تقول نرجس نجار: "لا أملك غير الكاميرا لكشف البثور التي تشوه وجه الإنسانية، ولا أعرف غير السينما لكشف البؤر الموبوءة. أفلامي ذات صوت عالٍ، ليس لي إلا أن أعمل وأعمل، ولن أكف عن إزعاج العالم بأفلامي حتى يفيق من حال اللامبالاة، ولا يبقى كائنٌ ما تحت الاقدام، إلا أن يهب لينتزع حقه كاملاً كإنسان ومواطن". درست المخرجة الشابة الإخراج في باريس وفي بداية عملها عام 1994 انجذبت الى السينما التسجيلية وانجزت ثلاثة أفلام، وفي 2001 تحولت الى الفيلم الروائي وانجزت ثلاثة أفلام متوسطة الطول: "السماء السابعة" و"مرآة الانسان" ثم "برابولا" عام 2003، وذلك قبل أن تحقق فيلمها الروائي الطويل الأول "العيون الجافة" 120 دقيقة في العام ذاته والذي قامت بكتابته وإنتاجه. قطيع عند أقدام جبال أطلس، تمتد أرض البربر، تقبع قرية يغشاها الغموض، قرية منسية يطويها الصمت منذ مئات السنين، وكأن البشر هجروها. تهيم هالة سهام آسيف في العشق على وجهها، وجه مطبوع بطابع صخري، تحاذي الجدران الحجرية عبر مدقات القرية، تنطلق الى الرابية الخضراء، تتجاوز حوضاً مغروساً بالشرائط الحمر!! تسبح روحها الضالة في الفراغ اللانهائي على الطريق المهجور، تطل عجوز من نافذة العربة ألقت السنون ظلالَها على جبهتها فغاصت عيناها في حلقة داكنة. تعبر القنطرة القديمة مصطحبة السائق الشاب، فتصطدم بوجه هالة التي لا تتعرف اليها ولا ترحب بمقدم عجوز مثلها، بينما تتعرف إحدى النساء في الوافدة الجديدة الى مينا رقية التي خلفت طفلتها هالة لتقضي عقوبة 25 عاماً في السجن لاحترافها الرذيلة فتتكتم على أمرها. تتتابع المشاهد من دون حدث يجذب انتباه المتفرج او شخصية تتعاطف معها في سياق قصة باهتة المعالم، فيقع المتفرج في دائرة الحيرة، إلا أنه يجد نفسه مشدوداً للمكان، مثاراً بغموض الشخصيات، شغوفاً بكشف ما تطويه من أسرار، يجتذبه جوٌ اسطوري نجحت المخرجة في رسمه، أشبه بالتراجيديا اليونانية إذ تساق الشخصيات لمصائرها. يلحظ المتفرج أن مجتمع القرية من النساء خال تماماً من الرجال والنساء بلا ملامح. كائنات غير متمايزة تسكن جحوراً منحوتة في الجبل، يتحركن في جماعات كما القطيع. يجتهد المتفرج ليكشف سر القرية. قرية يحترف نساؤها الرذيلة وإن هجرتهن الفتنة وخاصمتهن فنون الغواية. يعشن عليها من دون غيرها من الحرف، من قديم الزمن الى يومنا هذا يقصدهن الرجال في موسم معين من أيام السنة. تخيرت المخرجة موسم الركود لتصوير قصة الفيلم في مواقع الأحداث الطبيعية، وشارك في الأداء بعض نساء القرية. ويحسب للمخرجة أنها اقتربت من النار من دون أن تحترق اذ تصنعت فيلماً عن البغايا من دون مشهد واحد للبغاء. تعمدت ألا تستغل من أقوالها وتخيرت عن وعي اسلوباً في العرض لا يهبط بجمهورها الى هوة الغواية بل صعدت به ليشهد حالاً مشينة تشوه وجه الانسانية في عصر الفيمتوثانيه والاستنساخ. بلا استثناء للقرية مثل غيرها من المجتمعات "ريس" يحكم ويتحكم، تفرض هالة قانونها فيطيعونها من دون اعتراض. وتلزم كل امرأة في القرية بغرس شريطٍ احمر في موقع عند مدخل القرية، إشارة إلى فقد عذريتها فيثمر حفلاً للشرائط الحمر على واجهة القرية، ويقضي قانون القرية بالحفاظ على مولودة أنثى والتخلص من المولود الذكر عند البئر إذ يمثل عبئاً اجتماعياً ومالياً في مجتمع يرتزق من جسد النساء. أما من يتقدم بهن العمر فيتخلص منهن خلف حاجز الثلوج على قمة الجبل. ولهالة ابنة وحيدة على عتبة البلوغ وهي غير مستثناة من القاعدة، يكون على زينا رفيقة بلحاج ان تمر بطقوس فقد العذرية لتنخرط في المهنة. تأتي مينا بأفكار تنويرية للقرية البائسة، حصاد العمر والمعاناة والألم، فتتدخل بشكل حاسم لحظر ايذاء زينا، وتعمل على تحويل توجهات النساء في القرية ليتكسبن من حرف توفر لهن حياة كريمة وهو ما لم يحدث في الواقع. تعترض هالة على هدم النظام الذي وضعته للقرية والقانون الذي ينظم العلاقات فيها وتقاوم مشروع تحديث القرية الذي اتت به مينا بتدريب النساء على صنع السجاد على الأنوال اليدوية. يتمثل تحدي المخرجة الشابة وكاتبة السيناريو في اختيار طائفة من النساء المفتقدة مسبقاً تعاطف الجمهور فتطوف حولها وتطرح احوالها في أول أفلامها ايماناً منها بدور المخرج في فضح الخبايا المسكوت عنها كخطوة أولى لاستئصالها - كان من اليسير على المخرجة أن تسير في نهج المنتفعات بقضايا المرأة فتقدم موضوعاً - على أهميته - بات مستهلكاً كما الزواج المبكر وقهر الزوجات والتسرب من التعليم. تقول نرجس نجار: "في البداية فكرت في أن أحقق فيلماً تسجيلياً عن نساء تلك القرية لقد باتت تلك النوعية من الافلام شريطاً فاعلاً في المؤتمرات كافة، ولكنني رأيت أن الفيلم التسجيلي ينطق بلسان الشخصيات التي يصورها. وكنت أود أن أطرح رؤيتي الخاصة للحال فكتبت قصة "العيون الجافة" بعد زيارة الموقع ومعايشة النساء. وقد استوحيت قصة الفيلم من صبية قابلتها في القرية وتحدثت معها سمعتها تتكلم وتتألم وتحلم، كانت قريبة لشخصية زينا انما المثير للدهشة ان أولئك النسوة يحملن نفوساً نابضة بالحياة خلف ملامحهن الجامدة وقلوبهن الباردة... نفوس تحلم بالحب.