من يسمع ويقرأ تحذيرات الدول الأوروبية لرعاياها في السعودية بتوخي الحيطة واتخاذ إجراءات احترازية في تنقلاتهم وداخل مساكنهم، يتأكد كم أن هذه التحذيرات بعيدة من الواقع عندما يشاهد الحال التي يعيشها السعوديون والمقيمون الأجانب، خصوصاً بعد الإجراءات الاحتياطية التي اتخذتها الأجهزة الأمنية السعودية لمنع العمليات الإرهابية عبر إقامة حواجز تفتيش أمام المنشآت الحساسة والمجمعات السكنية الكبيرة، فيما تجوب الدوريات الأمنية الشوارع والأحياء على مدار الساعة. والواقع أن التفجيرات الإرهابية التي شهدتها خصوصاً مدينة الرياض لم تؤد إلى إشاعة القلق في نفوس السعوديين الذين لا يزالون يمارسون حياتهم الطبيعية ويرتادون في شكل طبيعي الأسواق المركزية والشعبية والمطاعم وقصور الأفراح والحدائق وصالات الفنادق. والأمر نفسه ينطبق على الأجانب المقيمين في المملكة الذين لم تسجل أي حركة مغادرة غير عادية في أوساطهم، بل إن معظم هؤلاء أكدوا أنهم لا ينوون مغادرة السعودية وأنهم في صدد تجديد إقاماتهم. "الحياة" تجولت في المدن الرئيسية: الرياضوجدة والدمام، وزار مراسلوها الأسواق والمجمعات السكنية وحواجز الرقابة الأمنية والتقوا عدداً من المواطنين والأجانب. أكد غربيون يقيمون في السعودية أن الأعمال الإرهابية التي شهدتها البلاد أخيراً والتحذيرات التي تطلقها سفارات بلدانهم من حين لآخر لن تدفعهم إلى المغادرة. وشهدت السعودية منذ 12 أيار مايو الماضي أعمالاً إرهابية استهدفت مجمعات يقطنها أجانب أودت بحياة العشرات ما دفع السلطات الأمنية إلى شن حملات مكثفة اعتقلت خلالها المئات من المشتبه فيهم وعثرت على كميات كبيرة من الأسلحة. وأعقب تلك الأحداث نوع من الانزعاج إثر قيام قوات الأمن بتشديد الحراسة على المجمعات السكنية وإقامة حواجز تفتيش على الطرق وبالقرب من المنشآت الحيوية تحسباً لأي أعمال جديدة. لكن المنطقة الشرقية بدت بعيدة من عمليات التفجير ما منح بعضاً من الطمأنينة للمقيمين العرب والأجانب لا سيما أولئك الذين يقيمون في مجمعات سكنية. وتؤكد يولاندا، وهي بريطانية تعيش في السعودية منذ أكثر من 15 عاماً، أنه لم يحدث أن "شهدت ظروفاً مشابهة". وأضافت: "الوضع بدا مقلقاً في البداية مما جعلني أتردد في البقاء، لكنني لا أهم بالمغادرة حالياً". وعما إذا كانت تفكر في البحث عن مسكن آخر خارج المجمعات تجيب: "أبداً، فالحراسة المشددة المفروضة على المجمع الذي أقيم فيه تمنحني المزيد من الاطمئنان والراحة إذ إن هناك من يسهر لحمايتنا ونحن نقدر ذلك". وتؤكد أن سكان المجمع الذي تقيم فيه يشاركونها الرأي تماماً وهم مطمئنون للإجراءات الأمنية المكثفة. وتقطن يولاندا في منطقة تكتظ بالمجمعات السكنية وفي واحد من أكبر المجمعات التي يسكنها أوروبيون في شرق السعودية. ولا يحتاج زائر تلك المنطقة إلى وقت طويل ليكتشف أنه وسط واحدة من أشد المناطق حراسة، فالحواجز الخرسانية تحيط