مسرحية «خطوات» التي كتبها صموئيل بيكيت عام 1975 في سياق نصوصه المسرحية والسردية القصيرة، اختارها المخرج السوري الشاب يوسف الكبرا ليقدمها عرضاً مسرحياً (مسرح دوار الشمس - بيروت) مسنداً شخصيتها الوحيدة الى الممثلة كارول عبود. هذه الشخصية التي تدعى ماي او «م» هي في الواقع شخصيتان إذا اعتبرنا الأم الحاضرة -الغائبة التي تخاطبها وتتحدث معها شخصية حقيقية ومتوهمة في آن. ويمكن القول إن ماي شخصية منفصمة بين ابنة وامها، على ان تظهر الأم بصوتها الآتي من إحدى الزوايا المجهولة أي من اللامكان. غير ان صوت الأم هو صوت ماي الابنة، تحاورها وكأنها تحاور نفسها بصوتين شاءتهما كارول متنوعين بطبقتين ونبرتين، تجسدان الابنة والام، الابنة التي يفترض ان تكون في الاربعينات من عمرها والام التي يفترض ان تكون في التسعين وربما في التاسعة والثمانين. وعلى الطريقة البيكيتية تشكك الأم والابنة بعمريهما، وهو الشك الذي يطاول وجودهما أيضاً، تُرى، ألم يقل بيكيت: «الكلمة المفتاح في مسرحياتي هي: «يمكن». بدت المسرحية هي مسرحية كارول عبود، الممثلة القديرة التي عرفت كيف تختصر الأم والابنة جسداً وصوتاً. جسد ماي الابنة منفصل عن صوت الأم، الابنة جسد وصوت، والأم صوت. لكنّ كارول وحدتهما في هذا الانفصال عبر أدائها العالي الذي منح الأم ما يجعلها أمّاً عجوزاً والابنة ما يجعلها ابنة تعيش طيف الأم في قرارة روحها ولا وعيها. إنها تتحاور مع نفسها، بصفتها الأم والابنة، وقد جسدت ببراعة ما يسميه بكيت «عمل الفم». تماماً مثلما فعل كراب، «بطل» مسرحية «الشريط الاخير» الذي تحاور مع نفسه عبر الشريط المسجل. كثيرة هي الشخصيات التي شاءها بكيت في مسرحياته ونصوصه أصواتاً او التي اختصرها بصفتها اصواتاً. يمكن تذكر مسرحية «الترنيمة» ايضاً والمسرحيات الاذاعية، حتى في نصوصه «فصول بلا كلام» تحضر الاصوات بصمتها او خرسها الكلي. التزم المخرج والممثلة ما امكنهما «تعليمات» (أو توجيهات) بيكيت السينوغرافية التي غالباً ما يصر على استهلال نصوصه المسرحية بها. تسع خطوات ظلت كارول محافظة عليها في حركة مشيها المتعاكس، روحة ومجيئاً. هذا هو الايقاع الذي لا بد من ان يجسد رتابة الجو. الخشبة فارغة، شق يطل منه ضوء في إحدى الزوايا، الجرس برنته الوحيدة يمزق هذا الليل الذي قد لا يكون ليلاً، ماي او كارول، بمعطفها الطويل، تواصل خطوها الايقاعي بوجهتين متعاكستين، كما شاء بيكيت وكما تحس هي. «هل كنت نائمة؟»، تسأل امها، فتجيب: «نوماً عميقاً». ثم تضيف: «سمعت صوتك في نومي العميق». ثم يتواصل الحوار متقطعاً وكأنه انفاس متقطعة حول: الحقنة، التقرحات، الشفتان الجافتان، الجسد البارد... ويردد صوت الأم: «الوقت لا يزال باكراً». لكن الأم تعتذر من الابنة: «سامحيني، لقد انجبتك متأخرة». إنها الابنة تحاور نفسها على لسان الأم او الأم تحاور نفسها على لسان الابنة، لا يهم ان يتضح الأمر. الأم تقول لها إنها تسير هنا الآن، وتضيف في ما يشبه الاشارة التي تلقي ضوءاً على ما يسميه بيكيت «الممكن»: «كله في رأسك التعيس». لعل الابنة تتكلم مع صوتها الذي في الرأس، في زمن غامض تلتبس فيه الاعمار والامكنة. مسرحية «خطوات» هي مسرحية كارول عبود التي عاشت الشخصيتين بجسدها وروحها وصوتها. إطلالة باهرة في وسط هذا الضوء الظليل الذي يحيط بها: وجهها، عيناها، قسماتها التي تعكس حقيقتها الداخلية او بالاحرى حيرتها الداخلية، صمتها في احيان، وحشتها، سأمها... نجحت كارول في تجسيد هذه الشخصية المنفصمة، معتمدة الاداء الداخلي المرهف والعنيف برهافته، وما يسمى «النص» الداخلي الذي كتبته بالسر ليوازي نص بيكيت. أما الإخراج فكان عادياً، جسّد النص كما هو من دون تخييل ولا لمعات. وقد يشعر المشاهد ان المخرج عمد في احيان الى ما يسمى «الاخراج القرائي» اكثر مما اعتمد الاخراج المشهدي والبصري. ولا بد من الاشارة الى الضعف الذي اعترى ترجمة النص الاصلي الى العربية، وهو يحتاج الى المزيد من العمل خصوصاً على الارهافات اللغوية التي يعتمدها بيكيت وهي ليست سهلة كما يظن المترجمون.