لو سئلت عن أفضل اختراع عرفه القرن العشرون لأجبت من غير تردّد: التلفزيون. ف"العلبة" الصغيرة هذه كانت "حدث" طفولتنا والمراهقة وكانت أجمل هدية قدّمت إلينا ومارست علينا سحرها، إذ بهرتنا وأثارت في عيوننا فتنة لم نعرف ما يضاهيها. ولا أدري لماذا، حين أتحدث عن التلفزيون اختار صيغة الجمع وكأن "العلبة" الصغيرة هذه لم تكن حدثاً فردياً بل جماعياً. وربما لأن اللحظات الأولى التي اكتشفنا فيها التلفزيون كنّا جماعة وأقصد جماعة من الأطفال أو المراهقين. ف"المشاهدة" حينذاك - لا أذكر متى - كانت جماعية دوماً وفي منزل من منازل الحيّ. وكنّا نشاهد الشاشة الصغيرة من خلال عيوننا جميعاً وكنا نفتحها جيداً كي لا تفوتنا لحظة مما نشاهده. وكانت تلك "الأمور" التي نشاهدها في الليل مدار حديثنا في النهار. أذكر أن الشاشة الصغيرة كان لها ضوء خاص، ضوء فضّي ما برح يلتمع في ذاكرة عينيّ. وكانت للضوء ذاك رهبة فريدة فيها الكثير من السحر والجمال. ولم يكن يزيد من تلك الفتنة سوى العتمة الخفيفة التي كانت تلفّنا حين نشاهد التلفزيون. إذ كان يُطفأ الضوء - كما لو كنّا في صالة السينما - كي تحتل الشاشة فضاء الغرفة وتنيرها بما نسميه اليوم "الأسود والأبيض". وغالباً ما كانت تتمّ المشاهدة في جوّ شبه طقسي يحفّ به الصمت والأصغاء. أذكر أننا أدركنا حينذاك وبالفطرة، ما سمّاه لاحقاً رولان بارت أو أمبرتو إيكو "ميثولوجية" المرئي والمسموع من غير أن نفقه معناه أو أبعاده الحديثة. فالتلفزيون كان حدثاً "ميثولوجياً" في طفولتنا. وكنّا في أحيان ننتظر حلول المساء متحرّقين الى مشاهدة "برنامج" نتابعه بشوق اسبوعاً تلو اسبوع. كانت اللحظات الاولى أو لحظات البداية، من أجمل ما يمكن أن نحياه كأطفال لا يملكون من الاحلام الا القليل. وكانت لحظات النهاية لا تخلو من الألم إذ كان لا بدّ من انتظار اسبوع لتطلّ علينا الوجوه نفسها وتتوالى "الحكاية".كان يصعب علينا أن نتصوّر عائلة "سعيدة" من دون تلفزيون. وكانت تلك الشاشة "الصغيرة" جزءاً من العائلة بل من البيت. وكم كان يتحسّر الذين لم يكونوا قادرين على شراء التلفزيون. كانوا يشعرون ان حياتهم ناقصة وان لياليهم يلزمها شيء من الدفء، شيء من الفرح! وفي فترات الحداد حين "يرحل" الأب مثلاً كان التلفزيون يغطّى وكانت تسدل ستارة على عيون الاطفال تحول دون مشاهدتهم ما يدور على الشاشة الصغيرة. في الحداد كان لا بدّ من ان يُطفأ التلفزيون ليس لأيام بل لشهور وفي أحيان لعام أو عامين. فالتلفزيون كان يعني حينذاك الفرح، الفرح فقط. وأذكر ان أهل الحيّ كانوا يطفئون شاشاتهم الصغيرة طوال ثلاثة أيام حين يفقد الحيّ أحد "ابنائه". وكان بعضهم خلال الحداد يغلق النوافذ جيداً ليشاهدوا برنامجاً يصعب عليهم ألا يتابعوه. كانت الشاشة الصغيرة حدثاً في حياتنا. لم تكن فقط وسيلة من وسائل التسلية كما هي اليوم بل كانت طريقة حياة، كانت نافذة نطلّ منها على العالم مثلما نطلّ على الحلم. وكانت الشاشة تمنحنا بعضاً من الطمأنينة التي نحتاج اليها. كانت تقول لنا إن العالم قريب على عكس ما نظنّه، وأن الحياة جميلة وليست موحشة وأن الأيام المقبلة ستكون أجمل من تلك التي مضت. وكنّا نصدّق الشاشة الصغيرة ببراءة كلية إذ كانت تضفي على حياتنا فتنة نادرة، هي فتنة "الأسود والأبيض"، بل فتنة العتمة المخيفة التي كنّا نجلس وسطها لنشاهد ما يُفرض علينا وكان كلّه جميلاً. لا أدري لماذا يرتبط التلفزيون في ذاكرتي بما يمكن ان أسمّيه جمالية "الأسود والأبيض". وحين غزت الألوان شاشته راح يفقد سحره شيئاً فشيئاً. أصبحت صورته تشبه ما نبصره كلّ يوم أمامنا. ولكن لا بدّ من الاعتراف ان الألوان كانت صدمة في المرحلة الأولى لكننا سرعان ما تآخينا معها. أما الشاشة الفضّية فكانت عصيّة على هذا التآخي. كانت قادرة أكثر على نقلنا الى "عالمها" الآخر، بل كانت قادرة أكثر على أن توهمنا أن الصورة السوداء والبيضاء أجمل مما نراه من حولنا. وأن الاحداث على الشاشة الفضية حقيقية أكثر من تلك التي تحصل في الواقع. كانت الشاشة حينذاك تعلّمنا وكنا نحن نشاهد ونصغي برهبة كما لو كنّا في الصف، أمام اللوح. وكنّا نصدّق كل ما نراه ونسمعه تماماً مثلما كنّا نصدّق ما يعلّموننا إياه. كنّا نصغي الى التلفزيون ولم نكن نشاهده فقط. أجل، لو سئلت عن أفضل اختراع شهده القرن الذي انصرم قبل أيام لقلت: التلفزيون. ولكنْ التلفزيون في شاشته الفضية، التلفزيون الأسود والأبيض.