحلزون العنيد" للجزائري رشيد بوجدرة... وانطلاقاً من هذا "المحترف" تشكلت ملامح تجربتها التي تعتبر رافداً مهماً، في مسرح ما بعد الحرب في لبنان. ومن المحطات الاساسيّة لتجربتها تلك، عمل مستوحى من "الجريمة والعقاب" بعنوان "جاز"، وعمل آخر يجمع بين الكاتبين مارغريت دوراس "هيروشيما... حبيبي" وجان بول سارتر "جلسة سريّة" والسينمائي آلان رينيه، وجاء بعنوان "لا مفرّ". تستوحي سهام ناصر النصوص دائماً أو تتلاعب بها، لكنّها لا تقدّمها كما هي. تستقي منها عناصر ومحاور، شخصيات ومناخات وأفكاراً... وفي مختبرها تركّب، مع الممثلين، معادلات كيميائيّة خاصة انطلاقاً من جسد الممثل، فتكون النتيجة طقوساً احتفاليّة تعتمد الصورة والايقاع، وتتعمّد تفكيك الحركات واللغات. وفي عملها الجديد تمضي المخرجة اللبنانية في هذا الاتجاه، بل تزداد راديكاليّة في خياراتها. تركّز أساساً هنا على تقنية الارتجال، تاركة لممثليها أن يتفاعلوا مع التراث البيكيتي لاعادة انتاجه من خلال ذاتيتهم وحساسيتهم و... مفرداتهم. النتيجة مجموعة مونولوغات واسكتشات وابتكارات ومشاهد وحالات شعورية مبعثرة، تتولّى هي تنسيقها بمهارة قائد الإوركسترا الذي يتقن فنّ التوليف والتنسيق والتوضيب. ولعلّها تفضّل الجانب المشار إليه على سائر عناصر الكتابة الاخراجيّة. حين نستعيد اليوم مشاهد "الجيب السري" بعد عقد ونيّف على تقديمها، نتذكّر تلك المهارة في ادارة المجموعة وتشكيل اللوحة وضبط الايقاع، وخلق الخط التصاعدي للاحتفال. الليلة نرتجل في "كلن هون"، تتوالى "النمر" جمع"نمرة"، كما يقال عن فناني السيرك، متفرّقة في البداية... كل ممثّل يخلق ايقاعه، ويركّب "شخصيته"، ويحدد موقعه من العمل والمجموعة، وينسج أبعاد خطابه تحت عين الساهرة التي تقترح الوجهة وتحرّك خيوط اللعبة . ثم تتشابك الخطابات الفرديّة، تتقاطع... تتواجه... تتكامل، لتشكّل منظومة مشهديّة واحدة. تتعامل سهام ناصر مع الممثل بتعبيرها، "كمجموعة دلالات وجمل في تشكيل مسرحي". الجانب الارتجالي واضح في العرض، يمكن لأي خريج معهد تمثيل، أو أي مشاهد عبر في أستوديو للتمارين التمثلية، أن يراه بالعين المجرّدة. إننا أمام ممثلين يبحثون عن شخصيات، وأمام شخصيات تبحث عن دور في السياق العام. "الليلة نرتجل" على طريقة بيرندللو، والليلة نحاول أن نصوغ عرضاً مستحيلاً. فلا يبقى سوى مجموعة تمارين، أخذتها يد متمرّسة، وصاغت منها بمهارة، احتفالاً مشهدياً. هذا الاحتفال - اذا وضعنا جانباً عنصر النضج الدرامي - يبدو متقناً الى ابعد حدود: من الاضاءة الى تقطيع العرض، وخلق المشاهد المتوازية، وتواتر الصمت والصخب، الشعر والهستيريا، مروراً بالشريط الصوتي، بالكلام والآداء، وتنظيم الحركة والرقص... وبهذا المعنى يأتي عرض سهام ناصر "بوليفونيا" كما تحبّ أن تحدده، أي متعدد