بالمجمعات من كل جانب إضافة إلى الوجود الأمني المكثف، إذ يتمركز أفراد من قوات الطوارئ على أهبة الاستعداد في شكل دائم مزودين بأجهزة لتصوير السيارات والكشف عن أي أسلحة أو متفجرات. وقرب تلك المجمعات يقع سوق الراشد، أكبر الأسواق في المنطقة والتي يرتادها المواطنون والمقيمون على حد سواء. وتؤكد كولييزا، وهي ممرضة أميركية تعمل في أحد مستشفيات المنطقة أن الوضع "آمن جداً ولم أشعر بأي خوف أو رهبة من الخروج إلى التسوق". وأوضحت: "أمضيت خمس سنوات من عمري في هذه المنطقة واعتبرها من أجمل السنوات، ولدي العديد من الأصدقاء سعوديين وغيرهم ولا يوجد ما يشعرني بالقلق". وأضافت: "أتلقى التحذيرات التي تصدر وأقدر ذلك، لكنني أحب عملي ولن أتخلى عنه". أما عاطف فلسطيني فيقول إن السعودية "تبقى آمن من أي مكان آخر في العالم حتى وإن قام إرهابيون بمحاولة زعزعة الاستقرار"، ويعتبر أن البيانات التحذيرية التي تطلق من السفارات الغربية "تعبر عن وجهة نظر متشددة إلى حد ما لا سيما في ظل النشاط الأمني الملحوظ والذي استطاع أن يحاصر تلك المجموعات ويقضي على الكثير منها". وتعد المنطقة الشرقية إحدى أكبر المناطق التي يقطنها أجانب لوجود شركة "آرامكو السعودية" ومدينة الجبيل الصناعية فيها، وتصل أعداد هؤلاء إلى أكثر من 750 ألفاً يعمل جزء كبير منهم، خصوصاً الغربيين، في الشركات ذات العلاقة بالنشاط النفطي والصناعي، فيما تشمل أعمال الآسيويين والعرب كافة المجالات. وفي الرياض، يؤكد جان فرنسي الذي كان يجلس وحيداً في أحد المقاهي وسط العاصمة أنه مرتاح ومطمئن ولا يفكر في الانتقال من الرياض. وقال إنه يعمل في إحدى الشركات الفرنسية وأنه هنا منذ أكثر من خمسة أعوام "وإذا أتيحت لي فرصة تجديد عقدي سأفعل وسأحضر عائلتي أيضاً". وأوضح أنه يسكن في مجمع سكني شرق الرياض ولا يفكر في الانتقال إلى أي مكان آخر، وعما إذا كان منزعجاً من الإجراءات الأمنية عند مدخل المجمع السكني، قال: "إنها تعيق تحركي وتحد من الزيارات المتبادلة مع الأصدقاء. لكنها وجدت لحمايتي، ولهذا لست منزعجاً كثيراً". ويقول البريطاني جو الذي التقيناه في مركز للتسوق شمال الرياض مع عائلته والذي يعمل فني مختبرات طبية ويقيم في المملكة منذ نحو عامين أن التفجيرات الإرهابية جعلته يفكر في العودة إلى بلاده التي لم يزرها منذ قدومه إلى السعودية، "ولكنني عدلت عن الفكرة، لأن الإجراءات الأمنية المتخذة فيها الكثير من الجدية والحرص على سلامتنا. كما أن في السعودية الكثير من الأماكن التي تستحق الزيارة، والسعوديون شعب طيب ومضياف". وأردفت زوجته بالقول: "أكبر دليل على الأمن هو أننا نتسوق هنا في هذا الوقت المتأخر نسبياً". حراس المجمعات السكنية في جدة يرفضون الحديث إلى الصحافيين، وهم يخضعون لتعليمات مشددة بعدم الإدلاء بأي معلومات عن سكان المجمعات وجنسياتهم، والإبلاغ مباشرة عن أي تصرفات مشبوهة. ويقول ناصر الرشيدي حارس مجمع "الأسرة السعيدة" في حي الحمرا في جدة: "إننا نتخذ كل أسباب الحيطة والحذر للحفاظ على الأمن وحماية سكان المجمع وسد أي ثغرات أمنية بالتعاون مع الجهات الأمنية". ويؤكد مستشار السفارة البلجيكية سامي البني الذي يسكن في أحد المجمعات في حي الحمرا ل"الحياة" إن المستوى الأمني في المجمع "جيد"، والدورية الأمنية التابعة لشرطة المنطقة تقوم بمهماتها في متابعة الحال الأمنية على مدى 24 ساعة. وقال إنه يتلقى تعليمات أسبوعية من سفارة بلاده باتخاذ الاحتياطات اللازمة وعدم الخروج إلى الأماكن العامة إلا في الحالات الضرورية. وأوضح: "في الحقيقة لم نتلق أي تهديدات إرهابية، والوضع الأمني في المجمعات يسير للأفضل". وأضاف: "غالبية سكان المجمع الذي أقطنه من العرب والمسلمين الذين يحملون جنسيات مزدوجة". ويقول إبراهيم حسين دغريري، وهو حارس أمن في مجمع "درة الحمراء" في جدة، إنه يتلقى تعليمات مشددة من إدارة المجمع باليقظة وعدم تقديم أي معلومات لأي شخص كان ما لم يكن معروفاً. وعلى بعد نحو 500 متر من المجمعات السكنية التي زرعت في أرجائها كاميرات لرصد التحركات داخلها وحولها، كانت تقف دورية أمنية تراقب حركة السيارات الداخلة والخارجة من المجمعات عن بعد. ورفض عناصر الدورية الحديث بسبب تلقيهم تعليمات بعدم الإدلاء بأي معلومات إلى وسائل الإعلام. وقال مصدر أمني ل"الحياة"، إن زيادة الإجراءات الأمنية جزء من الحيطة والحذر وضرورة يتطلبها الموقف الراهن، نافياً أن تكون وراءها تهديدات إرهابية جديدة ضد منشآت ومرافق حيوية. وأوضح: "الاحتياطات المتخذة ليست غريبة، وإنما المستغرب هو إذا لم تكن موجودة". وتنتشر في جوار مكتب "الحياة" في جدة حواجز خرسانية ضخمة، فيما تتمترس سيارة عسكرية من نوع "هامر" أمام البوابة الرئيسية لسكن الأطباء ومنتسبي مستشفى الملك فيصل التخصصي، وعلى متنها جنود متأهبون من "الصاعقة" ببذلاتهم الصفر المموهة. وأوضح مصدر أمني في إدارة سكن المجمعات في شرطة حي الصفا في جدة "أن إضافة الحواجز الخرسانية وتكثيف الحراسات الأمنية يرتبطان بأهمية المواقع واحتمال تعرضه للخطر"، مشيراً إلى أن إدارة كل مجمع سكني مطالبة بزرع كاميرات مراقبة عند المداخل الرئيسية والفرعية للمجمعات لكشف أي تحركات مشبوهة وغير طبيعية. ويقول عصام سالم 47 عاماً، الذي يسكن حي الحمراء في جدة الذي يضم عدداً من المجمعات السكنية وقنصليات أجنبية من بينها الأميركية، إن الحي لم يشهد إجراءات أمنية مشددة كالتي يشهدها حالياً منذ أن سكن فيه عام 1980، مؤكداً أن السكان لا يشعرون بالانزعاج من تشديد الإجراءات لأنها وجدت من أجل حمايتهم "من الإرهابيين المتسترين باسم الإسلام وهم يسيئون إلى الدين". وتنتشر نقاط التفتيش على امتداد الطرقات السريعة بين مكةوجدة وبين جدة والمدينة، فيما تجوب دوريات أمنية الطرق للتأكد من السيارات المسروقة والمشبوهة التي عادة ما تستخدم من قبل الخلايا الإرهابية.