عندما زار رئيس الوزراء الاسباني خوسيه ماريا أثنار ليبيا قبل فترة، لم يكن الحدث يتعلق بأول زيارة لمسؤول أوروبي رفيع فقط، وانما كان إيذاناً بدخول منطقة الشمال الافريقي في خانة الاهتمامات الأميركية. ومثل الدور الذي تلعبه بريطانيا في الخليج والشرق الأوسط، يبدو أن اسبانيا ستحذ حذوه في المنطقة المغاربية، وسيكون المتضرر الرقم واحد فرنسا المحاصرة في محيطها بين مدريد ولندن. لكن الأميركيين الذين باتوا يعتمدون على أنفسهم في إدارة الصراعات اختاروا منطقة الشمال الافريقي من حلقتها الضعيفة. ولا يوازي الرهان على جماهيرية الزعيم الليبي معمر القذافي سوى الاطمئنان الى عدم حدوث اختراق حقيقي للخلافات القائمة بين الجزائر والمغرب. فحيث يوجد التوتر توجد الحسابات الأميركية الدقيقة. ومشكلة الفرنسيين أصحاب النفوذ التقليدي في المنطقة المغاربية انهم أضاعوا فرص الانفتاح على ليبيا ولم يفلحوا في تذويب خلافات المغرب والجزائر. لكن الثابت ان تلويحهم بمواقف أكثر تأييداً للمغرب في نزاع الصحراء مردّه الى خشية انفلات المنطقة المغاربية على خلفية الطموح المتزايد لاسبانيا الذي مهد الطريق للانفتاح الأميركي على ليبيا. كما سيكون له أكثر من دور في الخاصرة الجنوبية لأوروبا على الضفة الأخرى للبحث المتوسط. ولا يبدو أن الانشغال الاسباني بما يحدث راهناً في الجزائر مبعثه المخاوف من عدم استقرار قد يؤدي الى تضرر المصالح الاسبانية المعتمدة على غاز الجزائر فقط، وانما البحث في صيغة جديدة ممكنة لمعاودة ترتيب العلاقات مع بلدان الشمال الافريقي. والظاهر ان مدريد التي لم تلتفت الى مساع أوروبية في حل الأزمة التي نشأت مع الرباط بسبب الموقف من السيادة على جزيرة "ليلى" قبل أكثر من عام ونصف العام أدركت ان الوساطة الأميركية التي قادها وقتذاك وزير الخارجية الأميركي كولن باول بهدف العودة الى الوضع السابق كانت أكبر من حلحلة الموقف بشأن جزيرة غير مأهولة. ففي الاستراتيجية الأميركية ارتبط الشرق الأوسط دائماً بشمال افريقيا، وكان الموقف الليبي حاجزاً أمام سريان مفعول ذلك الربط، أقله من الناحية الجغرافية. لذلك يمكن القول اليوم بأن الطريق أصبحت سالكة من الرباط الى القاهرة عبر قطار سريع تقوده هواجس ما بعد انهيار النظام العراقي السابق. قبل أيام أعلن العقيد القذافي ان قضية الصحراء ستكون ضمن أولويات القمة المغاربية التي تستضيفها بلاده. وبارتباط مع ذلك أقدم نجله الساعدي على التوسط في اطلاق سراح أسرى مغاربة في تيندوف جنوب غربي الجزائر، فيما تؤكد وقائع تاريخية ان القذافي أوقف الدعم عن جبهة بوليساريو يوم أبرم اتفاق الوحدة مع المغرب. وفي الارشيف المغربي الذي لم يذع الى اليوم نداء من الزعيم القذافي الى جبهة بوليساريو يحضها فيه على تشكيل حزب معارض داخل النظام المغربي. والرابط بين هذه المواقف ان ليبيا التي كانت تسعى لمن يتوسط لها لدى الأميركيين بات في امكانها ان تتوسط لاحقاً في قضايا اقليمية. وليس صدفة ان الاسبان كانوا أول من اهتم بالانفتاح على طرابلس بعد الحرب على العراق، كما انه ليس صدفة ان الفرنسيين أصبحوا أكثر بعداً عن الصورة في ليبيا، فالقذافي لن ينسى ان الفرنسيين كانوا يدعمون تشاد في حربها مع الليبيين، وما يعنيه الآن ليس تقليب صفحات بعض الحقوق التاريخية وانما الاندماج في التحولات العاصفة. وما مفارقات تلك الحرب أنها جعلته يعيد حساباته الافريقية التي التقت هذه المرة أو تكاد مع حسابات اللاعبين الكبار. ففي شريط الصحراء الكبرى الممتدة من مصر الى موريتانيا يوجد ما يغري بانتقال منطقة الشمال الافريقية الى جزء من واجهة الاهتمامات الأميركية.