اللغات المسرحية. لكنّه احتفال ناقص، فهو أكثر من مجموعة تجارب ومحاولات وتمارين، وأقلّ من عمل مسرحي! في "كلّن هون" يلتقط المتفرّج حالات ومناخات، لكنّه لا يتميّز الاشارات التي تحملها كلّ شخصيّة، ولا الوجهة التي تقصدها. لا يفهم العمل، إلا بصفته عرضاً مستحيلاً، مؤجلاً، لا طائل تحته... هو غاية في حدّ ذاته. اللعبة المشهدية تبدو الأصل والصورة... المرجع والحقيقة. حقيقة ضبابيّة ومشوّشة... ولا تفضي الى مكان. "خلص... خلصنا... رح نخلص" تقول احدى الممثلات. نتميّز نثار كلمات من نصّ نعرفه جيداً: "هذا يوم سعيد... يوم سعيد آخر... آه كم الايام جميلة!". من "نهاية اللعبة" هناك البرميل، قمامة وملجأ من العالم. وتتعاقب الجمل التي يخيّل للمرء أنّه سمعها من قبل في مكان ما: "ما في شي فكّر فيه... نظري ضعيف. بس عم اسمع منيح". أو "لازم يصير شي... يتغيّر شي. ما بقى فييّ حرّك جسمي متل قبل... لما كانوا اجريي معي". يخضع الكلام الى حركة تكرار دائري، في ايقاعات مختلفة، وتوظيفات متقابلة من ممثل الى آخر... وكذلك الأمر بالنسبة إلى بعض الحركات التي تبدو كاللازمة طوال مدّة العرض. هذا التوليف الميكانيكي يوغل في حصارنا وسط عالم عبثي متحلل، لا يصل فيه المعنى. الاصوات والتعبيرات، تنتقل من مقطوعات "سولو" الى محاولات أوركسترالية ناشذة. حركات آلية وحوارات عبثية وضحكات هستيرية تتكرر وتتقاطع وتتجانب. كلمات أفلت منها المعنى، ومشاهد لا علاقة ظاهريّة بينها، تتجاذب وتحاول تكوين الرؤية وصياغتها وايصال المعنى، بل ال"لامعنى"، إلينا... مجرّد أكسسوارات حيّة تحاول المسرحية أن تجسّد حالات الوحشة والغربة واستحالة التواصل ولاجدوى الاشياء. تجسّد انسحاق الفرد وضياعه وعجزه عن التعبير، وارتهانه حتّى العبودية للآخر... فهو تحت رحمة هذا الآخر، يتوسل منه قبلة، اعترافاً، نظرة، رداً. أمام وخلف الشاشة السوداء ثم البيضاء، تتحرّك مايا زبيب ببطء، تتكلّم في الميكروفون الذي يبدو مستعاراً من "مسرح التحريض والدعاية" Agit Prop. يذكّر الميكروفون ظاهرياً بنوع من المسرح السياسي الذي يتوجّه الى المشاهد لتوعيته. ظاهرياً فقط، ذلك أن الشكل هنا لا علاقة له بالخطاب. تردد الممثلة النص نفسه بوتيرة متغيّرة، من الهمس الرومانسي الى الانفلات اللاعقلاني الهاذي. في موازاتها يقول زياد شكرون نصّه الحركي... كأنّه يتجاوب معها بجسده، يواجهها، يردّ عليها، يعارضها، يجسّد كلماتها. في مشهد آخر، يتكرر، تكون في مواجهة ليلى دانيا حمّود الباكية على دميتها المحطّمة. أو تلجأ مايا خلف الستار فلا يبقى سوى صوتها. إنّها الراوي، والعمود الفقري، والذريعة الدرامية التي تربط المشاهد في ما بينها. مشاهد داخليّة لكائنات تائهة معذّبة، لحظات وعناصر من الحياة اليوميّة الحميمة بعد أن تمّ تحويرها. السطل الذي ستسلّط عليه الاضاءة الأخيرة في العرض، المكنسة الكهربائيّة التي يمتد شريطها حبلاً كأنّه للعبد "بوزو"، إلخ. تتحرّك على الخشبة شخصيات أفلتت من الكتب، تنشد الخلاص من جحيم الوجود ولاجدواه لكن سهام تعرف، وممثلوها، وكلّنا نعرف أن لا خلاص. شخصيات محاصرة في حركاتها اليومية وواقعها القاتم وأفقها المسدود... الشخصيات؟ بل قل الممثلين الذين شاركوا في خلق العرض: بترا سرحال، حسن حمود، شادن بو دهن، نغم شمس الدين. تتحدّث سهام ناصر في البرنامج عن "نكهة بلاستيكيّة" و"انطباعات حسية". مرة أخرى تثبت أنّها من أقرب المخرجين العرب إلى مسرح العبث واللامعقول... يبدو الممثلون أحياناً مجرّد أكسسوارات حيّة في رؤياها الكوريغرافية التي تلعب على الحركة والجمود، الضوء والعتمة... وتستعمل الرقص الآلي، السطحي... للامعان في تفكيك الحركة والعرض واحساسنا بالعالم. يرقص الممثلون على موسيقى محمد عبد الوهاب : مقدّمة أغنية أم كلثوم "أنت عمري" ماذا تفعل هنا؟ تتردد منها جمل موسيقيّة مقتطعة هنا أو هناك، ضربة عود أحياناً. وحين يفقد العرض زخمه، ويشحّ الوحي... تستنجد المخرجة ب"مسرح الصورة". تجمع شخصياتها في فلاشات فوتوغرافيّة على أنغام Happy birthday mister President فيحوم طيف مارلين مونرو وبوب كينيدي في الجوار. اللعبة مستحيلة مشاهد جامدة تتشكّل أمامنا، على شكل ومضات سرعان ما تذوب في الظلام. لقطات متتالية تأتي لتختتم المسرحيّة... لتقول إن العرض لم يكتمل. تبدو اللعبة المسرحيّة من أساسها "مشكوك في أمرها"، لعبة مستحيلة كلما تقدّمت قليلاً تنكسر. لذا نرى عناصر الواقع تجتاح اللعبة وتقتحم الخشبة في استعمالات غريبة. كأن العرض هو غاية بحدّ نفسه، و"الحقيقة الوحيدة" الممكنة. هذه اللوحات التي عبرت في شكل اعتباطي، ليست سوى تنويعات على الوحشة والغربة والزمن الصعب وفقدان التواصل... كأن سهام تقول بإسم جيل كامل، وعلى طريقتها، موت المسرح، موت المعنى. هل فشلت المسرحيّة أم أن "كلّن هون" مسرحيّة عن الفشل والاستحالة، وجدت في عالم بيكيت اطاراً نموذجياً لها، ومادة خصبة يمكن للفرقة أن تغرف منها شخصيات ومناخات وحالات؟ و"استحالة العرض"، بالمعنى الأشمل، عنوان يختصر المرحلة، ويعبّر عن حال جيل كامل في لبنان والعالم العربي... في حاجة الى كسر القوالب، وتجاوز الاطر المتعارف عليها، وتخطي حالة الجمود الابداعي التي تكبّل اللحظة، جمالياً وفكرياً. أم أن العرض الذي قدّمته سهام ناصر، ليس سوى نتيجة موقّتة لمشروع قيد التشكّل والتطوّر work in progress، مسودّة عمل مسرحي علينا انتظاره؟ إذ ان ورشة العمل مع الممثلين مستمرّة ومتواصلة مفتوحة على الاحتمالات وقابلة للتطوّر والنضج؟ لكنّ كلمات بيكيت الحاسمة تصلنا من مكان بعيد، في الغيب ربّما : "لقد انتهت اللعبة... إنتهت حقاً. إنّها نهاية اللعبة"!