الثلثاء، السابع عشر من كانون الاول ديسمبر 1997، الساعة السادسة والنصف مساء، بثت محطة TV TOKYO في اليابان برنامجاً من الرسوم المتحركة يحمل عنوان "وحش الجيب"، بطله جرذ "طيب القلب" اسمه بيكاشو. وفي حلقة تلك الليلة، يبعث البطل من عينيه اضواء للقضاء على الفيروسات الموجودة في أحد أجهزة ألكومبيوتر... ومضات من الألوان الزرقاء والحمراء والبيضاء اجتاحت الشاشة بلا توقف لوقت غير قليل. بعد المشهد، وبحسب احصاءات رسمية، ظهرت علامات تشنج في الأطراف عند 700 من المشاهدين الصغار، بالاضافة الى حريق في العينين، صعوبة في التنفس، حالات صرع، إضطرابات في الجهاز الهضمي وغياب عن الوعي أثناء البث. وشكّل هذا الحادث مؤشراً جديداً على مدى الضرر التي يمكن ان يلحقه التلفزيون بالأطفال. حين يشاهد الطفل التلفزيون، يبحث عن التسلية أو القوة كحل سحري لمواجهة ما يصادفه في اكتشافه المبتدئ للحياة المحيطة فيه. هذا ما يظهر من إجابة الأطفال عموماً على السؤال حول ما يهمهم على الشاشة الصغيرة. يدرك محمد 10 سنوات مثلاً أن القوة هي التي تحكم هذا العصر وأنها العنصر الذي يحتاجه كي يكون أكثر ثقة بنفسه في مواجهة العالم المحيط به. بطله المفضل طرزان "لأنو أوي"، على حد تعبير محمد، المترسخة لديه فكرة أن ما يحتاجة هو القوة في مجتمع لا مكان فيه للضعفاء. وإذا كانت قوة طرزان هي التي تشد محمد، الذي يتمنى أن يكون مثله، الى الشاشة، فإن الملل هو ما يدفع زينب 7 سنوات الى المشاهدة: "بكون زهآنة من اللعب فبروح بحضر رسوم لأنو بتسلى". وتضيف زينب أنها تحب أن تقضي وقتاً أطول في مشاهدة التلفزيون لولا ممانعة أهلها. أما لارا 6 سنوات فتلجأ الى الشاشة الصغيرة بحثاً عن عامل القوة وعن التسلية في آن، اذ ان برنامجها المفضل يحمل عنوان "قوة الفتيات" power of girls ولا ترى ما يمكن ان تفعله "لما بابا وماما بيروحوا عالشغل". وعندما تسألها إن كانت تحب أن تكون مثل الفتيات الثلاث بطلات برنامجها المفضل، تضحك مستغربة وتشير الى ما معناه ان هذا من باب "تحصيل الحاصل". وفي الاجمال، اجابت غالبية الأطفال بين الخامسة والسابعة، الذين سألتهم "الحياة" عن اسباب حبهم للتلفزيون، بالاشارة الى عاملي التسلية والقوة. وفيما يدرك محمد، كما زينب، ان ما يشاهدانه مجرد خيال لا يمت الى الواقع بالكثير من الصلة، تلتبس الأمور على اطفال آخرين على غرار نور 7 سنوات التي لا تزال تسأل أمها: "ليش هيدا شكلو هيك؟" وتضطر الأم في كل مرة أن توضح الأمر لإبنتها، من ان ما تشاهده مجرد رسوم غير موجودة في العالم الواقعي. ولكن كل الأطفال لا يلجأون الى السؤال لغرض الفهم، بل الى التجربة. أي ان الطفل يصل احياناً الى القناعة بأن في امكانه القيام بالأعمال نفسها التي ينفذها بطله الوهمي. ويشار في هذا السياق الى ما تنقلة وسائل الاعلام حول العالم دورياً، من حوادث ابطالها او ضحاياها اطفال تأثروا بما شاهدوه على التلفزيون. ومن ذلك حوادث اطلاق نار او تنفيذ اعمال "خارقة"، الخ. هذا طبعاً لا يمنع امكان ان يلعب التلفزيون دوراً ايجابياً في تنمية قدرات الطفل ومساعدته على ادراك الواقع. داليا 5 سنوات مثلاً، كما تقول والدتها، تأثرت بمشاهدة البرامج المنطوقة باللغة العربية الفصحى، ما ساعدها على نطق العديد من العبارات بصورة سليمة، على غرار "الى اللقاء"، "مرحباً يا أصدقاء"... وعلى رغم ان قناعة الأم بايجابية الأمر قد لا تكون في محلها، على اعتبار ان اكثر البرامج المنطوقة بالعربية الفصحى والمعروضة حالياً على التلفزيون هي المسلسلات المكسيكية المدبلجة، وهي ليست بالضرورة أفضل نموذج لتعلم اللغة، الا ان الامكانات التي يمكن ان يوفرها التلفزيون في الميدان التربوي تبقى كبيرة. غير ان لذلك شروطاً ليس آخرها رقابة الاهل. يقول زهير 38 سنة، وهو أب لأربعة صبيان أكبرهم في العاشرة، انه يجنب اطفاله البقاء طويلاً امام الشاشة الصغيرة عبر تجنيبهم الملل ومحاولة ملء اوقات فراغهم الدراسي في نشاطات ينظمها لهم. يقابل هكذا وضع، حالات هي الأكثر شيوعاً، وتتمثل في اعتماد الأهل على التلفزيون "للراحة من الاطفال"، كأن يطلبوا منهم المشاهدة، بما يقلل من حركتهم ومتطلباتهم. ويبدو ان التلفزيون يستلب عقول الأطفال الى حد، يجعل بعضهم يستغله في اتمام بعض المهمات. هناء 34 عاماً، ام لثلاثة اطفال، تقول انها تلبس اطفالها وهم امام التلفزيون، لأنهم يكونون بلا حركة... وكأن ذلك وضع ايجابي! وفي جميع الحالات، فان مشاهدة التلفزيون من قبل الاطفال تطرح مشكلة تتعلق بنموهم، وتالياً بمستقبلهم. وبصرف النظر عن نوع البرنامج المشاهد، فان فعل المشاهدة، في حد ذاته، يؤثر على الطفل في شكل مؤكد، على ما يمكن استنتاجه من كتاب الأميركية ماري وين، "الاطفال والادمان التلفزيوني" صدرت ترجمته العربية عام 1999 في الكويت ضمن سلسلة عالم المعرفة. وتتلخص نظرية وين في القول ان الوقت الذي يمضيه الطفل امام الشاشة الصغيرة، مهما كان مضمون البرنامج الذي يشاهده، هو وقت مهدور في استلاب فكري، يمكن للطفل خلاله ان يشغل ذهنه في تعلم الكثير من الامور. وليس المقصود هنا التعليم المدرسي، وانما اكتشاف العالم المحيط بمادياته واخلاقياته. بالفعل، تقول وفاء 25 عاماً، ام لطفل في الخامسة: "حينما يشاهد رامي التلفزيون، أناديه مرات عديدة قبل ان ينتبه ويجيبني". هذا الوضع يمثل خطورة كبرى على الطفل لجهة نموه ومستقبله، اذ ان ما يتعلمه الطفل من ولادته الى سن البلوغ، يفوق كل ما يتعلمه بعد ذلك مهما امتد عمره، على ما تؤكد دراسات كثيرة. رانيا قاسم - الجامعة اللبنانية